أعلنت كل من إيرلندا والنرويج واسبانيا اعترافها بالدولة الفلسطينية. وكشفت مصادر رئاسية فلسطينية إنّ دولًا منها مالطا وسلوفينيا ستلتحق هي الأخرى بالدول الثلاث.
هذه الدول، لم تعترف بفلسطين بفضل رئيس سلطتها محمود عباس، أو لأنّ السلطة الفلسطينية امتلكت مقوّمات الدولة. فلا الحدود موجودة، ولا وحدة الأراضي قائمة. اعتراف هذه الدول بفلسطين جاء بفضل تضحيات أهل غزة والمقاومين، ولم يكن بسبب حنكة عباس أو دهائه السياسي.
ما فعله 7 أكتوبر المجيد، هو إعادة القضية الفلسطينية إلى الواجهة، والى جدول أعمال الكوكب، بعدما كانت أبرز قضية على وجه الأرض (قضية فلسطين) قد نُحيّت جانبًا. ما فعلته المقاومة في صباح ذلك اليوم، شبيه بما فعلته «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» في سبعينات القرن الماضي من عمليات خطف الطائرات، التي هدفت إلى الإضاءة على القضية الفلسطينية.
حكومات العالم وشعوبها بالمطلق لم تتحرك طوال السنوات الماضية تجاه الفلسطينيين، ولم يتمّ الاستماع إلى احتياجاتهم. طالبوا بوقف تهجيرهم من الضفة والقدس، وفك الحصار عن غزة، ووقف تهويد بلداتهم وقدس أقداسهم المسجد الأقصى. إلا أنّ المجتمع الدولي كان منشغلًا عنهم. فلما تحركوا وقرّروا قلب الطاولة، صامدين أمام المجازر الصهيونية بحقّهم، استيقظت شعوب العالم واكتشفت وجود مليونين ونصف مليون بشري محاصر في غزة، وأنّ المستوطنين يسرقون الأراضي في الضفة، وقوات الاحتلال الإسرائيلي تملأ المعتقلات بالأسرى من أجل فتح باب الابتزاز والمساومة.
ما فعلته المقاومة وما جرى منذ السابع من أكتوبر وحتى تاريخه، أسمع جزءاً من سكان هذا الكوكب الرواية الفلسطينية بلسان مقاوم، وليس بلسان السلطة الفلسطينية المتباكي رئيسها أمام الأمم المتحدة والمُطالب بالحماية (يوم ألقى في 16 مايو عام 2023 خطابًا جاء فيه: «احمونا. اعتبرونا حيوانات واحمونا»). شاهد العالم «على الهواء مباشرة» ما ترتكبه «إسرائيل» من جرائم في غزة، وكيف تُعامِل الشعب الفلسطيني كـ«حيوان بشري»، لتؤكّد بأفعالها على مرأى من العالم ما كان ينده به الفلسطينيون والمقاومة قبل طوفان الأقصى.
اعتراف الدول الثلاث بفلسطين كدولة حصل بفضل مظلومية أهل غزة، ومقاومتهم، وصمود أهل الضفة ومقاومتها. لكن، ورغم احتفال الفصائل الفلسطينية بهذه الخطوة كلّ لأسبابه وتوجّهاته السياسية، فإننا لا نرى في الأمر ما يدعو للاحتفال. فالاعتراف بدولة فلسطينية يقابله بطبيعة الحال الاعتراف بدولة أخرى إسرائيلية. فيما نحن نؤمن بدولة واحدة عربية من البحر إلى النهر. وهذا الأمر سيتحقّق عاجلًا أم آجلًا. فـ«إسرائيل»، ومعها أذنابها في السلطة الفلسطينية، لن يستطيعوا تجاوز «لعنة العقد الثامن». حتى بعيدًا عن النبوءات، الوضع والمؤشرات الجيوسياسية لا تُبشّر كيان الاحتلال بالسلامة.
لماذا نقول هذا؟
على مدى 30 عامًا، فاوضت السلطة الفلسطينية لأجل الاعتراف بدولة فلسطينية. في تلك السنوات، قدّمت السلطة فروض الطاعة للمجتمع الدولي وللحكومات الأمريكية والإسرائيلية المتعاقبة، لتظهر كما لو أنّها «سلطة» حقيقية تملك مقوّمات الدولة. اعتقلت خلال تلك الفترة العديد من المقاومين، وتواطأت ونسّقت أمنّيًا مع أجهزة أمن العدو لإحباط أيّ عمل مقاوم، كلّ ذلك لأجل الاعتراف بالدولة الفلسطينية. على مدى 30 عامًا من المفاوضات، ارتضت السلطة الفلسطينية التوسّع الاستيطاني في الضفة الغربية المحتلة، المفترض أنها أراضي الدولة الفلسطينية الموعودة، مُتأمّلة أن يخرج المستوطنون منها يوم الإعلان عن الدولة. لكنّ الاستيطان توسّع وعدد المستوطنين ازداد وحدود الدولة المفترضة تقلّصت.
الخيار الذي اتّخذته السلطة الفلسطينية بعد توقيع اتفاقية أوسلو في العام 1993، كان مهادنة العدو لاقتناعها أنّه من الممكن التوصّل إلى اتفاق سلام معه، في انتظار الحل النهائي وإعلان الدولة الذي كان مخطّطًا له، بحسب أوسلو، في العام 1999. مرّت السنين وتوالت مؤتمرات السلام وقُتل «الشريك» اسحاق رابين على يد اليمين اليهودي المتطرف. ارتفعت شعبية اليمين المتطرّف ووصل إلى السلطة مُتمثّلًا عبر «الليكود» وأصبح «المجتمع» الإسرائيلي أكثر ميلًا لإظهار التطرّف. عودة «حزب العمل» إلى الحكم لم يكن نزهة، مع قرار رئيسَي المعارضة حينذاك آرييل شارون وبنيامين نتنياهو تحويل ولايته إلى جحيم. أمام هذا الواقع، وصلت القيادة الفلسطينية إلى قناعة أن الدولة لن تُعلن إلا عبر فوهة البندقية، خاصة بعد فشل قمة كامب ديفيد في العام 2000. عاد ياسر عرفات إلى خيار الانتفاضة. وعلى مدى خمس سنوات من المقاومة وتقديم الشهداء، استطاعت الانتفاضة الثانية فرض «فك الارتباط» على أشهر جنرالات كيان الاحتلال، ارييل شارون، فانسحب من غزة ومن شمال الضفة الغربية، وفكّك المستوطنات فيهما.
من يُقال عنهم مثقّفي السلطة الفلسطينية والمقتاتين على فتاتها، يقولون إنّ الانتفاضة دمّرت الاقتصاد الفلسطيني، وكأنّه يُمكن الحديث عن اقتصاد تحت الاحتلال أو أنّ اقتصاد رام الله كان مُتطورًا كالاقتصاد الماليزي مثلًا. ادّعوا أنّ للانتفاضة تداعيات سلبية كبيرة على المجتمع الفلسطيني، وكأن المجتمع حينذاك كان يعيش في سويسرا وفجأة رأى البندقية واكتشف أنّه تحت الاحتلال. روّج هؤلاء لأخبار كاذبة للايحاء بأنّ الانتفاضة أبعدتنا عن حلم تأسيس الدولة، وأنها دمّرت أهمّ ركائزها، الاقتصاد. إلّا أنّ هؤلاء لا يلتفتون إلى كون الانتفاضة الثانية تمكّنت من تحرير غزة وشمال الضفة (جزئيًا)، وهي التي ساعدت المقاومة في غزة على مراكمة قوّتها وخبرتها لتصل إلى ما وصلت إليه اليوم.
بعد العام 2005، أتى رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس إلى الحكم. قرّر محو كلّ إرث عرفات. فإذا كان أبو عمار قد رفع غصن الزيتون بيد والبندقية بيد أخرى، فإنّ عباس لم يكتف بإسقاط البندقية وحمل غصن الزيتون فحسب، بل قطع اليد التي حملت البندقية. كلّ ذلك لإشهار خضوعه لاملاءات أمريكا وجنرالها الذي أدار السلطة بعد الانتفاضة، كيث دايتون.
ربما لأجل الحصول على دولة، يفعل المرء أشياء كثيرة. فإذا كان نتنياهو يريد أن يُذكر بالرجل الذي جاوز كيان الاحتلال «لعنة العقد الثامن»، فإنّ عبّاس يريد أن يرتبط إرثه بمؤسّس الدولة الفلسطينية الحديثة. لكن، أثبتت التجربة أنّ تحرير البلدان لا يتم بالتفاوض إنما عبر البندقية والتضحيات، وكل ما فعلته سلطة أوسلو في الضفة الغربية المحتلة هو مضيعة للوقت، إذ في 8 أشهر حقّقت المقاومة ما لم تستطع السلطة الفلسطينية تحقيقه في 30 عامًا.