بعد أن سطت العصابات الصهيونية على فلسطين، أعلن بن غوريون، زعيم المنظمات الصهيونية، آنذاك، «وثيقة الاستقلال»، أو إعلان قيام «دولة إسرائيل» في فلسطين، الذي جاء فيه:
«نشأ الشعب اليهودي في أرض إسرائيل، وفيها اكتملت صورته الروحانية والدينية والسياسية، وفيها عاش حياة مستقلة في دولة ذات سيادة، وفيها أنتج ثرواته الثقافية والقومية والإنسانية وأورث العالم أجمع كتاب الكتب الخالد. وعندما أجْلِيَ الشعب اليهودي عن بلاده بالقوة، حافظ على عهده لها وهو في بلاد مهاجره بأسره ولم ينقطع عن الصلاة والتعلق بأمل العودة إلى بلاده واستئناف حريته السياسية فيها.
وبدافع هذه الصلة التاريخية التقليدية أقدم اليهود في كل عصر على العودة إلى وطنهم القديم والاستيطان فيه، وفي العصور الأخيرة أخذوا يعودون إلى بلادهم بآلاف مؤلفة من طلائع ولاجئين ومدافعين، فأحيوا القفار وبعثوا لغتهم العبرية وشيدوا القرى والمدن وأقاموا مجتمعًا آخذًا في النمو وهو يشيد اقتصاده ومَرَافقه وثقافته وينشد السلام مدافعًا عن ذماره ويزف بركة التقدّم إلى جميع سكان البلاد متطلّعًا إلى الاستقلال القومي.
وفي عام 5657 حسب التقويم العبري الموافق عام 1897 ميلاديًا انعقد المؤتمر الصهيوني تلبية لنداء صاحب فكرة الدولة اليهودية المرحوم ثيودور هرتسل وأعلن حق اليهود في النهضة الوطنية في بلادهم. وقد اعترف بهذا الحق في وعد بلفور في اليوم الثاني من شهر تشرين الثاني عام 1917. وتمت المصادقة على هذا الحق في صك الانتداب الصادر عن عصبة الأمم والذي أكسب بصفة خاصة مفعولية دولية للصلة التاريخية التـي تربط الشعب اليهودي بأرض إسرائيل ولما يستحقه الشعب اليهودي في إعادة تشييد وطنه القومي»([1]).
هكذا أرجعت العصابات الصهيونية مطالبتها التاريخية والطبيعية إلى العصور التوراتية. فقد أشار إعلان الاستقلال لما يسمى بدولة إسرائيل الحديثة الذي أصدره مجلس الأمة المؤقت في تل أبيب، في 14/5/1948، إلى «إعادة إنشاء الدولة اليهودية»(re-establishment of the Jewish state)، وما هذا التعبير «إلا صياغة لوعد بلفور الذي أعلن قبل واحد وثلاثين عامًا من إنشاء الدولة، ذلك الوعد الذي تحدّث عن «إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين». فالدولة اليهودية لم تعد مجرّد وطن قومى، وذلك على أساس السابقة التاريخية. وعلى هذا الأساس، فإنّ دولة إسرائيل المعاصرة ما هي إلا «إعادة بناء» (re-establishment) لما كان موجودًا ذات يوم» ([2]).
يتضح، إذن، أن الحركة الصهيونية اعتبرت توفير المناخ الملائم للعمل في مجال التاريخ والتنقيب عن الآثار بالغ الأهمية، لا يقل أهمية عـن توفير المناخ السياسي والإداري والاقتصادي لإنشاء الوطن القومي اليهودي. بل إن إشارة وعد بلفور ذاته إلى «الرابط التاريخي» بين اليهود المشتتيين في العالم و»أرض آبائهم» كما سمّوها، كان أكبر نصر في مطلع القرن العشرين للصهيونية ولزعيمها حاييم وايزمن، الذي أصرّ أن يتضمّن وعد بلفور مثل هذه الإشارة، إيمانًا منه بأن التركيز على الجانب »التاريخي» هو شرط أساسي لنجاح المشروع الصهيوني، ولضمان «عـودة» اليهود إلى «أرض أجدادهم»، فكثيرًا ما كان وايزمن يردّد: «نحن لسنا بقادمين ولكننا عائدون«.(We are not Coming, but returning) ([3])
شملت وثيقة الاستقلال خرافتين، تبدوان في الخطاب الصهيوني والغربي السائد كحقائق غير قابلة للدحض، حيث تبنتها الماكينة الإعلامية، ودعمتها المؤسسة العسكرية، وردّدتها النخب السياسية والأكاديمية على نحو مضلل، لتشكّل الأساس الذي يستند إليه تأسيس «دولة إسرائيل».
الخرافة الأولى: أرض إسرائيل والشعب اليهودي
صلة الشعب اليهودي بـ«أرض إسرائيل» كونها أرض الآباء والأجداد، فقد جاء في الوثيقة: «نشأ الشعب اليهودي في أرض إسرائيل، وفيها اكتملت صورته الروحانية والدينية والسياسية».
ثمّة حقيقة مهمّة تكمُن في أنّ قرنًا من البحوث الأثريّة المكثَّفة؛ والذي لم يترك شبرًا أو حجرًا من أرض فلسطين دون قلبها، لم يعثر على أثر واحد يربط «أسفار التناخ» (أكثر أسماء الكتاب المقدس العبري شيوعًا) بها، وأي ادعاء بغير ذلك غير صحيح على الإطلاق وتزوير للحقائق. ولم يتمكن علماء الآثار من تقديم البُرهان على أن أرض فلسطين أُطلِق عليها يومًا ما، مصطلح «أرض إسرائيل»، كحيِّز إقليميّ خاضع لسيطرةِ «الشعب اليهودي»، ولم يظهر مصطلح «أرض إسرائيل» بمفهومه العام في «أسفارالتناخ» أيضًا.
أولاً: تقويض أسطورة «أرض إسرائيل»
يقوض المؤرخ والبروفيسور في جامعة تل أبيب، شلومو ساند، أسطورة كون «أرض إسرائيل» الوطن التاريخي لـ«الشعب اليهودي»، ويثبت أن الحركة الصهيونية هي التي سرقت مصطلح «أرض إسرائيل»، وهو ديني في جوهره حولته إلى مصطلح جيو-سياسي، وبموجبه جعلت تلك «الأرض» وطنًا لليهود، وذلك منذ نهاية القرن التاسع وبداية القرن العشرين.
ويلفت، من ضمن أمور أخرى، إلى أن أتباع الحركة البيوريتانية ــ وهي الحركة «التطهّرية» التي انبثقت عن البروتستانتية (*) في بريطانيا ــ وخلال القرن السادس والسابع عشر، كانوا أول من قرأ «التناخ» على أنه كتاب تاريخي، ونظرًا إلى كون هؤلاء متعطشين إلى الخلاص فقد ربطوا بين حركتهم ونهضة «شعب إسرائيل» في «أرضه». ويشدّد على أن هذه الرابطة لم تنشأ نتيجة قلقهم على اليهود الذين كانوا يعانون الأمرّين، وإنما أساسًا بدافع الرؤيا القائلة إنه قط بعد عودة «بني إسرائيل» إلى صهيون سيحلّ الخلاص المسيحي على البشرية جمعاء، وفي إطار صفقة الرزمة طويلة الأمد هذه من المفترض أن يتنصّر اليهود، وعندها سيحظى العالم برؤية عودة المسيح المتجددة. ويؤكد ساند في ضوء ذلك أن هؤلاء الذين يُطلق عليهم اسم «الصهاينة الجدد» لا اليهود، هم الذين اخترعوا «أرض إسرائيل» كمصطلح جيو-سياسي معاصر.
وفيما يتعلّق بنشوء مصطلح «أرض إسرائيل» يقول ساند إنّ اسم البلاد في «التناخ» كان «كنعان»، وفي فترة «الهيكل الثاني» كان المصطلح الشامل هو «أرض يهودا». ومصطلح «أرض إسرائيل» يظهر في المشناه، لكنه ليس مطابقًا لبلاد الوعد الإلهي الذي مُنح إلى إيراهيم. و«أرض إسرائيل» كاسم ورقعة تظهر في التلمود بصيغ يعدّدها في الكتاب، وفي تقديره فإنّ المصطلح ظهر بعد أن غيّر الرومان اسم «يهودا» إلى «سورية ــ بلسطينا»، وعندما بدأوا في التشديد على مصطلح «أرض إسرائيل». لكن وفقًا للتلمود فإن هذه منطقة تمتد جغرافيًا من جنوب عكا إلى شمال عسقلان، ويظهر المصطلح كفريضة؛ أي أن «أرض إسرائيل» التلمودية ليست مصطلحًا جيو-سياسيًا، وإنما هي مصطلح ثيوقراطي يتطرّق إلى «أرض مقدسة» تسري على سكانها فرائض خاصة مرتبطة بالبلاد. ويلفت إلى أن قلائل فقط مستعدون لأن يقرّوا بأن «أرض إسرائيل» في أسفار التناخ لم تشمل القدس والخليل وبيت لحم، وأن «التناخ» استخدم «أرض كنعان».
ولدى بحث ساند في أدبيات المكابين ومخطوطات فيلون الإسكندراني وكتب المؤرخ اليهودي يوسفيوس فيلافيوس التي تجعل معظم «الهيكل الثاني»، لم يتعثّر بأي ذكر لمصطلح «أرض إسرائيل» ولو مرة واحدة ([4]).
ثانيًا: اختراع الشعب اليهودي
قامت عملية اختراع الشعب اليهودي على ركنين أساسيين، وهما فكرة الشتات اليهودي وبأن اليهودية بقيت محصورة في العرق الذي اعتنقه في البداية. الدلالة الرئيسية المتوخاة لهذا الادعاء هي أن الشتات الذي رحل إلى مناطق مختلفة من العالم وكًتب له البقاء يعود من ناحية جذوره العرقية والقومية إلى القبائل اليهودية الأصلية التي كانت في فلسطين وطردت منها، وأنه لم تدخل اليهودية أجناس وقوميات أخرى أثرت في نقاء العرق اليهودي. وقد جرى تفنيد هذا الإدعاء من البروفيسور (الإسرائيلي) شلومو ساند، في كتابه »اختراع الشعب اليهودي«، من خلال نفي ما يسمّى بالشتات اليهودي الذي تقف وراءه فكرة طرد الرومان لليهود سنة 70 للميلاد بعد تدمير الهيكل، بقوله: »فإننا لن نجد في التوثيق الروماني الغني ولو إشارة واحدة إلى حدوث أيه عملية نفي من أرض يهودا«([5]). بما »أن اليهود لم ينفوا بالقوة من يهودا بعد خراب الهيكل، فإنهم لم يبذلوا أي جهد للعودة إليها«([6]). ويدحض ساند الادعاء بأن الدين اليهودي لم يكن دينًا تبشريًا بل بقي محصورًا في العرق الذي اعتنقه منذ بداياته، بالقول: »يرجع سبب انتشار واتساع رقعة الديانة اليهودية إذن، من وجهة نظره [أوريئيل راببوت]، إلى حركة التهوُّد الواسعة. وبطبيعة الحال فإنّ حركة الالتحاق هذه لم تُقابَل بلا مبالاة يهودية وإنما أُديرت بمساعدة سياسة تهويد ودعاية دينية نشطة أخذت تحرز نجاحات حاسمة مع انهيار العالم الوثني. وبذلك انضم راببورت إلى تقاليد هستوريوغرافية (غير يهودية) متعددة الفروع، ضمت كبار الباحثين في العصر القديم ــ من آرنست رينان وحتى يوليوس ولهاوزن، ومن أدوارد مايير وحتى أميل شايرر ــ والتي أكدت، وفقاً للهجة الحادة التي استخدمتها تيودور مومزن، على أن «اليهودية في العصر القديم لم تكن بتاتاً منغلقة أومنعزلة، على العكس فقد يملؤها الحماس للتهويد بدرجة لا تقل عن المسيحية والإسلام من بعدها»([7]).
ثمّة حقيقة مهمّة تكمُن في أنّ قرنًا من البحوث الأثريّة المكثَّفة؛ والذي لم يترك شبرًا أو حجرًا من أرض فلسطين دون قلبها، لم يعثر على أثر واحد يربط «أسفار التناخ» (أكثر أسماء الكتاب المقدس العبري شيوعًا) بها
تصدّى جمال حمدان في دراسته القيّمة «اليهود أنثربولوجيًا»؛ لنظرية «النقاء العرقي»، و«النقاوة الجنسية»، وتوصّل إلى أن «اليهود الحاليين ليسوا من بني إسرائيل؛ فيهود العالم اليوم مختلطون في جملتهم اختلاطًا يبعدهم عن أيّ أصول إسرائيلية فلسطينية قديمة، ولا يوجد رابط أنثربولوجي بين الجهتين، والرابط الوحيد هو رابط الدين»([8]).
فجّر آرثر كوستلر، في العام 1976، قنبلته الأدبية التي حملت العنوان «القبيلة الثالثة عشرة»، التي ترجمت إلى لغات عديدة وأثارت موجة من ردود الفعل المتباينة. أوضح فيها أثر الخزر في تكوين اليهود المعاصرين، وخلاصة ما ينتهي إليه أن «غالبية اليهود العصريين ليسوا من أصل فلسطيني بل من أصل قوقازي. فإن التيار الأساسى للهجرات اليهودية لم يتدفق من البحر المتوسط عبر فرنسا وألمانيا إلى الشرق ثم العودة مرة أخرى، بل اتجه التيار على نحو ثابت إلى الغرب من القوقاز غبر أوكرانيا إلى بولنده ومن هناك إلى أواسط أوروبا ــ وعندما نشأت في بولنده تلك المستوطنات الجماعية التى لم يسبق لها مثيل، لم يكن هناك في الغرب أعداد من اليهود تكفى لتفسير هذه الظاهرة، على حين كان هناك في الشرق أمة بأسرها تتحرك نحو حدود جديدة. وبطبيعة الحال سوف يكون من الحماقة أن ننكر أن يهودًا من أصل مختلف أيضًا في المجتمع اليهودي الكائن في عالم اليوم، ومن المستحيل أن نحدد النسبة العددية لمساهمة الخزر إلى مساهمات الساميين وغيرهم، ولكن ما تجمع من البراهين يجعل المرء ميالا إلى الاتفاق مع إجماع المؤرخين البولنديين على أنه (في الأزمنة المبكرة نشأت الكتلة الأساسية من اليهود أصلًا من بلاد الخزر) ومن ثم تكون مساهمة الخزر في التركيب الوراثي لليهود مساهمة جوهرية بل ومهيمنة في كل الاحتمالات»([9]).
إننا ينبغى أن نلفت الانتباه إلى أن هناك علاقة حتمية بين الدراسة الأنثروبولوجية وبين الجانب السياسي، فقد سخّرت الحركة الصهيونية الأبحاث الأنثروبولوجية ورتّبت نتائجها مسبقًا بحيث تخدم دعاواهم الاستعمارية في فلسطين.
الخرافة الثانية: إنشاء دولة-المطالبة بالماضي
لا يعدو تصوّر تاريخ إسرائيل الـقـديم كما ورد في القسم الأكبر من التوراة العبرية أن يكون قصة خيالية، وهو بمنزلة اختلاق للتاريـخ شأنه شأن معظم رؤى الماضي التي كونتها المجتمعات القديمة بل والحـديثة أيضًا. وينطبق القول المأثور بأن أي إعادة بناء للماضي يحدّدها الحاضر، على تصورات الماضي التي انحدرت إلينا من العصور القديمة مثلما ينطبق على ما دونه مؤرخو التاريخ الحديث والمعاصر.
بالرجوع إلى المقاطع الافتتاحية من إعلان الاستقلال «الإسرائيلي» والتي جاء نصها كما يلي: «…وفيها عاش [الشعب اليهودي] حياة مستقلة في دولة ذات سيادة (…) للصلة التاريخية التـي تربط الشعب اليهودي بأرض إسرائيل ولما يستحقه الشعب اليهودي في إعادة تشييد وطنه القومي». يبرر الحق في امتلاك الأرض على أساس السابقة التاريخيـة (historic precedent) بوجود دولة «إسرائيلية» مستقلة وذات سيادة في المنطقة. وتحديد موقعها في الفترة الانتقالية الواقعة بين أواخر العصر البرونزي، وأوائل العصر الحديدي، والمقصود هنا «المملكة الداودية ــ السليمانية». فجهود الباحثين التوراتيين في البحث عن «المملكة الداودية ــ السليمانية» ليست ذات أهمية تاريخية وأثرية فقط، إذا ما أخذنا في الاعتبار أن “دولة إسرائيل” الحديثة ترجع مطالبتها التاريخية والطبيعية إلى دولة العصر الحديدي تلك.
قامت عملية اختراع الشعب اليهودي على ركنين أساسيين، وهما فكرة الشتات اليهودي وبأن اليهودية بقيت محصورة في العرق الذي اعتنقه في البداية وقد جرى تفنيد هذا الإدعاء من البروفيسور (الإسرائيلي) شلومو ساند، في كتابه »اختراع الشعب اليهودي»
من القضايا المهمة التي تشير إلى مغالطات المؤرخين وتبنيهم وجهة نظر التوراة، وأحيانًا كثيرة المغالاة فيها موضوع و«المملكة الداودية ـ السليمانية»، فمعظم الذين كتبوا في هذا الموضوع من الباحثين التوراتيين، أشاروا إلى أن هذه المملكة، التي عادة ما تُرْبَطُ بالفترة الممتدة من 960 ـ 930 ق.م، كانت أعظم إمبراطوريات المشرق العربي، وأن حدودها امتدت لتغطي كل بلاد الشام، ولم تقتصر على فلسطين فحسب. وبالرغم من أن التوراة لا تكل عن مديح عصر داود وسليمان واعتباره العصر الذهبي الإسرائيلي، والإشادة بما يقال عن إنجازات عصرهما الثقافية والعمرانية والإدارية، فمن الطبيعي أن نتوقع العثور على أثر واحد على الأقل يعود إلى تلك المرحلة عمرانيًا كان أم وثيقيًا أو نقشًا، أو ما إلى ذلك، لكن الحقيقة، حتى هذه اللحظة، لم يتمكن الآثاريون من العثور على أي دليل يشير، صراحة أو كناية، إلى «المملكة الداودية ــ السليمانية» في فلسطين.
إنّ مصدرنا الوحيد عن أعمال داود وسليمان وعن دورهما السياسي والعمراني هو التوراة، والتوراة وحدها، إذ لم يعثر المنقبون على أي أثر من هذا الدور. فلا توجد مصادر تاريخية تدعم السجل التوراتي، كما لا تسهم المخلفات الأثرية في إيضاح ذلك. لا شك في أن للباحث أن يطرح تساؤلات في حالة انعدام الوثائق والبيانات، فالمملكة الداودية ـ السليمانية المزعومة التي تأسست مع نهاية الألف الثاني قبل الميلاد في فلسطين، كما يزعم بعض الباحثين، لا بد أن تكون قد سبقتها مدة طويلة وأن يكون تأسيسها قد تمخض عن صراع محتدم بين دويلات المدن آنذاك، فأين هي مقدمات تأسيس «المملكة الداودية ــ السليمانية»؟!
إذا كان علماء الآثار يبحثون عن أرشيف تاريخي للمرحلة السابقة لممالك داود وسليمان، فإنهم لم يعثروا على ذلك في فلسطين، علما بأن الدول المجاورة قد قدمت أرشيفًا تاريخيًا للمرحلة نفسها.
يعلن أمنون بن ثور، عالم الآثار في الجامعة العبرية، أنّ المسألة تشبه نقطة زيت تسقط فجأة قد تجدها في كل مكان إلا هنا([10]).
ففي السنوات الأخيرة، بدأ الإجماع على فكرة وجود «المملكة الداودية ــ السليمانية» يتداعى تدريجيًا، وإن كانت هذه الفكرة لا تزال تهيمن على خطاب الدراسات التوراتية. فقد أصدر ليتش نقدًا معتدلًا في حدته للاستخدام التاريخي للقصص التوراتية من منظور (أنثروبولوجي) بنيوي. والموضوع السائد في كتابه هو أن الكتاب العبري بوصفه نصًا مقدسًا لا يوفر مصدرًا تاريخيًا ولا يعكس بالضرورة حقيقة عن الماضي. إنه يمثّل عند “ليتش” تبريرًا للماضي يكشف عن عالم القصّاصين أكثر مما يكشف عن أية حقيقة تاريخية. ويطرح أسئلة مهمة جدًا تثير شكوكًا حول التقديمات السائدة لحكمي داود وسليمان، وتُسائل تاريخيّة هذه المرحلة الهامة كما قُدمت في الموروثات الكتابية – أنا شخصيًا أرى ذلك غير قابل للتصديق. ليس هناك أي دليل أثري على وجود هذين البطلين أو على وقوع أي من الأحداث التي ارتبطت بهما. ولولا قداسة هذه القصص لكان وجودهما التاريخي مرفوضًا بالتأكيد([11]).
إنّ السمة الأكثر إدهاشًا في الخطاب [الكتابي] هي الصمت المطبق للسجل الآثاري حول ما يتعلّق باللحظة التعريفية [فترة سليمان وداود] في تاريخ المنطقة. إنه الصمت الذي ساهم بشكل أساسي ضمن مشروع، وتحديدًا بسبب أنه أكد تحامل المؤرخين الكتابيين الذين قرروا أن كتابه التاريخ تعتمد على المصادر المكتوبة، كما صرح غاريبيي وليتش وفلاناغان، أن صمت السجل الآثاري هو الذي يطرح أكثر الأسئلة جدية حول تقديم إمبراطورية إسرائيلية بوصفها تعبيرًا عن ثقافة حضارة نهضوية ويوحي بأننا نتعامل مع ماضٍ مخترع([12]).
يشير مِلَّر، إلى أنه ليس هناك دليل على المملكة الداودية ـ السليمانية خارج التقاليد والموروثات الكتابية، المؤرخون الذين يتحدثون عن هذا الكيان إنما يفترضون مسبقًا صحة المعلومات التي يأخذونها من الكتاب العبري([13]).
أمّا عالم الآثار، وأستاذ قسم الآثار وحضارة الشرق القديم في جامعة تل أبيب، البروفيسور زئيف هيرزوغ، فيقول: «لقد جرت أعمال تنقيب في مناطق واسعة من المدينة [القدس] على امتداد المائة والخمسين سنة الماضية، وقد أظهرت هذه التنقيبات بقايا مهمة من المدن التي تعود إلى عصر البرونز الوسيط وعصر الحديد الثاني، إلا أنه لم تكتشف أي آثار لبناء يعود إلى فترة المملكة المتحدة باستثناء شظايا فخارية قليلة.. ومن الواضح أن أورشليم في زمن داود وسليمان لم تكن إلا مدينة صغيرة، وربما قلعة صغيرة لملك، وفي كل الأحوال لم تكن قط عاصمة لإمبراطورية كما يصفها “الكتاب”… وهكذا فإن المملكة المتحدة العظيمة ليست إلا اختلاق حذلقة تاريخية»([14]).
شكّك عالم الآثار يسرائيل فنكلشتاين، من جامعة تل أبيب، بوجود أي صلة لليهود بالقدس، جاء ذلك خلال تقرير نشرته مجلة «جيروساليم ريبورت» (الإسرائيلية) توضح فيه وجهة نظر فنكلشتاين، الذي أكد أنه لا يوجد أساس أو شاهد إثبات تاريخي على وجود داود، هذا الملك المحارب الذي اتخذ القدس عاصمة له والذي سيأتي “المسيا” من صلبه للإشراف على بناء الهيكل الثالث، مؤكدًا أن شخصية داود كزعيم يحظى بتكريم كبير لأنه وحّد مملكتي يهودا وإسرائيل هو مجرّد وهم وخيال لم يكن لها وجود حقيقي. كما يؤكد فنكلشتاين أن وجود باني الهيكل وهو سليمان بن داود مشكوك فيه أيضًا([15]).
يقوض العلاّمة طمسن في كتابه «الماضي الخرافي (التوراة والتاريخ)»، خرافة وجود «المملكة الداودية ــ السليمانية»، بالقول: «جرى تقديم [القرن العاشر ق.م] بوصفه العصر الذهبي لإسرائيل وعاصمتها في أورشليم. كانت تلك الحقبة مرتبطة بالمملكة المتحدة التي تضم السلطة السياسية لشاول وداود وسليمان وتسيطر على الجسر البري الضخم من النيل إلى الفرات. إضافة إلى مفهومها عن الهيكل الذي بناه سليمان بوصفه مركزًا لعبادة يهوه. تلك الصور لا مكان لها في أوصاف الماضي التاريخي الحقيقي. إننا نعرفها فقط كقصة، وما نعرفه حول هذه القصص لا يشجعنا على معاملتها كما لو أنها تاريخية، أو أنه كان يقصد منها أن تكون كذلك. ولا يتوافر دليل على وجود مملكة متحدة، ولا دليل على وجود عاصمة في أورشليم، أو وجود أي قوة سياسية موحدة متماسكة، هيمنت على فلسطين الغربية، ناهيك عن إمبراطورية بالحجم الذي تصفه الحكايات الأسطورية. ولا يتوافر أي دليل على وجود ملوك يدعون شاول أو داود أو سليمان؛ ولا نملك دليلًا على وجود هيكل في أورشليم في هذه الفترة المبكرة. ما نعرفه عن إسرائيل ويهوذا القرن العاشر لا يسمح لنا بتفسير انعدام الدليل هذا بوصفه فجوة في معرفتنا ومعلوماتنا حول الماضي، أو مجرد نتيجة للطبيعة العرضية للآثاريات. ما من متسع ولا سياق، لا شيء مصطنع أو أرشيف يشير إلى مثل هذه الحقائق التاريخية في القرن العاشر في فلسطين. لا يمكن للمرء أن يتكلم على دولة بلا سكان. ولا يمكنه أن يتكلم عن عاصمة من دون بلدة. والقصص ليست كافية»([16]).
هناك علاقة حتمية بين الدراسة الأنثروبولوجية وبين الجانب السياسي، فقد سخّرت الحركة الصهيونية الأبحاث الأنثروبولوجية ورتّبت نتائجها مسبقًا بحيث تخدم دعاواهم الاستعمارية في فلسطين
إذن، لا يوجد متسع لمملكة متحدة تاريخية أو لملوك كأولئك الذين جرى تقديمهم في القصص الكتابية لشاول وداود وسليمان. إنّ الحقبة المبكرة التي تؤطر فيها التراثات حكاياتها هي عالم خيالي من زمن غابر لم يوجد على هذا النحو أبدًا. لم يكن من الممكن أن توجد مملكة لأي شاول أو لأي داود ليكون ملكًا عليها، ببساطة لأنه لم يكن ثمة ما يكفي من الناس. دولة يهوذا لم تكن فقط غير موجودة بعد، بل إننا لا نملك أي دليل على وجود أي قوة سياسية في أي مكان في فلسطين كانت كبيرة بما يكفي، أو متطورة بما يكفي لأن تكون قادرة على توحيد الاقتصادات والأقاليم العديدة لهذه البلاد. في هذا الوقت كانت فلسطين أقل توحّدًا بكثير مما كانت عليه لأكثر من ألف عام. ويكاد الحديث أن يكون غير ممكن تاريخيًا عن أورشليم القرن العاشر. فلو وجدت إطلاقًا، ولم تعثر سنوات من التنقيب على أي أثر لبلدة من القرن العاشر، لكانت ما تزال تبعد قرونًا عن امتلاك المقدرة على تحدي أي من “العشرينيات” أو أكثر، من بلدات فلسطين القوية المتمتعة بالحكم الذاتي([17]).
يؤكد عالم الآثار فنكلشتاين، والمؤرخ والأثري الأمريكي سلبرمان، أنه «لا وجود لشواهد أركيولوجية مقنعة على وجود مملكة تاريخية موحدة اشتملت على جميع أراضي إسرائيل [فلسطين]، وكانت عاصمتها في أورشليم»([18]).
أخيرًا، لن أملّ من تكرار حقيقة تاريخية مؤكدة، وهي أن علماء الآثار لم يتمكنوا من تقديم البُرهان على أن أرض فلسطين أُطلِق عليها يومًا ما، مصطلح «أرض إسرائيل»، كحيِّز إقليميّ خاضع لسيطرةِ «الشعب اليهودي»، وأنه لا وجود لليهود كـ«أمة وشعب وجنس»، ولا وجود لليهود كـ«هوية قومية أو عرقية» مشتركة كمجتمع إنساني، ولم يتمكّن الأثريون من العثور على دليل يشير صراحة أو كناية إلى «المملكة الداودية ــ السليمانية» في فلسطين.
([1]) وثيقة الاستقلال، إسرائيل الحكومة الموقتة، الجريدة الرسمية :العدد رقم 1 الصادر في تل أبيب في
الخامس من شهر أيار العبري عام 5708حسب التقويم العبري، الموافق 14 أيار 1948 ميلاديا. نُشر على الموقع الرسمي للكنيست الإسرائيلي وثيقة الاستقلال (knesset.gov.il)
([2]) كيث وايتلام، اختلاق إسرائيل القديمة إسكات التاريخ الفلسطيني، ترجمة: د. سحر الهنيدي، الكويت، سلسلة “عالم المعرفة”، 1999، ص 179.
([3]) وايتلام، مرجع سبق ذكره، ص 11.
(*) لمزيد من التفاصيل حول البروتستانتية في العالم، يُراجع (أحمد الدبش، يهودية الدولة: الحنين إلى الأساطير، دمشق، دار صفحات للنشر والتوزيع، 2015).
([4]) د. شلومو ساند، اختراع أرض إسرائيل، ترجمة: أنطوان شلحت وأسعد زعبي، رام الله، المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية ــ مدار، 2013.
([5]) شلومو ساند، اختراع الشعب اليهودي، ترجمة: سعيد عيّاش، ط1،عمان، الأهلية للنشر والتوزيع، 2011،
ص 180.
([6])ساند، اختراع أرض إسرائيل، مرجع سبق ذكره، ص 126.
([7]) ساند، اختراع الشعب اليهودي، مرجع سبق ذكره، ص 205.
([8]) د. جمال حمدان، اليهود أنثربولوجيا،القاهرة، دار المعارف، 1967.
([9]) آرثر كيستلر، القبيلة الثالثة عشر ويهود اليوم، ترجمة: أحمد نجيب هاشم، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب،1991، ص 177.
([10]) فرج الله صالح ديب، كذبة السامية وحقيقة الفينيقية، ط 1،بيروت، دار نوفل،1998، ص 32.
([11]) كيث وايتلام، تلفيق إسرائيل التوراتية طمس التاريخ الفلسطيني، ترجمة: ممدوح عدوان، ط2،دمشق، قدمس للنشر والتوزيع،2002، ص 223.
([12]) وايتلام، تلفيق إسرائيل…، مرجع سبق ذكره، ص 224.
([14]) د. عصام سخنيني، تهافت التأريخ التوراتي، ط1، عمان، الأهلية للنشر والتوزيع، 2018،
ص (155- 156).
([15]) جريدة القدس العربي (لندن)، 15/4/1998. لمزيد من التفاصيل حول «المملكة الداودية السليمانية»
يُراجع: إسرائيل فنكلشتاين و نيل أشر سيلبرمان، التوراة مكشوفة على حقيقتها، ترجمة: سعد رستم، ط1،
دمشق، الأوائل للنشر والتوزيع، 2005، ص (167- 192).
([16]) تومس طمسن، الماضي الخرافي (التوراة والتاريخ)، ترجمة: عدنان حسين، ط2، دمشق، قدمس للنشر والتوزيع،2003، ص (268- 269).
([17]) المرجع نفسه، ص (323- 324).
([18]) د. تومس طمسن ود. سلمى الخضراء الجيوسي، أورشليم العصور القديمة بين التوراة والتاريخ، تحرير:
ترجمة: د. فراس السواح، ط1، بيروت،مركز دراسات الوحدة العربية، 2003. (أنظر الفصل العاشر،
إنغريد هيلم، قتال الأخوة: النزعة الإثنية لدي اليهود والسامريين في التاريخ والروايات التوراتية،
ص 292).