بعد توقيع اتفاقية «كامب ديفيد» في العام 1978، أنشأت «إسرائيل» ما يُعرف باسم «روابط القرى» في الضفة الغربية المحتلة، للالتفاف على منظمة التحرير الفلسطينية وعلى تأثيرها على فلسطينيي الداخل. حينذاك شكّلت «إسرائيل» تلك الروابط من عائلات فلسطينية كبيرة في الضفة الغربية المحتلة، فموّلتها وسلّحتها مقابل إسهام تلك العائلات بحفظ الأمن وقمع أيّ تحرك ضد الاحتلال. أثبتت تلك التجربة فشلها، لكن اليوم وبعد مرور أكثر من أربعين عامًا عليها، يسعى المسؤولون في كيان الاحتلال إلى إحيائها مجددًا وتطبيقها هذه المرة في قطاع غزة، على أن تكون عبارة عن روابط أحياء وأزقة وشوارع تديرها العشائر.
قرّر كيان العدّو إعادة إحياء تجربة فاشلة بعد الضغوط الأمريكية عليها للتفكير باليوم التالي للحرب ووجود حركة حماس. وسعى في الأسابيع الماضية إلى تطبيقها عبر روابط الأحياء في مناطق شمال القطاع.
تواصل المسؤولون الصهاينة مع العشائر لإقناعهم بتأمين استقبال المساعدات التي تدخل إلى شمال القطاع. وتولّى مُنسّق أنشطة الحكومة الإسرائيلية في المناطق (الضفة والقطاع)، غسان عليان، التواصل مع شخصيات من العشائر على خلاف مع حماس لتطبيق هذه الفكرة. وبحسب ما كشفته «هيئة البث الإسرائيلية» فإن الأجهزة الأمنية الإسرائيلية ترى إمكانية «قيام مجموعات مسلحة من السكان المحليين في غزة، وعشائر بتأمين شاحنات المساعدات منعًا لنهبها». واستنادًا إلى القناة، فإنّ «العشائر رفضت الاقتراح الإسرائيلي بشأن تشكيل مجموعات مسلحة لحماية مناطق معينة ومحددة تقع في نطاق جغرافي مُعيّن بحجّة توفير الأمن وضبط الأوضاع، إلا أنّ عشيرة كبيرة وافقت، وأخرى ما زالت المفاوضات معها جارية».
الاعتماد على العشائر في غزة، هو من أبرز البنود التي وضعها رئيس حكومة العدو، بنيامين نتنياهو في الوثيقة التي أسماها «اليوم التالي للحرب على غزة». هدفه تسليم السيطرة المدنية لأفراد وجهات لا يؤيدون «الإرهاب»، على أن يعمل هؤلاء على «القضاء التدريجي على حكم حماس»، بحسب ما كتب ميخائيل ميلشتاين في صحيفة «يديعوت أحرونوت» (6-3-2024). بحسب ميلشتاين، فمن غير الواضح إذا كان «سيتحقق هذا الأمر أصلًا»، معتبرًا أنّ «تنمية عشائر مسلحة كبديل لحماس وللسلطة، من المعقول أن تتحوّل إلى ميليشيات تُشكّل تحدّيًا لإسرائيل، سواء عملت (بالتنسيق) مع حماس أو تنافست مع المنظمة؛ أو تنمية شمال غزة كنموذج ازدهار بخلاف الجنوب المنفلت».
نتنياهو وأمريكا يريدان أولًا تفكيك وكالة «الأونروا»، كوكالة مسؤولة عن تقديم المساعدات للاجئين في غزة، وثانيًا القضاء على سلطة حماس في قطاع غزة. إلا أنّ الخلاف بينهما يتمحور حول من سيدير القطاع في اليوم التالي لوقف إطلاق النار. واشنطن تريد السلطة الفلسطينية بنسختها المُحدّثة، بينما تريد «تل أبيب» تسليم العشائر وقوى محلية مناوئة للمقاومة. الفريقان، أمريكا و«إسرائيل»، لا يأخذان في عين الاعتبار بقاء حماس في القطاع، حتى لو لم تحكم بشكل مباشر، إلا أنها ستبقى مؤثّرة وتدير الحياة في غزة بطريقة غير مباشرة، وهو ما لمسته «إسرائيل» بعد تواصلها مع عدد كبير من العشائر في غزة. إذ كشفت صحيفة «معاريف» (14-3-2024) عن «اتصالات أجرتها إسرائيل مع عشائر غزة؛ من أجل تسليمها شؤون القطاع بدلًا من حماس، لا سيما ملف المساعدات الإنسانية، إلا أن رد العشائر كان الرفض». وورد في الصحيفة أنّ العدّو تواصل مع العشائر عبر الأمم المتحدة، التي اشترطت تولي أية مهمة تتعلق بإدارة غزة، ولا سيما ملف المساعدات، على أن يكون دورها بالتنسيق مع حماس.
حتى الآن، لا تملك «إسرائيل» رؤية واضحة لليوم التالي للحرب سوى الاعتماد على العشائر كسلطة محلية بديلة عن حماس. يريد كيان الاحتلال عصابات تابعة له شبيهة بعصابات أنطوان لحد وسعد حداد العميلة له أثناء احتلاله جنوب لبنان. في هذا الإطار، ذكر الكاتب نداف إيال في «يديعوت أحرونوت» (29-12-2023) أنّه «لم يُعرض على المستوى الإسرائيلي أي طرح بديل حتى الآن، ومن أجل التخلص من سلطة حماس يجب أن يحلّ أحد في مكانها، وهذه الجهة يمكن أن تكون إسرائيل أو السلطة الفلسطينية أو جهات دولية أو محلية»، معتبرًا أنّه «في حال عدم وجود أشخاص آخرين مع أسلحة في قطاع غزة، ليسوا من حماس وبإمكانهم استخدام القوة، فإن حماس ستنتصر».
هذا التخبط الذي يعيشه المستوى السياسي الإسرائيلي جسّده رئيس المعارضة، يائير لابيد الذي نقلت عنه قناة «كان» العبرية (7-3-2024) قوله إنّ «جميع المحاولات لخلق واقع تتولّى فيه عشائر فلسطينية مسلحة إدارة قطاع غزة لن تنجح، معتبرًا أنّ ذلك سيجلب الفوضى».
بدورها، وردًّا على المخططات الإسرائيلية، أصدر «تجمّع القبائل والعشائر والعائلات الفلسطينية في غزة» بيانًا (10-3-2024) رفضوا فيه أن يكونوا «بديلا عن أي نظام سياسي في قطاع غزة». وأكدوا أنّهم «مكوّن من المكوّنات الوطنية وداعمة للمقاومة ولحماية الجبهة الداخلية في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي».
من جهتها، أشادت حماس ببيان العشائر، مُعتبرةً أنّه «موقف وطني مسؤول رفض بِحَسم التجاوُب مع المخططات الخبيثة للاحتلال الصهيوني، والهادفة إلى خلق أجسام تنسيقية شاذّة عن الصف الوطني الفلسطيني»، مؤكدة أن «هذا الموقف الأصيل، لعائلات وعشائر غزة، يُثبت وحدة وتماسك مجتمعنا الفلسطيني خلف خيار المقاومة والوحدة الوطنية، والدور المحوري الوطني الذي تلعبه العائلات والعشائر كصمّام أمان للجبهة الداخلية، وحماية ظهر أبنائهم في المقاومة، الذين يتصدّون للعدوان الوحشي الصهيوني على قطاع غزة».
فرج أو دحلان بديلًا عن العشائر وحماس
بعد عدم تمكن «إسرائيل» من إقناع العشائر في قطاع غزّة بتسلّم الحكم، توجّهت الحكومة الإسرائيلية إلى عملائها القدامى، وعلى رأسهم رئيس جهاز المخابرات العامة الفلسطينية، ماجد فرج والقيادي الفتحاوي المفصول، محمد دحلان. فسمح رئيس حكومة العدو، لرئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي، تساحي هنغبي (المعروف بتبعيته المطلقة لنتنياهو) بلقاء فرج. فعلى الرغم من تكرار نتنياهو لازمة أنّه «لن تكون هناك حماسستان أو فتحستان في غزة»، إلا أنّ الأزمة التي تعيشها حكومته حتّمت عليه قبول «تنسيق التحرّكات في القطاع مع أحد الأشخاص الأقرب إلى أبو مازن»، وذلك بحسب ما كشف المراسل السياسي لقناة «كان»، سلمان مسودة.
وبحسب ما نشرته «كان» و«ريشيت بيت» (12-3-2024) فإن فرج «بدأ العمل على بناء قوة مسلحة جنوب غزة، تتكوّن من عائلات لا تؤيد حركة حماس، ومهمّتها الحالية توزيع المساعدات من جنوب وشمال القطاع بدعم وتفويض إسرائيلي».
وبحسب القناة، فإنّ وزير الأمن الإسرائيلي، يؤاف غالانت طرح اسم فرج لإدارة شؤون قطاع غزة خلال مداولات أمنية مغلقة عقدت مؤخرا.
وبحسب «القناة 12» الإسرائيلية، فإنّ غالانت اعتبر أنّ «المشكلة في ما يتعلّق بالمسائل الإنسانية لا تتمثّل في إدخال البضائع بل في هوية الجهة التي توزعها. يجب على شخص ما أن يتولّى زمام الأمور ولن يكون بطبيعة الحال سويديًا من يوزّع المساعدات، بل من حركة فتح، ونُرجّح اسم رئيس جهاز المخابرات العامة الفلسطينية ماجد فرج أو القيادي الفتحاوي المفصول محمد دحلان، لا يهم».
أما صحيفة «الأخبار» اللبنانية (14-3-2024)، فقد كشفت عن لقاء بين مُنسّق شؤون المناطق، غسان عليان ومحمد دحلان في أبو ظبي. ويلعب دحلان دورًا آخر حاليًا أيضًا، وقد بحثه معه الضابط الإسرائيلي عليان في أبو ظبي «لإنتاج إدارة محلية خارج سلطة حماس وبقية الفصائل، تتكون من عناصر محلية ووجهاء من بينهم بعض قدامى الكوادر في حركة فتح».
لجوء كيان العدّو إلى خيارَي فرج ودحلان أتى بعد تقديرات أمنية بأنّ «حماس تعمل على زيادة سيطرتها على قطاع غزة، وبالتالي يجب الدفع بحلول والتقدّم بها سريعًا»، ومن هذه الحلول استهداف الشرطة الفلسطينية وإدارة فرج أو دحلان للقطاع. وقد أشاد يائير لابيد بهذه الخطوة – بعد انتقاده التوجّه نحو خيار العشائر – معتبرًا أنّه «من الطبيعي طرح اسم فرج، فهو أحد أكثر الشخصيات في السلطة الفلسطينية التي عملت معنا ضد حماس»، داعيا إلى «ضرورة العمل مع السلطة الفلسطينية التي ما زالت تنسق أمنيا مع إسرائيل».