أطلّت علينا الملكة رانيا، زوجة ملك المملكة الأردنية الهاشمية، بمقالة تحت عنوان “في أرض ميلاد المسيح ألغيت احتفالات العيد”، تحدّثت فيها عن ألم غزة، ووصفت بعضًا من الأحداث التي تفتق القلب هناك. وتحسبها، للوهلة الأولى، مقالةً مؤثرة، ينقبض لها القلب وتدمع العيون، ليس لأنها تجيد الوصف وصفّ الكلام، بل لأنّ الأحداث في غزة تفتق القلب ولو كتب عنها طفلٌ يخُطّ حروفه الأولى.
ثم تكمل سردها وتترك القارئ لصدمته: “منذ السابع من تشرين الأول (أكتوبر) والغالبية العظمى من الضحايا في إسرائيل والضفة الغربية وقطاع غزة هم من المدنيين. سواء قُتلوا أو اختطفوا أو اعتقلوا ظلمًا، كل واحد منهم يترك فراغًا لا يمكن ملؤه. ولا يوجد اختلاف بين الألم الذي تشعر به الأمهات الفلسطينيات والإسرائيليات نتيجة خسارة طفل”.
لا أعتقد أنّها تقرأُ التاريخ الفلسطيني، وهي قد لا تُحبّذ قراءته لما يضعُ من ثقلٍ على العائلة الملكية التي تبرأت من مسؤوليتها تجاه الأقصى خاصة وفلسطين عمومًا. فالملكة رانيا اليوم تساوي بين الضحية والجلّاد، بين الظّهر والسوط، وبين السيف والرقبة.
هذا الخطاب ذو الوجهين يُجنّب الملكة رانيا الخوض مع الرأي العام الصهيوني ويُجنّبها خسارة صورتها “الإنسانية” أمام الإعلام العالمي
هل المستوطن الذي لا ينزل سلاحه عن خاصرته مدنيّ؟
منذ بداية “الطوفان”، تسعى “إسرائيل” في تسليح كلّ المستوطنين في الضفة والقدس، وقد كانوا مسلحين قبل “الطوفان” طبعًا لكنّ الأمر بات عاديًا وجليًّا. لقد هدّد مستوطنون الأهالي واعتدوا عليهم وقتلوا منهم، في مسافر يطا وزنوتا في الخليل وغيرها. هجّروا وقتلوا “المدنيين” أصحاب الأرض، فكيف، بهذا الخطاب، يصير مستوطن الأرض الذي يجلس على دم أهلها مدنيًّا، والفلسطيني الذي يدافع عن حقّه في الوجود بدمه إرهابيًا؟
سردية المدنيين هذه تقود إلى طريق واحدة: أن الفلسطيني الذي يدافع عن حقّه إرهابي، وأن أساس الصراع هو أن “إسرائيل” تدافع عن “مدنييها”. وهذا الخطاب ذو الوجهين يُجنّب الملكة رانيا الخوض مع الرأي العام الصهيوني، ويُجنّبها خسارة صورتها “الإنسانية” أمام الإعلام العالمي، فالأكيد أنها تعرف الحقيقة وتُصرّ على تجاهلها، من مبدأ: الحياد ولا الخسارة!
المدنيّ الإسرائيلي الوحيد هو ذاك الذي خرج، بعد “الطوفان، من أرضنا بلا عودة، وصارت “إسرائيل” بالنسبة له خرافة صدقها في يومٍ من الأيام. أمّا الفلسطيني الذي يحمل السلاح، فهو مدنيٌّ جارَ عليه ظلم الطغاة وأعوانهم، وليس من حقّ “أكبر رأس” أن يعتبر موت فتيتنا الذين أُجبروا على حمل السلاح تحصيل حاصل!
هذا الخطاب ليس الأول ولا الأخير للملكة الأردنية، والخطابات المماثلة لا تنفع الشعب الفلسطيني إلا في تصويره وحشًا يُنهي حياة “المدنيين” ويعتقلهم! هذه الخطابات هي الجنون الذي يعتنقه العالم أمام المأساة الفلسطينية ليسقط عنهُ الحرج.