لا تزال فكرة من سيحكم غزة في “اليوم التالي” للحرب الشغل الشاغل للغرب ولبعض القيادات السياسية والعسكرية في “إسرائيل”. الخيارات الموجودة أمام الحكومة الإسرائيلية تتضائل، وكلها تتطلّب “عدم اعتراض” حركة حماس، خصوصًا بعد فشل الاحتلال في تحقيق أي من الأهداف الاستراتيجية للحرب.
“تل أبيب” حتى تاريخه لا تملك تصوّرًا واضحًا لما بعد الحرب.
معظم الطروحات التي قُدّمت أتت من الولايات المتحدة الأمريكية، ومنها:
- تسليم السلطة الفلسطينية بشكلها المتجدّد الحكم في غزة،
- تسليم عشائر غزاوية “غير مؤيدة لحماس” الحكم في غزة،
- إشراف عربي ودولي مؤقّت على إدارة القطاع،
- ترحيل سكّان غزة إلى سيناء،
- تسليم رجال الأعمال الغزيين إدارة القطاع،
- عودة الإدارة الإسرائيلية على القطاع عسكريًا.
جميع هذه الخيارات مرفوضة فلسطينيًا، مع صعوبة وجود نظام عربي يقبل السير فيها بدون موافقة المقاومة الفلسطينية عليها. إلا أنّ فكرة إعادة احتلال القطاع مرة جديدة شغل الحكومة الإسرائيلية في الفترة الأخيرة، مُشعلًا الخلافات في مجلس الحرب الإسرائيلي وبين الأطياف السياسية الإسرائيلية وحتى الشعبية.
هذه الفكرة، سوّقت لها أكثرية أعضاء كابينت الحرب الإسرائيلي. وهي تقوم على تأسيس حكم عسكري في غزة بالتوازي مع إنشاء نقاط عسكرية ومراقبة داخل القطاع، وهو أمرٌ مشابه لما فعله العدو الإسرائيلي في جنوب لبنان بعد انسحاب قواته من وسط لبنان باتجاه جنوبه في كانون الثاني – يناير 1985.
ووفق وثيقة صادرة عن وزارة الحرب الإسرائيلية، نشرتها صحيفة “يديعوت أحرنوت” العبرية قبل أيام، فإنّ فرض حكم عسكري في غزة بعد الحرب يتطلّب وضع 5 فرق من الجيش الإسرائيلي في القطاع، ونقل جنود من شمال فلسطين ووسطها إليه، إضافة إلى زيادة كبيرة في حجم قوات الإحتياط، ما سيكون مكلفًا اقتصاديًا على نحوٍ لا تستطيع دولة الاحتلال تحمّله.
اشتعال الخلافات الصهيونية
مع تزايد الحديث عن خيار حكم غزة عسكريًا من قِبل الاحتلال، اشتعلت عاصفة من ردود الأفعال في الأوساط السياسية الإسرائيلية، أظهرت حجم الخلافات الموجودة داخل حكومة بنيامين نتنياهو.
يوم 15 مايو الجاري، أعلن وزير الأمن الإسرائيلي، يؤاف غالانت في مؤتمر صحافي عن رفضه إقامة حكم عسكري في قطاع غزة، مطالبًا رئيس الحكومة بـ”التراجع عن هذا الخيار”. وحذّر غالانت من أنّ فرض حكم عسكري في غزة سينتج عنه “ثمن باهظ، أكان في الدماء التي ستسقط أو الأموال التي تُدفع”. من جهته، حاول نتنياهو إدارة ظهره لكلام غالانت، على الرغم من تنبيهات الأخير من أنّه قد لا يستمر في منصبه في حال إعادة دخول القطاع عسكريًا وإقامة حكم فيه، إذ قال غالانت: “هذا أمر خطير بالنسبة لنا. ممنوع أن تسيطر إسرائيل مدنيًا على قطاع غزة. منذ أكتوبر (الماضي) وأنا أثير هذه القضية في المجلس الوزاري للشؤون السياسية والأمنية (الكابينت) من دون الحصول على إجابة. نهاية العمل العسكري تكون بعمل سياسي”.
ولا يعتبر غالانت الوزير الوحيد الذي يرى في حكم غزة كابوسًا تترّتب عليه أثمان كبيرة، فيؤيده في هذا الأمر الوزيران بني غانتس وغادي آيزنكوت.
ووفق هيئة البث الإسرائيلية، فإن عددًا من وزراء الكابينت هاجموا غالانت على خلفية تصريحاته الرافضة لفرض حكم عسكري في القطاع. وأوضحت الهيئة أنّ غالانت رد على الوزراء أثناء جلسة الكابينت (16-5-2024) قائلًا: “لقد ألقوا عليّ حجارة وثلاجات في رفح، في الأماكن التي يتعرّض فيها جنود الجيش الإسرائيلي لصواريخ مضادة للدروع وإطلاق نار من دون توقّف. لا أحد يريد أن يكون هناك، صدّقوني”. وأضاف: “أنا أوّل من يعارض فلسطين، وأؤيد السيطرة الإسرائيلية من النهر إلى البحر، لكن غزة ليست جبل الشيخ وليست القدس، حيث هناك مليونا فلسطيني وليست هناك أي مصلحة إسرائيلية”. وشدّدت هيئة البثّ على أن غالانت غادر القاعة أثناء كلام وزير الأمن القومي، إيتمار بن غفير، الذي هاجمه مطالبًا نتنياهو بإقالته. وقال بن غفير: “على رئيس الوزراء أن يقيله، في كل مرة أتكلّم فيها يغادر. إنه يفعل ما يريد ويستخف بالأغلبية هنا”. ونال كلام بن غقير تأييد كل من وزير العدل ياريف ليفين، ووزيرة المواصلات ميري ريغيف. أما نتنياهو، فقد قرّر بحسب هيئة البثّ عدم مواجهة غالانت تجنّبًا لزعزعة استقرار الائتلاف الحكومي.
الأكثرية تُريد الحكم العسكري
وفق تسريبات حصلت عليها وسائل إعلام إسرائيلية، فإن جميع وزراء الكابينيت باستثناء بيني غانتس عارضوا موقف غالانت. أما نتنياهو فقال إنّه “مُستعّد لإجراء مفاوضات حول سيطرة محليين في غزة”. ووفق المحلل السياسي في “يديعوت أحرونوت”، عميت سيغل، فإن “غالانت يعتقد أنّ نتنياهو يخشى موقف اليمين المتطرف المتمثل ببن غفير ووزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش”. وأضاف سيغال أنه “للمرة الأولى تسمع في الأسابيع الأخيرة نغمات مفادها أنه بعد استكمال مرحلة العمليات العسكرية ستتم إقامة حكم عسكري في غزة لفترة تمتد ما بين أشهر وسنوات معدودة وبعدها، عندما تتحول حركة حماس من جيش إرهاب إلى منظمة عصابات ومن منظمة عصابات إلى مجموعة خلايا معدودة، تدخل جهات عربية مدنية إلى القطاع”. وشدّد المحلّل على أنّه “إذا كانت هذه وجهة نظر نتنياهو، فواضح لماذا لا يتم طرحها في الكابينيت. فالجناح اليميني سيُعارض إنهاء المرحلة الأولى، والجناح اليساري سيُصدم من المرحلة الثانية”.
تكلفة لا يمكن تحمّلها
أفادت “يديعوت أحرونوت” يوم الجمعة 17 مايو 2024 عن الطلب من المؤسسة الأمنية، في الآونة الأخيرة، فحص البدائل المختلفة لحركة حماس في غزة. واشتملت ورقة المؤسسة الأمنية التي كُتبت قبل أيام على تحليل موسّع للتبعات المالية لإقامة حكم عسكري في غزة وحجم القوى البشرية المطلوبة، وتوصّلت إلى الآتي:
– تُقدّر التكلفة التشغيلية للحكم العسكري بنحو 20 مليار شيكل سنويًا (حوالى 6 مليارات دولار)،
– تُقدّر تكلفة إنشاء ممر إضافي بحوالي 150 مليون شيكل (40.4 مليون دولار)، ولا يشمل ذلك جميع التكاليف المترتّبة على إدارة الحكم العسكري،
– لا تشمل هذه المبالغ تكاليف إعادة إعمار القطاع، من بنية تحتية، ومستشفيات، ومدارس، وطرق، وإنشاء البنية التحتية للحكومة العسكرية وغير ذلك،
– ستكون هناك حاجة إلى أربع فرق هجومية وفرقة دفاعية لفرض حكم عسكري في غزة،
– سيتطلّب نقل الجنود إلى القطاع تقليص عدد الكتائب في منطقتي القيادتين الشمالية والوسطى، بالإضافة إلى زيادة كبيرة في حجم قوات الاحتياط للجانب العملياتي،
– في حال قررت “إسرائيل” المضي قدمًا في حكم القطاع عسكريًّا فإنها “لن تتحمل العبء”. إذ ستتضرر قدرة الجيش الإسرائيلي على الاستعداد لاحتمال نشوب حرب على الجبهة الشمالية أمام حزب الله في لبنان، وكذلك الاستعداد لإحباط الهجمات والعمليات ضد أهداف إسرائيلية في الضفة الغربية المحتلة وغيرها،
– السيطرة على غزة ستعني أزمة غير مسبوقة في الميزانية العامة، ما سيضر بشكل كبير بالخدمات المقدّمة لـ”المواطنين الإسرائيليين”، كما سيثقل كاهل الميزانية.
تبقى مسألة أساسية في كل هذه السناريوهات، وهي أن تنفيذها جميعها مستحيل طالما أن المقاومة في قطاع غزة لا تزال قادرة على القتال، ما يعني أن باستطاعتها تجعل جيش الاحتلال ومجتمع الغزاة يدفعون كلفة بشرية لا يمكنهم تحمّلها.