«هل تتخيلون وزيرًا أردنيًا يجلس إلى جانب وزير إسرائيلي لتوقيع اتفاقية بينما تقتل إسرائيل أهلنا في غزة؟». الموقف «الأخلاقي» هو لوزير الخارجية الأردني، أيمن الصفدي في حديثٍ لموقع «الجزيرة» في نوفمبر الماضي. وأتى ردًّا على سؤال عن تجميد (وليس إلغاء) الأردن توقيع اتفاقية «الازدهار» بينه وبين كيان الاحتلال، المعنية بتحويل الكهرباء المُنتجة بالطاقة الشمسية من محطّة في الأردن، مقابل تزويده بالمياه المُحلّاة من حكومة الاحتلال. كان من المُفترض أن تُوقَّع الاتفاقية في قمة المناخ في دبي نهاية نوفمبر سنة 2023.
في الحقيقة، من السهل جدًّا تخيّل وزير أردني يجلس إلى جانب أي مسؤول إسرائيلي من الصف الخامس وليس الأول حتّى، إلا أنّ ما عرقل توقيع «اتفاقية الازدهار» ليس بأي من الأشكال سياسة النظام الأردني، بل التظاهرات الشعبية التي تعمّ الأردن رفضًا للإبادة التي يتعرّض لها الشعب الفلسطيني، والضغوط على الحكومة لإلغاء جميع الاتفاقيات الموقعة مع سلطة الاحتلال، وتعاطف الرأي العام العالمي مع القضية الفلسطينية. جلوس مسؤول أردني مع مسؤول إسرائيلي كان ليمثّل قمّة في الوقاحة. ولذلك قرّرت الحكومة تجنيب نفسها المذلّة العلنية… حاليًا.
لماذا من السهل تخيّل عكس ما ادّعى أيمن الصفدي؟
لأنّه وبعد 100 يوم من الحرب على غزّة، لا يزال الأردن شريكًا للعدّو في اتفاقية السلام الموقّعة سنة 1994، واتفاقية الغاز الطبيعي لسنة 2014 التي يشتري الأردن بموجبها الغاز الطبيعي المُستخرَج من حقل «لِفياثان» في المياه الفلسطينية المحتلة، و«إعلان النوايا» لصفقة مشروع المياه مقابل الكهرباء مع كيان العدّو، أي اتفاقية «الازدهار».
بعد 100 يوم من الإبادة التي يتعرّض لها شعب غزّة، اكتفى الأردن باستدعاء سفيره من الأراضي المُحتلة وإصدار البيانات المُندّدة بالحرب، من دون أن يُقفل بعثته الدبلوماسية ويقطع نهائيًا العلاقات الدبلوماسية مع كيان الاحتلال.
بعد 100 يوم من الجريمة الصهيونية بحقّ كلّ الشعب الفلسطيني، تبدو أكبر هموم الملك عبدالله الثاني هي تجنيب بلاده استقبال المزيد من اللاجئين الفلسطينيين، وليس وقف الحرب على فلسطين ولا قطع العلاقات مع «إسرائيل».
المياه… خاصرة الأردن الرخوة
يملك الأردن أنهارًا وأحواضًا وآبارًا جوفية عدّة مُهمة… تخلّى عنها لمصلحة العدّو الإسرائيلي. مصادر المياه الأردنية تكفي، بحسب ما يقول خبراء أردنيون، لسدّ حاجات سكّان البلد. ولكن تسليم النظام الأردني بسيطرة الاحتلال على بحيرة طبريا وتجفيف منابع نهرَي الأردن واليرموك، مقابل صبّها في روافد داخل الأراضي المُحتلة وسوء إدارة الحكومات المُتعاقبة لهذا الملفّ، أوصلت إلى تصنيف المملكة الهاشمية من الأضعف عالميًا مائيًا، وتسجيل عجز مائي دائم.
تفريط الحكومات الأردنية بالحقوق المائية للأردن لا يحمل مجالًا للشكّ. تنصّ المادة السادسة من «اتفاق السلام» بين المملكة وكيان الاحتلال على «الاعتراف بتخصيصات عادلة لكلّ منهما من مياه نهرَي الأردن واليرموك ومن المياه الجوفية لوادي عربة بموجب المبادئ المقبولة والمُتفق عليها وحسب الكميات والنوعية المُتفق عليها». النتيجة كانت بحصول الاحتلال على كميات مياه في أحواض خارج الأراضي الفلسطينية المُحتلة، وثبّت تلقّيه 25 مليون متر مُكعّب من المياه طيلة العام، تُضاف إليها 20 مليون متر مُكعّب إضافية خلال فصل الشتاء. أما الأردن، فتمّ التعطّف عليه بـ«فائض التدّفق إن وُجد». تدّعي وزارة المياه الأردنية أنّ الأردن يحصل على 35 مليون متر مكعب سنويًا من المياه وفقًا «لاتفاق السلام»، و10 ملايين متر مكعب إضافية تم الاتفاق عليها بين الجانبين عام 2010، إلا أنّ المعارضين الأردنيين والجمعيات البيئية غالبًا ما تُشكّك بحصول الأردن على حصتّه، مُذكرين بالمياه المُلوثة التي يُرسلها الاحتلال إلى الأراضي المُحتلة، كما بيّنت فضيحة العام 1998 أيام حكومة عبد السلام المجالي.
الحاجة إلى المياه مثّلت الذريعة الأساسية لتبرير الحكومة الأردنية توقيع اتفاقية جديدة مع العدّو، فجرى الحديث عن تزايد عدد السكّان، وارتفاع الاحتياجات للمياه في قطاعات الصناعة والزراعة، وتحمُّل الأردن لعبء اللاجئين…
قروضٌ عدّة حصل عليها الأردن من البنك الدولي لتنفيذ مشاريع اكتفاء مائي، والعديد من الإجراءات التي كان من الممكن اتخاذها لتأمين احتياجات سكّانه، ولكنّه اختار الطريق الأسهل: التبعية للكيان الصهيوني وربط مصير البلد به. أوصلت الحكومات الأردنية الشعب إلى خيارين لا ثالث لهما: هل تُريدون المياه أم الموت عطشًا؟ حتى باتت المياه الأردنية تساوي العمالة للإسرائيليين.
انطلاقًا من هنا، يُمكن العودة إلى سؤال أيمن الصفدي: «هل تتخيلون وزيرًا أردنيًا يجلس إلى جانب وزير إسرائيلي لتوقيع اتفاقية بينما تقتل إسرائيل أهلنا في غزة؟». نعم إذا كان النظام الأردني مُصرًّا على أن لا يجد حلًا لأزمة الشحّ المائي سوى عبر البوابة الإسرائيلية.
حين أعلن الصفدي أنّ بلاده «لن تُوقّع اتفاقًّا لتبادل الطاقة والمياه مع إسرائيل في ظلّ الحرب على قطاع غزة»، ردّ رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق نفتالي بينيت بأنّ «لدى إسرائيل مصادر طاقة كافية لتوليد الكهرباء، لكن الأردن ليس لديه ما يكفي من المياه لسكانه». لكيان الاحتلال خيارات بديلة عديدة، وقدرة على ابتزاز «ومعاقبة» من يعترض مشاريعه ومصالحه. أما الأردن فله نظام وقّع سنة 1994 اتفاقَ تطبيع مع الاحتلال وقبِل بالارتهان له والتنازل عن كامل حقوقه.
في الإعادة…
شروط اتفاقية الكهرباء مقابل الماء
عام 2021، وفي دبي، أعلنت كلّ من الإمارات والأردن و«إسرائيل» بحضور المبعوث الأمريكي للمناخ (وزير الخارجية السابق)، جون كيري، عن «إعلان نوايا» لصفقة «الكهرباء مقابل الماء» ووُصفت يومها بـ«أكبر صفقة إقليمية». ينقسم المشروع إلى قسمين:
- الازدهار الأخضر: تطوير محطات طاقة شمسية كهروضوئية في الأردن بقدرة إنتاجية تبلغ 600 ميغاواط تُصدّر كلّها إلى «إسرائيل».
- الازدهار الأزرق: تطوير مشاريع تحلية مياه مستدامة في الأراضي المُحتلة، يُزّود الأردن بـ200 مليون متر مكعب منها.
ستُمّول دولة الإمارات المشروع عبر «شركة أبو ظبي لطاقة المُستقبل – مصدر» (شركة مملوكة من صندوق مبادلة للاستثمار التابع لإمارة أبو ظبي)، التي عقد رئيسها التنفيذي اجتماعات عدّة مع المسؤولين الإسرائيليين في «تل أبيب» وأبو ظبي.
بعد الإعلان عن المشروع، اندلعت في الأردن تظاهرات شعبية ترفض الاتفاق مع كيان العدّو.