في البدء كانت “التلينا”
لا تحضر “التلينا” في الهستوريوغرافيا الإسرائيلية كثيرًا. بالأصل، كان اسم هذه السفينة ممنوعًا من التداول في “إسرائيل” حتى وقت قريب (بحسب آلان مينارغ، كان بشير الجميل قد أخبر شارون وبيغن إطلاقه اسم “التلينا” على معركة توحيد البندقية المسيحية دون علمه أن بيغن كان الخاسر في هذه المعركة التي سنورد تفاصيلها بعد قليل). منتصف عام 1948، قامت حركة “إيتسل” بتهريب سفينة “التلينا” إلى فلسطين فترة الهدنة الأولى من حرب عام 1948 بين العرب و”إسرائيل” بعد أن اشترتها “إيتسل” بهدف نقل مهاجرين مسلحين إلى فلسطين.
حاول مناحيم بيغن، قائد “إيتسل” حينها، إقناع بن غوريون بإدخال السفينة إلى ميناء كفار روبين (الرملة) بالتعاون مع الحكومة المؤقتة، لكن الأخيرة رفضت ذلك. كان الخلاف في عمقه خلافًا حول “إيتسل” وموقعها من النظام السياسي الجديد. استمر بيغن في التفاوض مع الحكومة لأخذ حصة من الأسلحة المنقولة في السفينة لتحويلها إلى قواعد “إيتسل” في القدس، لكن بن غوريون ظل رافضًا واعتبر المطلب نوعًا من العصيان لأوامره بـ”توحيد البندقية” (كان بن غوريون قد استبق الأزمة وأعلن مطلع حزيران من عام 1948 عن إقامة الجيش الإسرائيلي تنظيمًا للعمل العسكري الموحد، قاطعًا الطريق على “إيتسل” وغيرها عن القيام بأي نشاط أو تحرك عسكري إلا تحت مظلته).
في العشرين من حزيران من عام 1948 تحديدًا، وصلت السفينة إلى شاطئ كفار روبين. أنزلت وحدات جيش الاحتلال المهاجرين اليهود على الشاطئ. وبعد جهد كبير وجه الجيش إنذارًا شديد اللهجة إلى مناحيم بيغن داعيًا إياه لتسليم السفينة خلال عشر دقائق. رفض بيغن وجماعته الإنذار فأخذت القوات العسكرية التابعة للجيش الإسرائيلي بإطلاق النار على السفينة. أصر بيغن على موقفه وتوجه بالسفينة إلى تل أبيب. زحفت قوات “إيتسل” إلى تل أبيب لملاقاة بيغن في اليوم التالي، فيما شهدت المدينة تبادلًا لإطلاق النار بين جيش الاحتلال الإسرائيلي والقوات الزاحفة. تعقد الموقف أكثر عندما بلغ الحكومة أن جنودًا من الجيش تركوا وحداتهم وانضموا إلى دعم قوات “إيتسل”، فما كان من بن غوريون إلا أن طلب من قائد “البلماح” يغآل ألون حسم الأمر. قُصفت السفينة بالمدفعية فاشتعلت فيها النيران، قبل أن تغرق في 23 حزيران 1948.
لم تقتصر العملية العسكرية على السيطرة على سفينة “التلينا”، بل تعدتها إلى سيطرة قوات “البلماح” على “قلعة زئيف” (مقر حركة إيتسل) في تل أبيب. كان القرار حاسماً، يجب وضع حد نهائي لنشاط “إيتسل”. أدى الجو المتوتر في تل أبيب إلى نشوب خلافات شديدة داخل الحكومة، فانسحب كل من يهودا ليف ميمون، وموشي شابيرا، من العمل الحكومي احتجاجاً على إجراءات الحكومة العسكرية.
أجنحة متعددة
لفهم طرائق عمل “البلماح” و”إيتسل”، نحن بحاجة للعودة إلى نحو ثلاثة عقود إلى الوراء، وتحديدًا إلى عام 1907. عندما تم تأسيس المنظمة المسلحة الأولى تحت اسم “بار غيورا” عام 1907، بهدف حراسة مستعمرتي الشجرة في كفر كما وكفار طابور في الجليل الأوسط. بعيد عامين، أي في عام 1909، وسع مؤسسو “بار غيورا” المنظمة وبدأوا العمل تحت مسمى “هشومير هتسعير”. عام 1920، فُككت منظمة “هاشومير” وتم تأسيس منظمة “الهاغاناه” الموسعة في مستعمرة “كنيرت” (بالقرب من طبريا)، بدعم من “أحدوت هعفودا” وتحت إشراف مباشر من “الهستدروت”.
قادت “الهاغاناه” عمليات تطهير البلاد من الفلسطينيين. لكنها تعرضت للانقسام بعيد ثورة البراق سنة 1929، عندما اختار عدد من أعضاء حركة “بيتار”، ترك “الهاغاناه” لتأسيس منظمة “إيتسل” (اختصار لتسمية “المنظمة العسكرية الوطنية في أرض إسرائيل”). كانت “إيتسل مؤمنة بالعنف المفرط ضد الفلسطينيين، وراغبة بفك الارتباط مع البريطانيين. لذا، قامت هذه الحركة بعدد من العمليات ضد الطرفين (الفلسطيني والبريطاني)، وعندما قررت وقف هجماتها ضد البريطانيين – مع بدء الحرب العالمية الثانية – انفصل عنها عدد من الأعضاء وأسسوا منظمة “ليحي” التي اعتُبرت في ما بعد منظمة إرهابية.[1]
ومع ذلك، تفيدنا محاولة إعادة قراءة التاريخ في فهم طبيعة العلاقة بين هذه الأطراف، وكيفية تنسيق جهودهم من “حركة العصيان العبري”[2] عامي 1945 و1946، بعدما ثار كل من حاييم وايزمان ودافيد بن غوريون ضد سياسات بريطانيا “المعادية” (على حد زعمهم) وفي ظل اعتماد بريطانيا الكتاب الأبيض سنة 1939 كسياسة وسطية بين الهاشميين والصهاينة في فلسطين، لتتعالى أصوات من “الهاغاناه” للمناداة بـ”استقلالية القرار اليهودي”، وأن باستطاعتهم الدفاع عن أنفسهم ضد العرب دون الحاجة إلى دولة عظمى.
لعبت “ليحي” دور حلقة الوصل بين “الهاغاناه” والـ”إيتسل” من أجل القيام بعمليات عسكرية ضد حكومة الانتداب لتسريع جلاء جيوشها عن فلسطين، ومن أجل حسم الحرب سريعًا ضد الفلسطينيين والعرب. وتركز التنسيق في ما بين هذه الأطراف المختلفة على التالي:
- تلتزم “إيتسل” و”ليحي” بعدم تنفيذ عمليات عسكرية إلا بموافقة قيادة “حركة العصيان العبري”، وتُدرس العمليات المقترحة في اجتماعات يشارك فيها كافة الأطراف.
- عند صدور موافقة على إجراء عملية ما يتم التخطيط بمشاركة الخبراء العسكريين من كافة التنظيمات العسكرية.
- لا تحتاج أي عملية تنفذها “إيتسل” أو “ليحي” من أجل سلب أسلحة بريطانية إلى موافقة قيادة الحركة.
- في حال قرر “الهاغاناه” التخلي عن العمليات العسكرية، تستطيع “إيتسل” وليحي” الاستمرار فيها دون موافقة قيادة “العصيان العبري”.
- تتكون قيادة العمل المشترك – حركة العصيان العبري – من أربعة أشخاص: موشي سنيه ويسرائيل جليلي من “الهاغاناه”، ميناحيم بيغن من “إيتسل، ونتان يلين مور من “ليحي”.
بالتوازي مع تأسيس القيادة العسكرية، أسست حركة العصيان العبري قيادة سياسية مثلت مختلف الأحزاب والقوى الصهيونية، ضمت في قيادتها ستة أعضاء، هم: الحاخام يهودا ليف فيشمان من حزب “مزراحي”، فرانس برنشطاين من “هتسيونيم هكلليم”، ليفي أشكول من حزب “مباي”، يعقوب ريفتين من جماعة “هشومير هتسعير”، يسرائيل إيديلسون من “أحدوت هعفودا” ورئيس اللجنة موشي سنيه بصفته رئيسًا لقيادة “الهاغاناه”، ومعه دايفيد ريمز رئيس “اللجنة القومية”. سميت هذه اللجنة بلجنة “إكس”. وكان رئيسها يأتي باقتراحات لجنة قيادة العصيان العبري، وتُعرض الاقتراحات عليها دون التطرق إلى تفاصيل العمليات المقترحة أو مكانها للحفاظ على سرية العمل العسكري. بالمجمل، كانت اللجنة السياسية هذه تعمل على تنسيق عمل أجنحة النظام بما يخدم الأهداف الكبرى للمشروع الصهيوني في فلسطين.
أجنحة متكسرة
إحدى أكبر مشاكل دراسات المجتمع الإسرائيلي، هي تلك المرتبطة بطبيعة المجتمع “الملتبس الهوية”. هل ننظر إلى اليهود في فلسطين كقبيلة أو مجتمع؟ هذا ليس سؤالًا أيديولوجيًا بقدر ما هو إشكال مستعار من كثير من أدبيات الباحثين في طبيعة تكوين المجتمع الإسرائيلي. ولنفهم الأمور بجذورها نحن بحاجة لفهم العلاقة البينية داخل صفوف المجتمع الإسرائيلي لحظة التأسيس. “البلماح” ليس حركة سياسية بقدر ما هو تشكيل وخيال اجتماعي يهودي. والـ”إيتسل” ليس حركة يمينية بقدر ما هو منطق تفكير وتفسير. “البلماح” و”إيتسل” بطنا قبيلة الجماعة اليهودية المؤسسة للصهيونية في “إسرائيل”. لكن هوية البلماح واضحة المعالم. لـ”البلماح” أغانٍ وقصص وبطولات كتبها حاييم حيفر، واستكملها أوري أفنيري وشالوم كوهين. أعضاء “البلماح” مشهورون بعلمانيتهم، وتقديسهم للقوة الجسدية، وحبهم الانفلات والحفلات والكلام المباشر، وهم يكرهون الطقوس والمظاهر والمزركشة خلافًا لجماعة “إيتسل”.[3]
عدد حزيران من عام 1967، من مجلة “هذا العالم”، التي اعتُبرت امتدادًا لرؤى “البلماح” ومخيلتهم الأشكنازية
أما “الإيتسليون” فأقرب للقرائين،[4] ويهود الجبال (القوقاز)،[5] أولئك الذين نزلوا القدس في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ولم يُفلحوا في شيء. البلماحي قدوة جيل كامل من العسكريين الإسرائيليين، أما الإيتسيلي، فهو ابن القبيلة فقط. “الإيتسيليون” عصابيون. هم لا يعرفون حدود القوة ولا موازين استخدامها، هم يريدون بناء “إسرائيل” على ضفتي نهر الأردن وكفى. والإيتسيليون لا يرغبون بالتفكير في الدولة بقدر تفكيرهم بالجماعة. هل ترغبون معرفة كيف يفكر الإيتسليون؟ تذكروا مباراة هبوعيل بيت شان (بيسان) وبيتار القدس على استاد كريات أليعازر في حيفا في أيار 1998. عندما تنحى فريق هبوعيل بيت شان جانبًا في الدقائق الأخيرة من عمر المباراة ليسمح لبيتار القدس إحراز هدف الفوز نكاية ببوعيل تل أبيب.[6] الإيتسيليون أبعد ما يكونوا عن التفكير في المجتمع والسياسة. هم مباشرون وغير دولتيين. تجدهم في مؤسسات الأمن وغرفه. ولولا “حيفا مسادا” (المعتقل اليهودي في حيفا الذي بنته بريطانيا ضمن “الخطة السورية” لمواجهة النازيين والفيشيين صيف 1941) لما سمع بهم أحد.
“إسرائيل”: عقم اللغة والخيال
تشكل النقاشات التي دارت رحاها بين الفيلسوف غرشوم شالوم (Gershom Gerhard Scholem) وفرانز روزنزفايغ (Franz Rosenzweig) عن المخاطر التي تنطوي على علمنة اللغة العبرية “المقدسة”[7] مادة مهمة لفهم المخاوف الإبستمولوجية/المعرفية لأصوليي اليهود من المشروع الصهيوني نفسه قبيل ولادة “إسرائيل”. فالخطر من العرب، بحسب شالوم، كان ينبغي أن يكون أقل بكثير من خطر المهمة التي استجلبتها الصهيونية نفسها. سأل شالوم: ماذا ستكون نتيجة عصرنة العبرية المقدسة في المستقبل؟ ألن تفتح علينا علمنة اللغة هاوية انزلاق المقدس الذي غرسناه بين أبنائنا إلى مِراح العالم؟ ثم ماذا لو انفجرت القوة المقدسة للغة العبرية – يومًا ما – في وجه متحدثيها؟ “إننا نعيش في هذه اللغة على فوهة الهاوية بثقة عمياء، وثمة خوف من أن نتدهور نحن أو القادمون بعدنا إلى داخل تلك الهاوية”. كانت مخاوف غرشوم نابعة من فهمه العميق للغة العبرية المقدسة. اللغة ليست منطوقًا فحسب، بل هي إطار تصوري/ تخيّلي للعالم. واللغة العبرية المعلمنة لا تبدو قادرة على التخلص من الإطار التخيلي للزمن المقدس فيها.
وبالرغم من رهان التيار العلماني على ضبط اللغة والعقل اليهودي في إطاره العلماني،[8] إلا أن مخاوف شالوم سرعان ما استحقت مع صعود حاخام الأشكناز الأول ومؤسس يشيفات هراف في القدس عام 1924، الحاخام أبراهام يتسحاق كوك (1865 – 1935). فلقد أعطى كوك المشروع الصهيوني طابعًا خلاصيًا دينيًا واعتبر الصهيونية بصيغتها العلمانية ليست غير تعبير عن الخطة الربانية لتحقيق الخلاص المسيحاني. فالدولة حالة من التسامي الرباني الذي تتحقق من خلاله الإرادة الإلهية على الأرض، وفي هذه الدولة تحديدًا “لا مكان للعلمانية” فالعلاقة بين العالم الإلهي والعالم الدهري/ الزماني هو واحد من أسس وجودها.
ثم كان إسحاق كوك (1891-1989) الابن، الذي تحول إلى الأب الروحي للصهيونية الاستيطانية. ترأس إسحاق مركز يشيفات هراف التي أقامها والده، ودفع من خلالها إلى الترويج لصهيونية خلاصية يلعب فيها شعب إسرائيل دورًا مقدسًا في تحقيق إرادة الرب وتسريع مجيء المسيح. فتحولت هراف بعد احتلال 1967، إلى خط الإنتاج المركزي لقيم الصهيونية الاستيطانية التي سيطرت على “المفدال” وتحالفت مع “الليكود” منذ عام 1977.
لقد كانت لحظة “الليكود” – “المفدال” تلك، واحدة من تجليات خيال اللغة العبرية عن الذات والجماعة. فـ”الليكود” لم يكن غير وريث لتأويل التيار التصحيحي لمسألة الذات. والهيكل لم يكن كذلك غير تعبير عن استعادة التاريخ القومي الكامل دون انقطاع، والسيادة الكاملة أيضًا على الأرض. إن مثل هذه الأفكار التي كان يصدح بها أفراد من مثل إبا أحيميئير وتسفي غرينبرغ (زعماء حركة البلطجية)، وأبراهام شطيرن (زعيم تنظيم الليحي)، هي بالضبط ما أمست خيال النهايات بالنسبة للغة والعقل العبري.
ظلال “إيتسل” السوداء
نحن لن نتمكّن من فهم نتنياهو إذا لم نضعه في سياق ثقافته وتاريخه. نتنياهو إيتسليّ، ولسلوك الرجل منذ ما قبل السابع من أكتوبر عنوان وحيد “أنا ومن بعدي الطوفان”. هو غير آبه بحجم الاحتجاجات الشعبية غير المسبوقة واستمراريتها.[9] وهو غير آبه أيضًا بالعلاقات المتوترة مع واشنطن، ولا بعزلة دولية يتمناها له خصومه. يصر نتنياهو على الدفع قدمًا بالانقلاب على المحكمة العليا حتى وإن أفضى الأمر إلى حرب أهلية. موشيه جورالي قبل عام، كان لا ينفك يحذر من احتمال انزلاق “إسرائيل” إلى حرب أهلية. الإكراه الديني يتعمق داخل “إسرائيل” وكل الشرائح الوسطى العليا المنتجة (عصب الإنتاج والاستهلاك في الاقتصاد الإسرائيلي) تحذر من هذا الإكراه. هل تريدون معرفة معنى إلغاء بند المعقولية بالنسبة لجورالي؟ تخيلوا، صلاحيات موسعة لإدارة المستشفيات لمنع إدخال أطعمة مخمّرة خلال أسبوع الفصح، ثم – وهذا الأهم – إعطاء المحاكم الدينية اليهودية صلاحية معالجة القضايا المدنية “إذا وافق الطرفان على التحكيم” (أي قضاء بقانون جزائي يهودي اختياري). وفي مثل هذا الحال فإن “الأجواء محتقنة جدًا في انتظار عود ثقاب لإشعال النار. فالخيوط الدقيقة التي ربطت أطراف الرؤية الصهيونية تتفكك، وبقايا التعاضد بين أبناء الشعب تتفتت” كتب جورالي.[10] أما الحرب الكبرى في “إسرائيل”، فلا تدور رحاها حول علة المعقولية، وإنما على البنية الليبرالية التي انبثقت الدولة في ظلالها. لقد ارتكز النظام السياسي في “إسرائيل” على مبنى استقلال القضاء واحترام اليهودية والحفاظ على الحرية العلمانية والعقلانية والتعليم واحترام حقوق الإنسان. لكن نتنياهو يشن حرب إبادة على مرتكزات “الدولة” كلها. هذا ليس رأي جورالي فحسب، هو رأي غالبية الناشطين في حركة الاحتجاج في تل أبيب طوال عامي 2022، و2023.
إن الخلاف بين نتنياهو وخصومه هو خلاف بين “إسرائيلَين”. “إسرائيل” قطاع التكنولوجيا الفائقة (الهاي تيك) والأكاديميين والطيارين الذين ينشدون أغاني دافيد بروزا في شوارع تل أبيب، و”إسرائيل” الحكم الذاتي للحريديم الذي يهدد بالسيطرة على مزيد من الأحياء والمؤسسات. إنه خلاف بين نشيدي “سيكون جيدًا”[11] و”معًا”[12] الإسرائيليين. في نشيد “سيكون جيدًا” يمنّي اليساري نفسه بالسلام. واليساري في هذا النشيد ليس غير رجل محبط يطل من نافذته على واقع يتمنى تغييره بالأمنيات. هو لا يخطر بباله غير الشكوى ولا يجد مؤازرة إلا في حضن حبيبته. إنه لا يخرج الى الشوارع ولا يحرق الإطارات ولا يفرض حقائق على الأرض ولا يُشعل ثورة. أما في أغنية “معًا” فالإسرائيليون متحدون، يجمعهم إصرارهم على الحياة بكل جهويتهم وتعصبهم وفروقاتهم الطبقية والعرقية. هم معًا ضد الكل؛ ضد اليسار والعرب والغرب والعالم بأسره، وهم يتزايدون عددًا على أسطح المباني في بني باراك بالقرب من تل أبيب. ولا مشروع لديهم غير الاستعداد للصلاة القبالية. هذا هو جوهر الخلاف بين الطرفين. نتنياهو “الإيتسيلي” يريد القبيلة في مواجهة العالم، ومعارضته البلماحية تعي عجز القبيلة عن مواجهة العالم والواقع معه.
[1] رغم الخلافات الكبيرة بين كل هذه المنظمات (الهاغاناه وإيتسل وليحي)، إلا أننا لن نفهم طريقة عملها دون النظر إلى المشروع الصهيوني باعتباره مشروعًا متعدد الأجنحة. لكل دوره ومكانته. وكلٌ يعمل كجناح من أجنحة “النظام العميق” عند الضرورة، يتحد مع الآخرين عند التحدي ويختلف معهم في الهوامش، وهو بالضبط ما يمكن أن نعاينه منذ واقعة دير ياسين عام 1948، وحتى يومنا الراهن.
[2] كان الأطراف الثلاثة قد اتفقوا على تنسيق جهودهم أواخر تشرين الأول/ أكتوبر سنة 1945 من أجل تنسيق جهودهم للقيام بعمليات عسكرية مشتركة، تحت مسمى “حركة العصيان العبري”.
[3] عزمي بشارة، البلدوزر وإنجاز المهمة، جريدة السفير، 27/ 10/ 2001.
[4] كان القرائيون في شبه جزيرة القرم أول مجموعة يهودية في العالم الغربي تتبنى مقولة “اليهود الخزر” والجذور اليهودية للأمة الجرمانية، في ما بات يُعرف بخطاب الأصول القديمة. ونتيجة لذلك، فقد طوروا، في وقت مبكر من أربعينيات القرن التاسع عشر، نسختهم الخاصة من مستوطنتهم القديمة في شبه جزيرة القرم. راجع: Dan Shapira, (“Israel” 2014), ‘We Are a Very Ancient People’. The ‘Antiquity Discourse’ among the Jews of Northeastern Caucasus, Georgia, and Central Asia, Studies in Caucasian, Georgian, and Bukharan Jewry: Historical, Sociological and Cultural Aspects, Ariel: Ariel University.
[5] يُشمل بيهود الجبال (أو يهود التات وداغستان) عادة يهود القوقاز كافة (يهود آذربيجان، وأرمينيا، وجورجيا وداغستان والشيشان)، وهؤلاء أيضًا انخرطوا بخطاب الأصول القديمة، بعدما جلب إليهم أبراهام فيركوفيتش هذا السرد في أربعينيات القرن التاسع عشر، وأخبرهم أنهم مجتمع يعود إلى المنفى الأول. استمرت أنشطة فيركوفيتش بين يهود الجبال من قبل شريكه المقرب، الحاخام القرائي سليمان بيم، وصارت سردية “يهود الخزر” واحدة من سرديات الأصالة داخل المجتمع اليهودي هناك.
[6] كانت الغالبية العظمى من مشجعي فريقي بيتار وبيت شان من المزراحيين (اليهود الشرقيين) – أي اليهود الذين ينحدرون في أصولهم من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا -. وفي المقابل، كان فريق هبوعيل تل أبيب يُعرف بأنه فريق أشكينازي، على الرغم من أن قاعدة مشجعيه متعددة الأطياف والمشارب. أنظر تامير سوريك، أنظر: “Why did Beit-She’an let Beitar win? Ethnic solidarity, sports ethic, and national ideology,” in: Studies in Contemporary Jewry, Vol. 23, edited by Jonathan Frankel, Peter Medding, Eli Lederhendler, and Ezra Mendelsohn, Oxford University Press, 2009, 128-141.
[7] فرانز روزنسفايغ، إعلان الولاء للغتنا، تل أبيب: عام عوفيد، ص 6 – 59.
[8] بحسب أمنون راز كاركوتسكين: اعتقد مؤسسو الصهيونية ومنظروها أنه من خلال تأسيس الصهيونية على مبادئ العقلانية الغربية فإنها ستكون قادرة على ترويض الأساطير التي استقدمتها من الحقل الديني وإخضاعها لحساباتها والتحكم بها، إذ يمكن للصهيونية أن تستعيد المشهد التوراتي بجزئيته التي تناسبها، من مثل تحقيق الخلاص بشكل غير مباشر من خلال استعادة العملية التاريخية – احتلال البلاد (يهوشع)، الاستيطان والترسخ (القضاة) والمملكة (شاؤول) – وأن تتوقف في هذه النقطة. راجع: https://rb.gy/khtl3j
[9] تُعتبر الاحتجاجات الشعبية السابقة على “طوفان الأقصى” الاحتجاجات الأطول في تاريخ “إسرائيل” للناحية الزمنية، إذ استمرت إلى نحو عام تقريبًا، كما تميزت بتشعبها الجماهيري وانتشارها الجغرافي. كذلك نلاحظ أن الائتلاف الحاكم، الذي سعى قبل نحو ثلاثة أو أربعة أشهر لاستنهاض حملة دعم شعبية له، تراجع عن مخططه حتى الآن، وهذا بحسب تقديرنا يعود إلى أمرين، وهو أنه لم يستطع المنافسة بأعداد المشاركين، ومن ناحية ثانية، أنه ليس بحاجة لحملة الدعم الميداني، طالما أنه قادر على تمرير مخططه برلمانيًا، كما رأينا في الأيام الأخيرة. راجع: حوار مع برهوم جرايسي، نتنياهو ونهج “من بعدي الطوفان”، مركز مدار. 17، تموز، 2023. https://rb.gy/mq0cfx
[10] كتب غورالي: “هل تتجه إسرائيل نحو حرب أهلية؟ وإلى الفصل بين إسرائيل الديمقراطية ويهوديتها؟ إذا كنا على شفا انهيار التجربة الصهيونية التي تبلورت هنا في آخر 75 عامًا، فمن المهم أن نعرف السبب على الأقل. دعونا نفهم لماذا نكره بعضنا البعض كثيرًا. يبدو لي أننا منغمسون جدًا في الأشجار: علة المعقولية، وفقرة التغلب على المحكمة العليا (تعديلات في قانون القضاء)، ولجنة تعيين القضاة؛ وننتبه بدرجة أقل إلى الغابة برمتها. ننشغل في التفاصيل الصغيرة، وبدرجة أقل بالصورة العامة”. https://www.calcalist.co.il/local_news/article/ryhmugvy3