بالتأكيد، إن المسألة مزيج بين التقصير والقصور، فالعيش في زمن الإبادة يفضي إلى الضياع والربكة؛ ما الواجب الأخلاقي اليوم؟ وما العمل؟ ليس للمستقبل بل الآن وفورًا، وطالما الإبادة مستمرة فنحن في خضم الفشل. ولكن، في وسط صخب كل شيء، إن علمتنا فلسطين شيئًا فهو أنه وعلى الرغم من كل التعقيد والحيرة والتشابك والخربطة فهنالك زاوية واحدة، مستمسك يقيني واحد، ما إن ضعنا التجأنا إليه ألا وهي الشهيد والشهادة.
إن ما تعمل عليه الإبادة هو محاولة تحويل الموت والشهداء إلى رقم أو نسبة مئوية، هذا الموت الجارف الهائل يحاول بزخمه القضاء على علاقتنا مع الشهادة والشهيد، وإغراقه وتضييعه. ولذلك، لعله من أهم أجوبة زمن الإبادة هو إعادة تصدير الشهيد وتقديمه والوفاء له، لأجلنا لا من أجله. لم أعرف الشهيد أدهم أبو شرخ قبل شهادته، وفي ليلة الثاني عشر من مايو، التفت إلي من بجانبي وقال أدهم استشهد. كان في تلك اللحظات تساؤل من هو أدهم ممزوج بحسرة وألم أنه كان من المفترض أن أعرفه. ولكننا، ككثير من الشهداء اليوم، أصبحنا نعرف أن أحد أبرز مصاديق الشهادة كون يوم استشهاده، بشكل ما، هو أيضًا يوم ولادة جديدة، حي بيننا اليوم بشكل سحري. فعلًا إن الشهادة معضلة فلسفية أبدية.
اليوم، بعد قرابة شهرين بالضبط من شهادته، أشعر أني أعرفه كثيرًا كأنه حي، لم يكن ذلك لولا والده العم كرم أبو شرخ، أبو أدهم. أسابيع بعد شهادة أدهم، علِمنا أنّ أباه يعيش في مدينة تبعد عن العاصمة الهولندية أمستردام ساعة بالقطار، أب شهيد من غزة وبيننا. أمسى الموضوع في حكم الواجب والفرض. وصلنا لرقم أخيه ثم أبيه. في البداية، ظننت أن أبو أدهم مقيم في هولندا منذ زمن، ومن ثم، ومن أول تواصل، اكتشفت أن أبو أدهم ومنذ قرابة الـ28 شهرًا وهو يعيش في المخيمات وضمن إجراء اللجوء. يعيش أبو أدهم في سفينة، وهي كسفن الرحلات السياحية الضخمة يستأجرها الهولنديون ويسكِنون بها اللاجئين. حينما أخبرني أنه في “كامب السفينة” مباشرة تغير كل شيء، فهو يعيش وحيدًا إذًا. وعليه، أيضًا أتاه خبر أدهم وهو وحيد وفي غرفة صغيرة قاتمة، ولم يعش أي نوع من العزاء بابنه، ولم يتحدّث مع أحد عنه. كان ذلك واضحًا وجليًا في مباشرته ولهفته في الحديث عن ابنه: “أدهم حاجة تحفة”، “كان صخرة بالنسبة لي”، “ولا عمري بنساه”، “صعب أوصفه، إذا وصفته راح تقول ببالغ”، “والله انا سافرت عشان أدهم”.
خرج أبو أدهم من غزة نحو أوروبا لغاية الهجرة وتحصيل الإقامة ومن ثم التمكّن من لمّ الشمل واستحضار أبنائه، في مقدّمتهم أدهم. وحين اللقاء به لم يمل ولا للحظة ولم يقل شغفه واعتزازه بالحديث عن أدهم من طفولته إلى لحظة شهادته إلى تحقيق السلطات الهولندية معه، وتحديدًا وزارة الخارجية، حول طريقة استشهاد ابنه.
يتحدّث أبو أدهم عن طفولة ابنه البكر واصفًا كيف أنها مختلفة عن أي حياة لطفل وأبيه. لم يكن الفارق العمري بين أدهم وأبيه كبيرًا. يشرح العم كرم أبو شرخ كيف أن علاقته مع أدهم كانت مزيجًا بين الصداقة والأبوة: “عندما أشعر بالملل أبحث عن أدهم، نقضي الوقت في الحديث”، مشدّدًا على اختلافه مع أدهم في مواقف كثيرة إلى درجة الصدام واحتدام النقاش. يذكر أبو أدهم قصصًا كثيرة عن طفولة أدهم، تحديدًا تلك المواقف من صديق له متدين كان قد ائتمنه على تعليم ابنه القرآن في المسجد، وكيف أن الصديق كرر له أن ابنه فطن وذكي ومختلف عن أقرانه. يضحك أبو أدهم وهو يتذكر كيف أنه وحين يجتمع بأصحابه في المنزل يدخل أدهم ويسترق السمع ثم يدخل في الحديث ويجادل ويعبر عن مواقف سياسية بجرأة وحماسة. حتى حين يزوره الأصدقاء مرة أخرى يسألونه عن أدهم: “أين هو؟ نادي عليه”، يضحك أبو أدهم وهو يقول كيف أن أصدقاءه أصبحوا يزورونه لأجل ابنه أدهم لا لأجله.
لم يعش أدهم في كنف حياة زوجية مستقرة، إلا أن هذا ما جعله يتولى مسؤوليات أكبر من عمره كما يقول أبو أدهم، سواء في علاقته مع إخوته أو أبيه. ومما جعل العلاقة بينهما أقوى، أن الأب يعتمد عليه في كل الأمور. “كان سندًا حقيقيًا”، كان “رفيقي وابني”، يقول أبو أدهم. يكمل مصارحًا أن لخروجه من غزة قبل الحرب بسنتين سببان، وكلاهما متمحوران حول أدهم: الأول، رغبته بتوفير بيئة تثمن القدرات الكبيرة التي يمتلكها ابنه “تعرف لما يكون عندك حاجة ثمينة وبدك تحافظ عليها أنا هيك مع أدهم”. والآخر، يعبّر عنه لأول مرة، خشيته من أن أدهم “ينتمي”، أي أن ينتسب لأحد فصائل المقاومة. فبتعبير أبو أدهم، إن لشاب بهذا الذكاء والفطنة والصدق مسارين؛ إمّا النجاح المهني والتعليمي أو أنه سينتمي، وكأب أردت الحفاظ على ابني، غريزة حب لا يمكن لأحد القفز عليها.
علّ أحد شواهد قرب علاقة أدهم بأبيه هو صباح السابع من أكتوبر نفسه، استيقظ أبو أدهم في السفينة على اتصال من غزة فجرًا، في البدء ظن أن الخبر وفاة أحد من والديه، لكنه سرعان ما رأى المشاهد، لا ينفي أبو أدهم شعوره بالفرح، إلا أنه علم أن حياته ومشاريعه تغيرت للأبد، وأن القادم صعب. اتصل على أدهم قرابة الساعة الثامنة وبقيا معًا، الأب وابنه، في اتصال دام 4 ساعات، يراقبون ويناقشون الأحداث مع بعضهما، ليس أي أحداث بل إحدى أهم ساعات تاريخنا النضالي المعاصر، تابعها الأب وابنه معًا. يخبرنا أبو أدهم عن حماس وسعادة أدهم، وأيضًا قوله إن كان على المقاومة البقاء في المستوطنات وتحريرها وأن ننتقل للسكن فيها ونقاتل عنها وفيها. كان حماس الولد يسمع من أبيه الذي لم يخف خشيته، ليحدث ابنه عن التنسيق للخروج عبر مصر حيث كان حينها بمئات الدولارات فقط: أدهم أعمل لك تنسيق؟ يجيب جازمًا بالرفض. ولن تكون هذه المرة الأخيرة التي يخير فيها أدهم بين الخلاص والبقاء ولا يغير موقفه.
مع نشوب الحرب وبداية إعلان العدو للناس للنزوح للجنوب، كان أدهم في منزله قرب جباليا قد حسم قراره برفض النزوح، لم يوافقه على ذلك سوى جده وجدته، اللذان، وفقًا لأبو أدهم، من الجيل الذي جرب النزوح من قبل ويفضل الموت على تكراره، مكملًا أن بقاءهما شكّل حجة لأدهم لتبرير بقائه لأبيه: “بدك أترك أبوك وأمك؟” فيصمت الأب القلق. بقي أدهم وجده وجدته بالمنزل، حتى علم أبو أدهم بقصف المنزل المجاور تمامًا لمنزهم، فاتصل بصديق له يعمل في جهاز الإطفاء طالبًا منه الذهاب وتفقد المكان، لم يصدق الصديق أن أحدًا كان قد بقي في تلك المنطقة، وذهبوا وكان أدهم في المنزل وجدّته قد سقطت من السرير جراء القصف، لتصاب بكسور. وحدها الكسور أجبرت الجدة على قبول نقلها للمستشفى الإندونيسي ومن بعدها للسكن مع ابنتها. بقي الجد وأدهم في الشمال، وعلى إثر إصابة الأم، عاد أحد أعمام أدهم للشمال أيضًا، وأوكل لأدهم العناية بأبناء عمه وجدهم، ومن ثم تقصف العمارة التي هم فيها، وتشتد الأحزمة النارية، وهنا يواجه أدهم أحد أكثر القرارات والمعضلات الأخلاقية. وقف الشاب العشريني بين خيارين وواجبين نبيلين، البقاء والثبات في الشمال، وأيضًا تأمين جده وأبناء عمه الصغار للجنوب، فقرر أن الجمع أحوط، وأن عليه تأمينهم في الجنوب ثم العودة للشمال، ليذهب للجنوب وتغلق بعدها كل طرق العودة للشمال. يقول أبو أدهم إن ابنه كان غضبانًا جراء ذلك، وألقى باللوم على عمه، في كيف آلت الأمور ليكون حبيسًا نازحًا في رفح تاركًا جباليا خلفه. في ذات الوقت، أتت الموافقة من السلطات الهولندية ولمّ الشمل لأدهم وأخوته للقدوم لهولندا، ومرة أخرى يقول الأب لابنه سأدفع التنسيق الذي وصل لآلاف الدولارات واخرج من غزة، مجددًا رفض أدهم بشكل صارم.
خيّر أدهم بين البقاء في غزة وبين مجرد أسابيع، إن لم تكن أيام، والوصول إلى أوروبا، فكل الأوراق جاهزة، فرفض ولم يفكر للحظة، يقول أبو أدهم. إلا أن ما لم يعلمه أبو أدهم أن لابنه مخططات أخرى، ظانًا أن المسألة فقط عدم رغبة ابنه بالرحيل عن غزة، متمسكًا بالبقاء، “فأن تحارب هو أن تبقى” كما كتب أدهم يومًا. لم يكن يعلم أبدًا، بل لم يكن يتخيل، أن لأدهم أي علاقة بالسلاح أو العمل المسلح، معلقًا أنه لو كان يعلم لنزل إلى غزة وربط أدهم بالحبال فليس على أي أب أن يشهد فقدان ابنه.
صباح السبت الموافق للحادي عشر من مايو، زار أدهم خيمة أهله في رفح، تنقل أخته وجده أنه أخبرهم أن هذا هو اللقاء الأخير، ليتهكم عليه جده ويزجره، في هذا اليوم كان أيضًا الاتصال الأخير لأدهم مع أبيه، ثم وخلال الـ٢٤ ساعة التالية يشتبك أدهم مع قوات الاحتلال في رفح وينسحب وأثناء انسحابه استهدفته مسيرة صهيونية هو وصديقه ليستشهد على الفور.
تلقى أبو أدهم الاتصال من ابنه الثاني أحمد، الذي كان بدوره يبكي أخاه، صعق ولم يصدق، وحيدًا بين غرباء على سفينة، وكأن الدنيا توقفت، إلا أن العم الأربعيني يقول إنه بشكل غير مفهوم ومن أول اللحظات أفرغ الله عليه الصبر، وتوضأ وسجد وشعر بسكينة لم يشعرها في حياته. بعدها عاد واتصل بأحمد مستفسرًا عن تفاصيل الشهادة، وطلب صورة لابنه الشهيد، ليسأله أحمد إن كان متأكدًا، فيجيب بالتأكيد، ثم ليرى صورة ابنه مسجى شهيدًا بوجه سمح، صورة بدورها أدخلت السكينة في نفسه كما يقول أبو أدهم.
صدمتان تلتا الشهادة، ظن الأب أن ابنه قضى في قصف عشوائي، ومن ثم ليتفاجأ بخبر أن أدهم كان عائدًا من نقطة اشتباك. حينما رأى أبو أدهم صور ابنه ممتشقًا سلاحًا لم يصدق عينيه، لم يكن يعلم هذا الجانب عن ابنه، لم يعلم حتى أنه يعلم كيفية استخدام السلاح. بحث وسأل الأب بعدها أصدقاء ابنه الشهيد، كيف ومتى وأين؟ قبل الحرب، في الشمال، كان للشاب المثقف علاقة بالسلاح والاشتباك، وحين علق بالجنوب حاول الانتساب لكتيبة رفح في “القسّام”، إلا أن الكتيبة، وللمحاذير الأمنية، حصرت الانتساب بأبناء المحافظة، لا نعلم لأي فصيل انتمى أدهم أو أنه شكل خلية مع أصحابه، وقام دفاعًا عن حمى فلسطين وغزة مشتبكًا مع غزاة أرضه وأهله.
بالعودة إلى حساب ونشاط أدهم على منصة “أكس” في الأسابيع التي سبقت اشتباكه، نستطيع، ولو من بعيد، فهم ما كان يفكر فيه، كان حريصًا على الكتمان، لا ذرة من رياء، كان يعبّر بجمالية وصراحة عن حبه للمقاومة وفلسطين، كان بوعيه بمقام الشهيد الفدائي الفلسطيني أمامنا قبل شهادته. آخر تغريدة تشرح كل شيء، قبل أقل من يوم من استشهاده، أبيات مظفر النوّاب:
خذ سرعتك القصوى
انفجر
دمر أي مكان في العاصمة الإسرائيلية واستشهد
فالله سيلقاك قبيل وصول الأرض
أو أنت وصلت احتضنتك فلسطين
صعب أن نتخيل ونحن نرى العمليات الفدائية في فلسطين ماذا كان يفكر الفدائي قبل ذلك الإقدام البطولي والهجوم على المنية، ما الذي يشحذ به همته الأخيرة، أي مورد وحديث حدثه نفسه، بينما مع أدهم فهو رأى هذه الأبيات كرسالة أخيرة، لقيا الله سبحانه واحتضان فلسطين وكفى. للفدائي أحلام أخرى بعيدة عن حياتنا الدنيوية، فما أوصى أدهم وتمنى وتخيل صورتها وهي حي، بلاطة سوداء شاهدًا لقبره، يكتب عليها: “إن تراب العالم لا يغمض عيني جمجمة تبحث عن فلسطين”.
لم يكن الاشتباك المفاجأة الأولى التي يخبرنا عنها أبو أدهم، بل ما غير كل شيء فوق تغيير شهادة ابنه مقاوماً لكل شيء، هو حجم محبة الناس لأدهم، للإرث الذي تركه، لا يتوقف أبو أدهم بفخر واعتزاز عن تداول ونشر صور المنشورات المتعلقة بابنه، لصوره في كل مكان، لم يستوعب الأب حجم الرسائل التي أتته حول ابنه، ومع كل مرة يذكر فيها أحدًا راسله وسأله وأخبره بقصة وعمل حسن عن ابنه كان يختم الجملة: “الله يرضالي عليك يا أدهم”. كان الأب يرسل الأموال لابنه ليكتشف أنه كان يوزعها للناس. استشهد أدهم وفي حسابه 800 دولار، لم يكن لأبيه التصرف بها إلا بإكمال ما أراد ابنه وهو توزيعها على المحتاجين في غزة.
لم تكن الاتصالات المحبة لأدهم هي الوحيدة التي أتت لأبيه، بعد أيام من شهادته اتصلت وزارة الخارجية الهولندية بكرم أبو شرخ، واستدعته إلى لاهاي، زيارة عنوانها الاطمئنان والحرص والتعزية، والوعود الخاوية عن الرغبة في المساعدة. ذات الوزارة التي تبيع الكلام للغزاويين كما فعلوا مع أبو أدهم أن لا تخرجوا أهلكم بتنسيق فنحن سننسق مع “السلطات”، إلى أن أغلق المعبر. في مكتب الوزارة، وفي خضم الكلام المعسول، طرقت الباب موظفة عرفت عن نفسها بأنها مسؤولة “وسائل التواصل الاجتماعي في الوزارة” وبدأت باستجواب مريب للأب عن شهادة ابنه: كيف وأين؟ ولماذا لم يذهب للمناطق الآمنة؟ موحية بعلمها باشتباكه مع العدو، سؤال استنفر الأب الذي رأى فيه تبريرًا لقتل ابنه، فبالنسبة للغربيين موت الفلسطيني على أرضه موضع تحقيق. أجاب الأب بجسارة عن ابنه وعن أهالي غزة وعن كذبة المناطق الآمنة، لتأخذ الموظفة موقفًا دفاعيًا وتبرر بوقاحة أنها فقط تسأل من حرص.
بين إرثه العظيم وسيل المحبين من كل البلدان العربية، رسائل حب من لبنان والعراق وتونس أتت لأبي أدهم في ابنه، وبين شهادة لأدهم أرعبت مسؤولي حكومة غربية ليبحثوا خلف وحول الشهيد بعد شهادته نيابة عن “إسرائيل” وأصالة عن أنفسهم، يقف أدهم كشاب لم يبلغ الخامسة والعشرين، ولكن كنموذج حي لصورتنا المتخيلة كعرب للفتى الفلسطيني، ذلك الشاب الشجاع المؤمن القوي الوسيم الذي ينوب عنا ويمثلنا جميعًا في قتال الاحتلال. فكما القول الذي سنخلده لأدهم: “أنتمي للعداء لإسرائيل”، نحن ننتمي لك يا أدهم.