لعل من أكثر الأسئلة التي يطرحها المعادون للمقاومة الفلسطينية هو: لماذا لم تُجهّز المقاومة ملاجئ آمنة لأهالي قطاع غزة تحميهم من العدوان الإسرائيلي؟
أكثر الذين يطرحون هذا السؤال هدفهم تحميل المقاومة مسؤولية استشهاد المدنيين في غزة، وتبرئة “إسرائيل” من الجرائم. لكن البعض يطرح هذا السؤال عن حُسن نية.
بدايةً، تجدر الإشارة إلى أنّ عملية بناء الملجأ ليست بالسهولة التي قد يتخيلها البعض. فالملاجئ ليست مُجرّد مساحات فارغة تحت الأرض يأوي السكّان إليها، بل هي أماكن مُحصّنة، تُبنى باستخدام مواد خاصة من الحديد والإسمنت على أعماق معينة، كي تتمكن من حماية المختبئين فيها من القنابل والقذائف، كما من القنابل الخارقة للتحصينات.
وينبغي أن تتضمّن الملاجئ أنظمة تهوئة محمية من الاستهداف كي لا يموت اللاجئون إليها اختناقًا (وهذا مستحيل في قطاع غزة)، شبكات مياه آمنة كي لا يموت اللاجئون عطشًا (وبقاء شبكة المياه آمنة من العدوان الإسرائيلي مستحيل في قطاع غزة)، وحمّامات، وشبكات للصرف الصحي، ومواد غذائية كافية لإطعام ساكني الملاجئ طوال المدة التي سيمكثون فيها تحت الأرض.
باختصار، يجب بناء مدينة تحت كل مدينة، تتسع لمئات آلاف الأشخاص، مع ضمان بقاء مداخلها ومخارجها آمنة من القصف الإسرائيلي، وضمان بقاء الموجودين في الملاجئ على قيد الحياة.
أسباب عدم وجود ملاجئ في قطاع غزّة
– يبلغ طول قطاع غزة 41 كيلومترًا، ويتراوح عرضه بين 6 و12 كيلومترًا، بمساحةٍ إجمالية تبلغ حوالي 365 كيلومترًا مربعًا. مساحته الصغيرة وكثافته السكانية العالية تشكّلان عائقًا أمام بناء الملاجئ. فهي تحتاج إلى مساحات واسعة جدًا كي تتمكن من احتواء أكثر من مليوني إنسان. بالإضافة إلى ذلك، ثمة خطورة في وجود أعداد كبيرة من السكان في ملجأ واحد، والذي قد يؤدي إلى كارثة في حال تم استهدافه ولم يكن مُحصّنًا جيدًّا، علمًا بأن كيان الاحتلال يتعمّد إيقاع أكبر قدر ممكن من الخسائر البشرية في صفوف المدنين لمعاقبتهم على خيار المقاومة.
– الكلفة المالية لبناء ملاجئ (آمنة وفعّالة) عالية جداً. وقليلة هي الدول التي تتمكّن من بناء الملاجئ لجميع سكانها. وأول شروط ذلك هو الثراء الفاحش لهذه الدولة (إضافة إلى وجود ضمانات لديها بألا تتحوّل الملاجئ نفسها إلى أهداف للحرب). أما الحكومة في قطاع غزة، فهي بالكاد كانت قادرة على دفع رواتب الموظفين وتأمين مستلزمات الحياة للسكان، في واحدة من أكثر البقع الجغرافية فقرًا في العالم.
– في الإطار نفسه، ثمة صعوبة في إدخال مواد البناء إلى القطاع بسبب الرقابة التي يفرضها العدو الإسرائيلي على كلّ البضائع التي يتم إدخالها، ومنها منع دخول الاسمنت الذي يُستخدم للبناء. فمنذ العام 2007، بدأت «إسرائيل» بفرض قيود على دخول البضائع إلى غزّة، وصارت تتحكّم بالبضائع التي تجدها «أساسية» لتسمح بدخولها. أما المواد التي تُعتبر، وفقًا للمعايير الإسرائيلية «موادًا ثنائية الاستخدام»، والتي قد تستخدم من أجل أهداف عسكرية، فهي تحظر استيرادها. وتتضمن هذه القائمة الحديد والإسمنت، والتي تحتاج إلى تصريح مسبق يُبرهن سبب الحاجة لها.
– يمتلك العدّو أسلحة ثقيلة تجعل من الصعوبة صمود الملاجئ أمامها في حال استهدافها. فعلى سبيل المثال، زوّدت الولايات المتحدة «إسرائيل» في حربها الحالية على غزة بالقنابل الخارقة للتحصينات التي تزن الواحدة منها 900 كيلوغرامًا. يُضاف إلى ذلك، الأساليب التي يتّبعها العدو كضخ غازات سامة في الأنفاق وإغراقها بالمياه، ولن يكون مُستبعدًا أن يستخدمها العدّو ضد المدنيين في الملاجئ أيضًا، في حال وُجدت.
الفرق بين الملاجئ والأنفاق
في قطاع غزة شبكة من الأنفاق تُستعمل من قبل المقاومة للتنقّل ونقل الأسلحة وللاستعمالات العسكرية. تختلف الملاجئ عن الأنفاق من نواحٍ عديدة. فعملية بناء النفق أسهل ولا تحتاج إلى كمية الإسمنت والمواد الأولية نفسها التي تُستعمل في بناء الملاجئ. فالأنفاق عادةً ما تكون ضيّقة ومحدودة وتتّسع لعدد ضئيل من الأشخاص، ولها وظيفة محددة، وهي الحفاظ على سرية تحركات الجنود أثناء تنقلهم. ممّا يعني أنّه لا يمكن استخدام النفق كمأوى للحماية من الأخطار مثل الحروب، وهدفها الأساسي هو العمل كشبكة نقل.
السبب الثاني أنّ الملاجئ بحاجة إلى عناصر أساسية مثل التهوئة والمواد الغذائية والطبية ومساحة مُعيّنة لكلّ فرد وشبكة للصرف الصحي، على عكس الأنفاق التي تُعدّ غير صالحة لاستقبال المدنيين، إلا بالعشرات لا أكثر.
الملاجئ في دول العالم
إنّ مطالبة عدد من الناس المقاومة الفلسطينية ببناء ملاجئ لسكان القطاع، واعتبار أنّ المقاومة لا تُبالي بالشعب الفلسطيني لأنّها اهتمت ببناء الأنفاق عوض الملاجئ، هو أشبه بطلب بناء مدينة كاملة تحت القطاع، وذلك أمر صعب تنفيذه حتى في أغنى دول العالم، لأنه محكوم أيضًا بعوامل أخرى كعدد السكان ومساحة الدولة.
دول عدّة مثل الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا وفرنسا، وغيرها، لا تمتلك ملاجئ كافية لحماية سكانها في حال اندلعت حرب.
سويسرا هي من الدولة القليلة في العالم التي تمتلك عددًا من الملاجئ يُغطّي كل سكانها! وبحسب أرقام المكتب الفدرالي لحماية السكان لسنة 2022، فلـ8.7 مليون شخص يسكنون في سويسرا، تقدر السلطات على تأمين حماية 9.3 مليون ساكن يُوزعون على حوالي 370 ألف ملجأ، من ضمنها 9000 مخبأ عمومي. لكن وفق ما يُنقل عن خبراء في هذا المجال، فإنّ عدد سكان سويسرا، الذي يُصنّف بين متوسط إلى منخفض نسبة إلى مساحتها، يُسهّل عملية تأمين ملاجئ لجميع السكان، على عكس باقي الدول المكتظة بالبشر في مساحة صغيرة. فضلاً عن ذلك، فإن سويسرا دولة غنية جدًا، قادرة على بناء ملاجئ لسكانها. يُضاف إلى ذلك أن بناء الملاجئ يفترض أن الملاجئ نفسها، في سويسرا مثلاً، لن تتحوّل إلى أهداف عسكرية، بخلاف واقع الحال في فلسطين المحتلة، حيث يتعمّد الاحتلال استهداف المدنيين.
بناءً على كل ما سبق، فإن خطوة بناء ملاجئ في قطاع غزة صعبة للغاية، بل أشبه بالمستحيلة. فالعدو الإسرائيلي الذي يُحاصر أكثر من مليوني إنسان، ويمنع دخول المواد الأساسية ومواد البناء، يُسيطر على الأموال والمساعدات المُتوجهة إلى القطاع، ولن يسمح أن يكون سكّان غزة بمأمن من نيرانه.