لا تزال ورقة “المدنيين” تشكّل نقطة الضغط الأبرز التي يمتلكها الاستعمار بوجه الحركات السياسية المقاومة لمشروعه. وفي الحالة العربية والفلسطينية تحديدًا، فإنّ استهداف المدنيين من قبل آلة القتل الغربية-الصهيونية هو استراتيجية قائمة بذاتها، وهي تحمل أهدافًا متعددة تتراوح ما بين الإبادة إلى إرهاب الجموع والضغط السياسي. طوال عقود الحرب الصهيونية على الشعب العربي، شكّلت ورقة المدنيين نقطة ضغط هائل على حركات المقاومة عبر العصور، منذ ثورة 1936 والتنكيل بأهل القرى مرورًا بمجازر 1948 وليس انتهاءً بواقع الإجرام الإبادي الذي نشهد اليوم في غزة. وتقوم سياسة التنكيل بالمدنيين على ركيزتين أساسيتين:
أولهما، التفوّق العسكري الذي يسلب فكرة “الحماية” من أهل الأرض، ويمنع أي سبيل للدفاع عن العزّل من خلال تأمين القدرة على الوصول إلى واستهداف “نقطة الضعف” للعمل المقاوم عبر زيادة الأعباء على حاملي السلاح.
أما الركيزة الثانية إلى جانب القدرة العسكرية، فهي العقيدة الإبادية التي تدفع بالقوّة العسكرية المستعمِرة إلى “تحليل” كلّ أساليب الإجرام بهدف تحقيق المكسب السياسي الثنائي-الوجهة: الاستسلام والإبادة.
بالمقابل، تواجه حركات المقاومة العربية أزمةً مستمرة في مواجهة هذه المعضلة. إذ على الرغم من إخلاص وصدق الفعل المقاوم تجاه الشعب المظلوم، ونجاعة هذا العنف المضاد على طريق تحقيق حرية الشعب، تظلّ عقدة الحصار حاضرةً لناحية التسليح. فالمقاومة العربية بكافة فصائلها، لا تزال حتى هذه اللحظة الطرف الأضعف في المعادلة لناحية التسليح، لا سيّما في مجال القوّة الجوية وقدراتها الهائلة على التدمير والقتل وتحقيق الأذى. ومن المعروف أنّ حصار الإمكانيات هو الوجه الآخر لمشروع الإبادة الغربي، والذي تتكفّل بتحقيقه أنظمة العمالة العربية المحاصِرة للمقاومة الفلسطينية. حتى على الصعيد التاريخي، لم يكن حصول الجيوش العربية المقاتلة للعدو في سوريا ومصر على أسلحة “كاسرة للتوازنات” أمراً متوفّراً خلال حقبة الحرب الباردة. ولهذا، أُريد للعرب أن يواجهوا آلة الإبادة الابتزازية المتحررة من أبسط أخلاق الحرب بسلاح محدود وسماء مفتوحة في معارك أبعد ما تكون عن التكافؤ.
بالإضافة إلى ذلك، من المهم النظر إلى الشكل التنظيمي لحركات المقاومة العربية ودور هذا الشكل في تحديد القدرة على تقليص أثر ورقة المدنيين، عبر الاستعانة بدروس تجارب ثورية سابقة وحالية. سواءً عبر الجيوش أو الحركات الشعبية، تقوم فكرة المقاومة العربية على الاختصاص، أي تدريب وتجهيز الفرد بدرجات متفاوتة من السريّة ضمن أطر منظّمة ومنفصلة عن عامة الناس.
على النقيض من ذلك، شكّل النموذجان الفيتنامي والكوبي تنظيمًا أكثر دمجًا للفعل المقاوم في الحياة العامة. على سبيل المثال، يشرح الجنرال الفيتنامي (جياب) هيكلية التنظيم المسلّح في مواجهة الاحتلال الأمريكي -الذي كان يرتكز على التفوق الجوي الهائل- عبر ثلاث طبقات مقاتلة في المجتمع. الطبقة الأدنى هي طبقة “العوام”، أي العمال والفلاحين من رجال ونساء، الذين يخضعون لدورات تدريبية أساسية في الدفاعات الجوية والاشتباك الميداني، فيشكّلون صفًّا خلفيًّا مقاتلًا وحاضرًا للاشتباك في أغلب مواقف العدوان. ومن القصص الشهيرة في فيتنام تلك التي تُحكى عن عمال حقول الأرز الذين كانوا يتركون محاصيلهم ويذهبون إلى المضادات الأرضية فور سماعهم هدير الطائرات الأمريكية!
هذه الهيكلية أثبتت نجاحها في حرب فيتنام، ليس بأنّها منعت التنكيل بالمدنيين ولا قللت من أعداد شهداء الغارات، بل بأنّها حوّلت المدنيين إلى مقاتلين على استعداد للاشتباك مع العدو والتضحية في سبيل القضية. بمعنى آخر، ازدادت القوة النارية المقاوِمة وتنوّعت مصادرها فيما تقلّصت “خسارة” العزّل بدون قتال (وهي خسائر يستحيل تصفيرها في مثل هذه الحروب). بالتأكيد، الوصول إلى هذه المرحلة من الانخراط الجماعي في المعركة يتطلب جهدًا مهولًا في التعبئة والتثقيف السياسي والعمل الميداني الحزبي ضمن بيئة شبه-خالية من العملاء، وهو ما يصعب توفّره في الحالة العربية لعوامل عديدة يطول شرحها.
بالمقابل، فإنّ الاستراتيجية العربية الأنجع تتمثّل في مراكمة القوة النوعية التي تردّ الأذى بالأذى وتخلق ما يُعرف بالردع. التطبيق الأمثل لهذه الاستراتيجية جاء في حرب 1996 في لبنان، حين نجحت المقاومة في تثبيت معادلة “العسكر بالعسكر”، والتي ساهمت لاحقًا في تسريع إنجاز التحرير. هذه المعادلة تكررت في حروب غزة وما تلاها من تفاهمات قامت على أساس “كسر الحصار مقابل الهدوء”، وما زلنا نشهدها على الجبهة اللبنانية اليوم بشكل أوضح.
لكن، وبعد طوفان الأقصى، يظهر جليًّا أن العدو لا يملك في الميدان سوى ورقة التنكيل بالمدنيين في غزة، وحتى في الضفة والقدس، لتحسين شروطه في مفاوضات الهزيمة. وعلى الرغم من ثبات المقاومة ميدانيًا وسياسيًا، لا مفرّ من مواجهة “فاتورة الدم” التي يسعى العدو إلى تضخيمها لزيادة الأعباء الاجتماعية والنفسية الضاغطة على قرار المقاومة الفلسطينية خلال المفاوضات وفي مرحلة ما بعد الحرب. قدرة المقاومة على ترميم وتعزيز قدراتها قد تشكّل تحديًا أسهل أمام الحاجة إلى تحقيق التكافل المجتمعي والشعبي الضروري ليس لتعويض المجتمع الفلسطيني في غزة، بل لدفعه نحو مكانة أسمى في المرحلة المقبلة؛ مكانة يتقلّص فيها أثر “ورقة المدنيين” إلى مستوياتها الأدنى. وتحقيق ذلك لن يأتي إلا بتطبيق أحد النموذجين: إما النموذج الفيتنامي على كامل خارطة فلسطين السياسية، وإما نموذج حزب الله في الردع بالقوّة على طول خطوط المواجهة في فلسطين. النموذج الأول شرطه تجذير العمل السياسي وتسخير كل الطاقات الفلسطينية للوصول إلى درجة الانخراط الأعلى. أما النموذج الآخر، فهو يستوجب كسرًا جديًا للحصار على غزة والضفة، وذلك أيضًا يحتاج إلى عمل فلسطيني-عربي كاسر لتوازنات خارطة الهيمنة الأمريكية. فماذا نختار؟ هو سؤالنا جميعًا.
حرب الإبادة على شعبنا لن تتوقّف بوقف إطلاق النار في غزة وجبهات إسنادها، وسقف المواجهة سيرتفع حتمًا مع اتضاح حجم الهزيمة السياسية للعدو. ولهذا، علينا أن نبحث عن أجوبة المرحلة المقبلة، متمسّكين بحاجتنا إلى تحويل كل تهديد إلى فرصة.