تعدّ جمهورية الصين الشعبية أكبر شريك تجاري لـ”إسرائيل” في آسيا، إلا أن مصالحها التجارية والاقتصادية لم تمنعها من عدم إدانة عملية “طوفان الأقصى” – مثلما سارعت إلى فعله معظم دول العالم – وتوجيه أصابع الاتهام إلى حركة حماس. على العكس من ذلك، دعت حكومتُها، في الثامن من أكتوبر، جميع القوى المعنية إلى “التزام الهدوء وضبط النفس وإنهاء الأعمال العدائية على الفور”. واعتبر وزير خارجيتها، في 14 أكتوبر الماضي، بأنّ التصرّفات الإسرائيلية “تتجاوز منطق الدفاع عن النفس”، مُطالبًا بالتوقّف عن “فرض عقوبات جماعية على الفلسطينيين”. وقد سبق لرئيسها، شي جين بينغ، أن ذكّر، في ديسمبر من عام 2022، بمطالب بلاده “إقامة دولة فلسطينية مُستقلة عاصمتها القدس الشرقية”.
بـ”القوة الناعمة” تقوم الصين بمواجهة الحرب الصهيونية على قطاع غزة والضفة الغربية؛ فاستخدمت – إلى جانب روسيا – حقّ النقض في مجلس الأمن لمنع إقرار مشاريع قرارات أمريكية، اعتبرتها “مشبوهة ومُسيّسة”، لصالح “إسرائيل”. وتوقّفت كبرى شركات الشحن المملوكة للدولة، “كوسكو”، عن الشحن إلى الموانئ الإسرائيلية. ومنعت سفر المزيد من العمّال الصينيين إلى الأراضي المُحتلة. وهي تُعرقل تصدير الصادرات المدنية العسكرية والمواد الأولية للتصنيع التكنولوجي.
بعد سنوات طويلة من “تحييد” نفسها عن منطقة المشرق العربي، وعدم رغبتها في تحويلها إلى ساحة نزال مع الولايات المتحدة الأمريكية، يبدو أنّ الصين قرّرت تعديل استراتيجيتها في هذه المنطقة، وعدم الاكتفاء بـ”التغلغل” التجاري والاقتصادي. مراقبة وتحليل ما يصدر من الصين حول الحرب الإسرائيلية على شعب فلسطين، مُستمرة في مراكز الدراسات والقرار والمؤسسات الإعلامية الغربية منذ السابع من أكتوبر. يجمع بين كلّ التقارير نقطة واحدة؛ أنّ الصين “تنظر إلى مثل هذه الصراعات على أنّها فرصة لتحويل الضغط الدبلوماسي الدولي والرأي العام ضدّ واشنطن”، محاولين بذلك تبرير عدم تقديم بكين الدعم لـ”إسرائيل”.
فماذا تُريد الصين من الحرب الإسرائيلية على فلسطين؟ هل تعتبرها “فرصة” لتظهير صورة الولايات المتحدة كـ”مُخرّبة الشرق الأوسط”؟ هل ترى فيها إمكانية لـ”الانتقام” من “إسرائيل” لمشاركتها في “ممر الهند – الشرق الأوسط – أوروبا” (IMEC) الذي جرى إطلاقه كمنافس لـ”مبادرة الحزام والطريق” الصينية؟ أم هل تريد الضغط لفرض خيار الدولتين كـ”حلّ وحيد” لإنهاء الحرب وإنشاء “الدولة” الفلسطينية الموعودة؟
الصين لا تدين حماس
انتظرت السلطات الصينية حتى اليوم التالي لاندلاع “طوفان الأقصى” حتى تُعلّق على الأحداث. ورغم أنّ الصين لم تدعم عملية حركة حماس ولم تتخّذ منذ سنوات موقفًا رافضًا للاحتلال وبناء المستوطنات، إلا أنّ الموقف الصيني “الموزون” لم يُعجب أنصار الاحتلال في الدول الغربية. فما ركّز عليه داعمو “إسرائيل” هو “رفض الصين إدانة حماس” واستغلالها ما يجري في صراعها ضدّ الولايات المتحدة. مايكل سينغ واحد من هؤلاء. فالمدير الإداري لـ”معهد واشنطن” والمدير السابق لشؤون الشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي الأمريكي، كتب مقالةً اعتبر فيها أنّ خروج الصين عن نهجها تجنّب التورّط في صراعات الشرق الأوسط “يعكس ميل الحكومة الجديد إلى استخدام الصراعات البعيدة كفرصة لتقويض نفوذ الولايات المتحدة وتسجيل نقاط لصالحها (الصين) في الجنوب العالمي”. يجزم مايكل سينغ أنّ الصين “لم تُشكّل بعد لاعبًا دبلوماسيًا جديًا في الشرق الأوسط، على النقيض من الولايات المتحدة، التي تعتبرها الدول العربية عنصرًا لا غنى عنه لحل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني. وفي الأزمة الحالية، من غير المُرجّح أن تكتسب الصين دورًا دبلوماسيًا مهمًا”، حتى لو بدأت تنظر إلى مثل هذه الصراعات “على أنّها فرص لتحويل الضغط الدبلوماسي الدولي والرأي العام ضد واشنطن”. وفيما اعتبرت الخبيرة في الشؤون الصينية، والزميلة في “معهد بروكينغز” الأمريكي، باتريسيا كيم، أن “ليس لدى الصين أي مصلحة في التدخّل بشكل مباشر في النزاعات التي قد تُعرّض علاقاتها في المنطقة للخطر”، رأى المؤسس المُشارك لمشروع “الجنوب العالمي الصيني”، إريك أولاندر، أنّ أداء الصين في حرب غزّة “يصبّ في صالح استراتيجيتها لإظهار نفاق الأمريكيين فقط”. هل هؤلاء، وغيرهم من المُحللين، مُحقّون في أنّ الصين لا تنظر إلى المنطقة أبعد من دورها الاستراتيجي في مبادرة “الحزام والطريق”، وأنها لا تتعامل مع دولها ونزاعاتها الجيوسياسية كساحة مُحتملة لتظهير الصراع الصيني – الأمريكي؟
جدل السياسة والتاريخ وأولوية السياسة
للزعيم الصيني ماو تسي تونغ مقولة شهيرة عن وجود “مركزين إمبرياليين في العالم: تايوان وإسرائيل”. فقد اعتبر أنّ النضال الفلسطيني ضدّ الاحتلال هو أحد جوانب النضال الأوسع ضدّ الإمبريالية الغربية. من هذه الخلفية، برزت علاقة ماو القوية بمنظمة التحرير الفلسطينية، وكانت الصين أول دولة غير عربية تعترف بمنظمة التحرير. استُقبل رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير في حينه، أحمد الشقيري، في مارس من سنة 1965، وافتُتح مكتب للمنظمة في الصين، قبل أن يُحوّل سنة 1974 إلى مقر دبلوماسي فلسطيني، وتعترف الصين سنة 1988 رسميًا بالدولة الفلسطينية.
في حديث إلى “الكرمل”، يشرح أحد الاقتصاديين المُختصين بالمسألة الصينية رؤية الصين للتاريخ والسياسة بعيدة المدى. يتحدّث عن “جدل السياسة والتاريخ”، بمعنى أنّ الصين “من الحضارات الأولى في العالم. كانت سنة 1949 من أفقر دول العالم، واليوم هي ثاني أغنى دول العالم وربما تكون الأولى حتى. كيف انتقلت من تلك المرحلة إلى هذه الحالة؟ كيف تمكّنت من مواكبة التاريخ؟ عبر بناء علاقات تجارية حتى ولو كانت مع أعدائها، فالأساس هو الحصول على التقنيات اللازمة لمواكبة التاريخ، وللتطور إلى مستوى يُجبر الجميع على التعامل والتبادل التجاري معها بطريقة لا تُمكّنهم من اجتثاثها مستقبلاً”. السياسة لدى الصينيين أهم من الاقتصاد، “فبعد مقولة جدل السياسة والتاريخ، تأتي أولوية السياسة. بناء اقتصاد فعّال هو أساسي لبناء مصدر قوّة يُمكّن الصين من الدفاع عن نفسها ومراكمة الأرباح التصاعدية، بأنواعها كافة”.
يُقدّم هذه النظرية ليقول إنّ التعاون التجاري بين الصين وكيان الاحتلال، لا يلغي “وجود مدّ جماهيري في الصين مُعادٍ لأمريكا ولإسرائيل، ومؤيد لقضايا العرب، تحديدًا الجزائر وفلسطين، ويعترفون بحقّ العودة للشعب الفلسطيني”. انطلاقًا من هنا يُفهم الموقف الصيني من “طوفان الأقصى”. أمّا ما يُقال عن تغيير الصين استراتيجيتها عدم التدخّل ومواجهة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، “فأمر طبيعي لأنّ هذه الإمبراطورية الإمبريالية (أمريكا) الهشّة من الداخل ستردّ على التهديد في الشرق الأوسط بتحريك جبهة تايوان. وهذا ليس وقته بالنسبة للصينيين”. هل تكون، إذًا، عملية السابع من أكتوبر حجّة صينية للتدخّل في الشرق الأوسط؟ “أساسًا الصين مرتبطة ومُتجذرة بالمنطقة ولكن بطريقة ناعمة. فهي الشريك التجاري الرئيسي لمعظم دول المنطقة، كما لكيان الاحتلال”.
في البدء كان التعاون الأمني
بدأت العلاقة بين الصين و”إسرائيل” من خلال تجارة الأسلحة السرية والتعاون الأمني منذ أواخر السبعينيات حتى أواخر الثمانينيات من القرن الماضي، بسبب الخلاف بين الاتحاد السوفياتي والصين، والذي أجبرها على البحث عن مصدر آخر لتحديث معدّاتها العسكرية سوفياتية الصنع، فوقع الخيار على “إسرائيل”. مع مؤتمر مدريد، قرّرت بكين أنّها لا تُريد أن يفوتها قطار “عملية السلام” بين أنظمة التطبيع العربية والعدوّ، فأعلنت العلاقات الدبلوماسية الرسمية مع “إسرائيل” عام 1992.
يُعيد الباحثون التقارب الصيني – الإسرائيلي إلى سياسة الرئيس الراحل، دينج شياو بينغ، التي “وضعت السياسة الخارجية في خدمة التنمية الاقتصادية الداخلية، فكان التعاون بين الفريقين في مجالات الطاقة الشمسية والتكنولوجيا الزراعية”. كما أنّهما عزّزا تعاونهما الأمني، إذ تتفيد دراسة لـ”مركز الجزيرة للدراسات” بأنّه بين سنوات 1984 و1994، باعت “إسرائيل” إلى الصين أسلحة بقيمة 7.5 مليار دولار، فضلًا عن التعاون العسكري لإنتاج طائرات مقاتلة وأنظمة للسيطرة.
وُقّعت اتفاقية التجارة الحرّة بين الصين الشعبية و”إسرائيل” سنة 1985، وتعرّضت للتحديث والتعديل مرّات عدّة. خلال هذه المدة، تضاعف حجم التجارة بينهما من حوالي 11 مليار في سنة 2011 إلى أكثر من 24 مليار دولار في عام 2022. خلال هذه المدّة:
- تحوّلت الصين إلى ثاني أكبر سوق للصادرات الإسرائيلية، برز منها على سبيل المثال اتفاق عام 2022 لتصدير تكنولوجيات ريّ المياه الإسرائيلية إلى الصين بكلفة وصلت إلى أكثر من بليون شيكل (حوالي 265 مليون دولار أمريكي).
- تم توقيع اتفاقية تعاون بين الاثنين لإنشاء خطّ سكة حديد تجاري بديل من قناة السويس لربط البحر الأحمر بالبحر الأبيض المتوسط.
- استورد كيان الاحتلال من الصين ما له علاقة بتكنولوجيا الاتصالات والمعلومات والمواد الطبية والمعدّات الزراعية.
- وقّع الفريقان اتفاقية “شراكة مبتكرة شاملة” في عام 2017، والتي جعلت من الصين أكبر شريك تجاري لكيان الاحتلال.
- فازت مجموعة “شنغهاي الدولية للموانئ” (SIPG) – المملوكة من الدولة – بمناقصة تشغيل محطة جديد في ميناء حيفا المُحتل.
- شركات صينية تُدير أعمال التعدين وبناء الميناء الجنوبي في أسدود.
- كُلّفت شركات صينية تأسيس السكك الحديدية الخفيفة في تل أبيب وحفر أنفاق في الكرمل والقدس المحتلتين ومنطقة غوش دان الاستيطانية (تل أبيب وضواحيها).
- دخلت شركة “هواوي” الصينية عام 2019 إلى قطاع الطاقة الشمسية الإسرائيلي، عبر توقيع اتفاقية مع شركة “زينغ إينيرجي” الصهيونية لتركيب محوّلات الطاقة الشمسية في العديد من مشاريع مزارع الطاقة الشمسية.
- وُقّعت اتفاقية بقيمة 300 مليون دولار بين شركة “كولور شيب” الإسرائيلية مع الشركات الصينية، تحدّد الاعتماد المتبادل بين البلدين.
- عام 2019، وقبل انتشار فيروس “كورونا”، وصل عدد السائحين الصينيين إلى الأراضي المحتلة أعلى مستوى له، إذ بلغ الرقم 156 ألف سائح.
- في أبريل من عام 2019، أصبح اليوان الصيني جزءًا من احتياطيات البنك المركزي الإسرائيلي.
- احتلّت السيارات الصينية المرتبة الثانية في صادرات السيارات إلى كيان الاحتلال عام 2023. وخلال الربع الأول من ذلك العام، بيعت نحو 18 ألف سيارة صينية، بما نسبته حوالي 17٪ من سوق مبيعات السيارات في الأراضي المُحتلة.
- استحوذت الصين على شركات إسرائيلية في قطاع التكنولوجيا. فكشفت دراسة لمؤسّسة “راند” الأمريكية للأبحاث أنّه بين عامَي 2011 و2018، وصل حجم الصفقات المبرمة والاستثمار الصيني في قطاع التكنولوجيا الصهيوني إلى 5.9 مليارات دولار.
- استحوذت الصين على واحدة من أكبر شركات الأغذية، “تنوفا”.
… إلى أن حلّ عام 2023، وسُجّل تراجع بنسبة 18% في أرقام التجارة بين الفريقين، مقارنة بالعام 2022. فوفقًا لأرقام مكتب الإحصاء المركزي الإسرائيلي، بلغ حجم التبادل التجاري بين الصين والاحتلال في عام 2023 حوالي 14.5 مليار دولار. ولكن التراجع في حجم التجارة الإسرائيلية لم يقتصر على الاستيراد والتصدير مع الصين، “فإجمالي التجارة الإسرائيلية انخفض من 163 مليار دولار في عام 2022 إلى 143.8 مليار دولار في عام 2023”. قبل “طوفان الأقصى”، اتسّم الوضع العام في “إسرائيل” بعدم الاستقرار السياسي والاقتصادي نتيجة الجدل حول مشروع التعديلات القضائية التي كان ينوي رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، تمريره مقابل معارضة قوى سياسية وقضائية واقتصادية. أمّا في ما يتعلّق بالصين تحديدًا، فهي قد خفّضت أيضًا صادراتها إلى كيان الاحتلال، وباتت العلاقة أكثر تأثّرًا بالضغوط الأمريكية.
فيتو أمريكي على التبادل التكنولوجي مع الصين
لطالما شكّلت العلاقة الصينية – الإسرائيلية هاجسًا للولايات المتحدة الأمريكية، تحديدًا السوق المفتوحة أمام الصين للحصول على التكنولوجيا المُتقدمة. فـ”إسرائيل”، بصفتها وكيل الإمبريالية العالمية في قلب العالم العربي، تتلقّى الخبرات التشغيلية والاستثمار والأبحاث في مجال التكنولوجيا المتقدمة، التي يسعى الغرب إلى حجبها عن دول الجنوب وعن الصين بصفتها الغريم الأول لأمريكا. فاحتكار المعرفة هو واحد من أوجه الاستعمار والإمبريالية. أن تكون السوق الصهيونية التكنولوجية مفتوحة أمام “التنين الصيني” أمرٌ بالتأكيد لا يرتاح له الأمريكي.
في تقرير لمؤسسة “راند“، جرى التحذير من هذه الفكرة بالقول:
“إنّ قيام الصين ببناء وتشغيل مشاريع البنية التحتية الرئيسية في إسرائيل يثير مخاوف سياسية وأمنية ومن الممكن أن يؤدي الاستحواذ على الشركات الإسرائيلية والمعرفة المتولدة من خلال التعاون الأكاديمي إلى تمكين الصين من اكتساب تكنولوجيات بالغة الأهمية، مع عوائد غير كافية لإسرائيل (…) تركيب الصين للكاميرات والراديو والألياف الضوئية والشبكات الخلوية والوصول إليها يزيد من مخاطر الأمن السيبراني وخصوصية البيانات والتجسس (…) ويثير التدخل الصيني في الموانئ التجارية المتاخمة للقواعد البحرية الإسرائيلية مخاوف أمنية لإسرائيل وربما للولايات المتحدة”.
انصاعت “إسرائيل” مرات عديدة للأوامر الأمريكية بتقييد العلاقة مع الصين:
- عام 2000، ألغيت صفقة بيع نظام الرادار المحمول جوًا “فالكون” إلى الجيش الصيني، واضطر العدو إلى دفع غرامة قدرها 350 مليون دولار.
- سحب مشروع تشغيل منشأة “سوريك” لتحلية المياه من يد الصين لأنّها مجاورة لقاعدة “بالماخيم” الجوية ومركز “ناحال” للأبحاث النووية.
- عام 2004، أعادت الصين مسيّرات “هاربي” الإسرائيلية إلى كيان الاحتلال لتحديثها، فأعيد تصديرها إلى بكين من دون تحديث، بعد أن كانت أمريكا قد طالبت البنتاغون بمصادرتها.
- عام 2019، أدّت الضغوط الأمريكية إلى إنشاء كيان الاحتلال لجنة استشارية تعتمد آلية لـ”فحص الاستثمار”، مهمتها دراسة تأثير المشاريع الأجنبية (خاصة الصينية) على الأمن القومي الصهيوني (اقرأ: الأمريكي).
- تضغط الولايات المتحدة لوقف التعاون مع الجامعات الصينية لوضع حدّ للتعاون البحثي وتطوير التكنولوجيا المشتركة.
مقابل ترسيم حدود العلاقة مع الصين، وحجب العديد من الاستثمارات، “عوّضت” أمريكا على كيان الاحتلال خسارته عقودًا تجارية بتعزيز علاقاته بأنظمة التطبيع العربية التي تأخذ المصالح السياسية والعسكرية الأمريكية بعين الاعتبار، لا بل تعمل من أجلها. وبالتالي، سيكون من الأسهل إدارة وتحريك علاقات سياسية وتجارية بين “وكيلين” (أنظمة التطبيع العربية وكيان الاحتلال) لنفس “الشركة” (أمريكا)، من فتحها أمام المارد الصيني. وأتت تصريحات عدد من المسؤولين الإسرائيليين في هذا الخصوص لتزيد من “مشروعية” القرارات الأمريكية.
“شهر عسل العلاقات الإسرائيلية الصينية قد انتهى”، كلمات مدير مكتب الصين بمعهد الأمن القومي الصهيوني، أساف أوريون، تختصر المشهد الرسمي. وقد عمد الإسرائيليون إلى تسويق استطلاع للرأي عام 2022 يُشير إلى تراجع نسبة المستوطنين الذين ينظرون بإيجابية للعلاقة مع الصين من 60% إلى 48%. وحذّر رئيس “الموساد” السابق، أفرايم هاليفي، من أنّ السيطرة الصينية على استثمارات أساسية في كيان الاحتلال “تُضعف السيادة الإسرائيلية وتُضعف قدرتها على التعامل مع تصعيد الصراع أمام إيران”، بسبب العلاقات الجيدة بين إيران والصين.
مخاوف الولايات المتحدة من ما تسمّيه “تغلغل الصين في منطقة الشرق الأوسط” ونموّها التكنولوجي، “تُعزّزها” الصين بموقفها من القضية الفلسطينية، كتصريح وزير الخارجية، وانغ يي، أنّه “ينبغي للدول الإسلامية أن يكون لها صوت واحد بشأن القضية الفلسطينية، ويجب تعزيز الوحدة والتنسيق”.
الصين تعاقب “إسرائيل”؟
حديث وزير الخارجية الصينية هو موقف جمهورية الصين الشعبية في دعم القضية الفلسطينية، على طريقتها. بعد “طوفان الأقصى”، استخدمت بكين سلاح الدبلوماسية لتمشي بين النقاط، فلا يُسجّل ضدّها تهليلها لعملية المقاومة، وفي الوقت نفسه لا يُحسب عليها سكوتها عن الإبادة التي يتعرّض لها شعب فلسطين. ولكن عمليًا، اتّخذت الصين قرارات عدّة أزعجت بها الكيان الصهيوني. في هذا المجال، استُخدم سلاح الاقتصاد لليّ ذراع “إسرائيل” ومن خلفها الولايات المتحدة:
- توقّفت شركة الشحن الصينية “كوسكو” عن الشحن إلى الموانئ الإسرائيلية. “كوسكو” هي رابع أكبر شركة في سوق الحاويات، بنسبة 11% تقريبًا من إجمالي التجارة العالمية. واشتكى المستوردون الإسرائيليون من أنّ الاستيراد عبر طرف ثالث زاد من تكاليف الشحن والتجارة وأدّى إلى تأخير موعد التسليم.
- مغادرة حوالي 10 آلاف عامل صيني الأراضي المحتلة بعد 7 أكتوبر معظمهم يعمل في قطاع البناء.
- اشتكت شركات التكنولوجيا المتقدمة الإسرائيلية من تأخّر الصين في توريد المواد التي تُستخدم في التصنيع التكنولوجي لأغراض مدنية وعسكرية.
هذا عدا عن الاتهامات الإسرائيلية للصين بأنّها تُسهّل تسويق المحتوى المعادي لكيان الاحتلال على وسائل التواصل الاجتماعي، واعتماد سردية مؤيدة للمقاومة في وسائل الإعلام التابعة لها.
حاولت مؤسسات الدعاية الأمريكية والصهيونية الإيحاء بأنّ أحد دوافع الموقف الصيني مؤخرًّا هو مشاركة “إسرائيل” في مشروع “ممر الهند – الشرق الأوسط – أوروبا” الذي تطرحه الهند ليكون منافسًا لـ”مبادرة الحزام والطريق” الصينية. في كلّ الأحوال، الخلاصة التي يخرج بها المسؤولون في كيان الاحتلال هي أنّ “الخطوات التي اتخذتها الصين تُشير إلى أنّ مصالحها تكمن في الحفاظ على شراكتها الاستراتيجية مع إيران، على حساب المصالح الإسرائيلية. يجب على إسرائيل التأكّد من أنّها لا تعتمد على الصين، وأنّ بكين ليست في وضع يسمح لها بتعطيل بنيتها التحتية الحيوية”.