في 10 سبتمبر / أيلول 2023، أعلن رئيس مجلس الوزراء الهندي، ناريندرا مودي من قمة مجموعة العشرين (مُنتدى دولي يجمع بين رؤساء الدول أو الحكومات ووزراء المالية ومحافظي البنوك المركزية لـ 20 دولة من أكبر اقتصادات العالم، والاتحاد الأوروبي) عن إنشاء ممّر اقتصادي جديد هو «ممر الهند – الشرق الأوسط – أوروبا» (IMEC)، تُشكّل «إسرائيل» نقطة ارتكاز فيه.
في 7 أكتوبر / تشرين الأول، أعلن (وبطريقة غير مقصودة) مقاومو كتائب الشهيد عزّ الدين القسّام من مستوطنة «عسقلان» وبقية مستوطنات غلاف غزّة، عن توقّف العمل بالمشروع الهندي، على الأقل في المديين القصير والمتوسّط. تجميد المشروع يُعدّ من النتائج غير المُباشرة للحرب الإسرائيلية على قطاع غزّة.
الممرّ الاقتصادي الذي كان من المُخطّط له أن يربط بين آسيا والخليج العربي وأوروبا يكشف عن جانبٍ من التعاون الاقتصادي – الأمني – العسكري – الاستراتيجي الوثيق بين الهند من جهة وكيان العدّو من جهة أخرى. ويُفسّر في جانب منه موقف حكومة مودي الشرِس في الدفاع عن «حقّ اسرائيل» بإبادة الفلسطينيين.
ما هو «ممر الهند – الشرق الأوسط – أوروبا» (IMEC)؟
الممر الهندي هو في الأصل مشروع جيو – اقتصادي أمريكي لمواجهة حضور الصين المُتصاعد في الشرق الأوسط، وتحديداً مُبادرة «الحزام والطريق» الصينية (وُقّعت العقود المرتبطة بها عام 2013 وهدفها تحسين الترابط والتعاون على نطاق واسع يمتد عبر القارات. تضم أكثر من 150 دولة و30 منظمة دولية، وتمويلها يقترب من تريليون دولار لإنشاء أكثر من 3000 مشروع).
التقت مصالح واشنطن – نيودلهي لاحتواء النفوذ الصيني، خاصة مع تصاعد حدّة المنافسة بين الدولتين الآسيويتين. اتّحاد دول البريكس يجمع ما بين الصين والهند، وهناك اتفاقيات تجارية بينهما، ولكن ذلك لا يُلغي العلاقة المتوترة بينهما لأسباب عدّة، أبرزها:
– «حرب الظلّ» في وادي جالوان الحدودي،
– اعتبار الصين أنّ الهند هي شريك حيوي في استراتيجية واشنطن للضغط على بكين في منطقة المحيطين الهندي والهادئ،
– تطوّر العلاقات العسكرية والاقتصادية بين الهند والولايات المتحدة الأمريكية، وتشكيل نيودلهي مع استراليا واليابان والولايات المتحدة «الحوار الأمني الرباعي».
إنشاء ممرّ اقتصادي مُنافس للمشروع الصيني ليس هدفاً سرّياً. فخلال اجتماع مجموعة السبع (ملتقى سياسي يضمّ كندا، فرنسا، ألمانيا، إيطاليا، اليابان، بريطانيا والولايات المتحدة) في اليابان في مايو / أيار الماضي، تعهّد «قادة الدول الصناعية الكُبرى» حشد حوالي 600 مليار دولار بحلول عام 2027 لمواجهة «مبادرة الحزام والطريق».
وفي قمّة مجموعة السبع في بريطانيا عام 2021، طرح الرئيس الأمريكي جو بايدن «مقترحات لتنفيذ مشاريع بنى تحتية كُبرى لمواجهة نفوذ الصين عبر العالم، وفي منطقة الخليج العربي والشرق الأوسط خاصةً». وتحدّث يومها عن «مبادرة استراتيجية تحت اسم إعادة بناء عالم أفضل ستُساهم في تطوير البنية التحتية والمشاريع التنموية لدول العالم النامية، بقيمة 40 تريليون دولار تُنفّذ بحلول سنة 2053». تحت هذا العنوان العريض يندرج إنشاء «ممرّ الهند – الشرق الأوسط – أوروبا». علماً أنّ السعودية والإمارات قد لا تتشاركان بالضرورة مع الولايات المتحدة هدف توجيه ضربة إلى الصين. فالدولتان الخليجيتان شريكان تجاريان أساسيان للصين، لكنهما جزء من مشروع الولايات المتحدة لدمج “إسرائيل” في الدول العربية المحيطة بفلسطين. وتتعاملان مع الممرّ الجديد انطلاقاً من استراتيجيتهما ترسيخ عالم مُتعدّد الأقطاب والدفع نحو تنوّع اقتصادي وسياسي وتجاري في علاقاتهم الدولية.
أما بالنسبة إلى الهند، فصحيح أنّها تطمح لدور عالمي مُنافس للصين، إلا أنّها تُريد من المبادرة الجديدة أيضاً إيجاد طريقة تجاري مع أوروبا، وتوفير ممرّ آمن للتجارة مع الشرق الأوسط، لا سيما بعد اعتمادها أكثر على نفط الخليج ووجود تجمّع كبير للعاملين والمغتربين الهنود في هذه المنطقة.
دمج «إسرائيل» اقليميًا
ورد في تقريرٍ منشور على موقع «مُلتقى أبو ظبي الاستراتيجي» أنّه بالنسبة للولايات المتحدة، «يندرج اتفاق إنشاء الممر الاقتصادي ضمن استراتيجية إقليمية شاملة تهدف إلى تعزيز ثقة الشركاء الخليجيين بها وبالتزامها بالمنطقة، وعزل إيران، ودمج إسرائيل في النظام الإقليمي، وتعزيز مكانة الهند ونفوذها في المنطقة». يُصيب هذا الكلام عند الهدف الثاني لمشروع «ممرّ الهند – الشرق الأوسط – أوروبا» وهو دمج «إسرائيل» في المحيط العربي أولاً، وبالإقليم ثانياً.
«دولة إسرائيل ستُشكّل تقاطعًا مركزّيًا في هذا الممرّ الاقتصادي»، صرّح (قبل عملية «طوفان الأقصى) رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو. عوّل كيان العدّو كثيرًا على الممرّ الجديد لتشغيل ميناء حيفا وزيادة الصادرات الإسرائيلية إلى أوروبا وآسيا. فكما اعتبر نتنياهو، المشروع «سيفتح بوابة جديدة من الهند عبر الشرق الأوسط إلى أوروبا وآسيا… رؤية المشروع تُعيد تشكيل وجه منطقتنا وتتيح للحلم أن يصبح حقيقة»… كان ذلك قبل أن تُوجّه المقاومة الفلسطينية ضربة لهذه الأحلام.
يُشكّل الممر الاقتصادي خطوة في مسار بدأ مع «اتفاقات ابراهام» وغايته دمج كيان العدّو في نظام الدول العربية. على هذا الأساس تشكّلت «مجموعة I2U2» في أكتوبر / تشرين الأول 2021 بهدف متابعة تطبيق اتفاقات التطبيع العربية مع «إسرائيل». في البداية، كانت المجموعة تضمّ وزراء خارجية الولايات المتحدة والامارات وكيان العدّو، قبل أن تنضمّ إليها الهند. في هذا الإطار أتت مبادرة «ممرّ الهند – الشرق الأوسط – أوروبا» وقد لعبت الإمارات دوراً رئيسياً فيه. ففي «قمة العشرين» في نيودلهي، توجّه بايدن إلى رئيس الإمارات محمد بن زايد بالقول: «هذا المشروع لم يكن ليرى النور لولا جهودك».
واحدة من الشروط الرئيسية لدمج «إسرائيل» في المنطقة والتمكّن من تنفيذ مشروع بهذه الضخامة، هو وجود استقرار سياسي وأمني، وتمتّع الدول المنضوية تحت لوائه بعلاقات جيّدة ورسمية. الإمارات وقّعت اتفاقية تطبيع مع العدّو. الأردن سبقها إلى عقد سلام. تبقى السعودية، البوّابة الرئيسية لتنفيذ هذا المشروع، واقفة على عتبة إعلانها رسمياً السلام مع كيان الاحتلال، وهو ما سيدفع دولاً عربية وإسلامية أخرى للحاق بها. لذلك اعتبرت واشنطن أنّ اتفاقية التطبيع السعودية – الإسرائيلية خطوة أساسية قبل تنفيذ «ممرّ الهند – الشرق الأوسط – أوروبا»، وفي الوقت نفسه شرطٌ لا بُدّ منه لحماية أمن الممرّ. وقد قال نائب مستشار الأمن القومي الأمريكي جون فاينر في سبتمبر / أيلول الماضي، إنّ «الممر الجديد يُساعد في خفض التوتّر في جميع أنحاء المنطقة وإنهاء الصراعات».
يؤكّد هذا الكلام ما ورد في دراسة نشرها «المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات» عن أنّ الممر الاقتصادي خطوة كبيرة في اتجّاه التطبيع بين السعودية و«إسرائيل»، فقد «رحّب بها رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، ووصف المشروع بأنه «أكبر مشروع تعاون في تاريخنا من شأنه أن يُغيّر وجه الشرق الأوسط وإسرائيل وأوروبا وسيؤثر في العالم أجمع»، أما الأمير محمد بن سلمان فقد أبدى حماسة كبيرة تجاه المشروع وقدرته على تحقيق المصالح المشتركة وتعزيز الترابط الاقتصادي». وتُضيف الدراسة أنّه من خلال تعزيز الشراكة بين الهند ودول الخليج وكيان الاحتلال، ستتمكّن واشنطن من «عزل إيران، وتقطع أي محاولة للتقارب الإيراني – الهندي، بما في ذلك إبعاد نيودلهي عن الاستثمار في ميناء تشابهار الإيراني على بحر العرب، والذي يمثل محورًا رئيسًا في مشروع إيران الطموح إلى إنشاء ممر جنوب – شمال بين الهند وأوروبا».
«طوفان الأقصى» تُغيّر المعادلة
حين أُعلن عن المشروع في سبتمبر / أيلول الماضي، كانت المحادثات الإسرائيلية – السعودية تتقدّم وآمال واشنطن وتل أبيب في تغيير وجه المنطقة مرتفعة. ثمّ أتت ضربة «طوفان الأقصى»، وما تبعها من جرائم صهيونية وحرب الإبادة التي تتركبها قوات الاحتلال بحقّ غزة وبقية المدن الفلسطينية، لتُجبر السعودية على إعلان تجميد مسار التطبيع حتى تاريخٍ غير معلوم، رغم إصرار الرياض على عدم نعي «عملية السلام». يقول مانوج جوشي، من مؤسسة «أوبزرفر» للأبحاث في نيودلهي إنّه أُعلن عن الممر الاقتصادي الجديد «على افتراض أنه سيكون هناك سلام واستقرار في المنطقة. حالياً (بعد عملية «طوفان الأقصى»)، حتى لو انتهت الحرب في الأسابيع أو الأشهر المُقبلة، فإن المستقبل لم يعد مؤكّداً». فإقامة مشروع مماثل مبنية بالدرجة الأولى على الأمن والاستقرار، كما على فكرة “إسرائيل القوية”، وهو ما أطاحت به عملية “طوفان الأقصى”.
لا يعني ذلك أنّه قبل الحرب الإسرائيلية على قاطع غزة كانت طريق «ممر الهند – الشرق الأوسط – أوروبا» مُيسّرة. فالمشروع كان يواجه العديد من التحدّيات المهمة:
– معارضة دول مثل مصر وتركيا وإيران لتنفيذ المشروع، وإمكانية تعاونها لتطوير تفاهمات تجارية واقتصادية مشتركة،
– مخاوف تحوّل الممرّ إلى منصة أمنية / عسكرية للدول المشاركة فيه،
– وجود تحديات سياسية داخلية في الأردن، مثل الرفض الشعبي للتطبيع مع «إسرائيل».
أتت التطورات، وفق مدير معهد جنوب آسيا في مركز «ويلسون» الأمريكي، «لتُذكّرنا بمدى صعوبة بناء الممرّ الجديد، لأنّ الأساس ليس في تأمين التمويل اللازم، بل بالاستقرار والتعاون الدبلوماسي. وتؤكّد الحرب بشكل مؤلم أنّ هذين الشرطين لا يزالان بعيدَي المنال».
إيضاح:
تفاصيل «ممر الهند – الشرق الأوسط – أوروبا» (IMEC)
يتألّف المشروع الاقتصادي من ممرين منفصلين:
– الممر الشرقي الذي يربط الهند بالخليج العربي،
– والممر الشمالي الذي يربط الخليج العربي بأوروبا.
المُخطّط يتضمّن تنفيذ خطّ للسكك الحديدية لتأمين طريق عبور فعّالة وبكلفة منخفضة، تكون مُكمّلة لطُرق النقل البحري والبري الحالية، ما يُتيح عبور البضائع والخدمات من وإلى الهند، والإمارات العربية المتحدة، السعودية، الأردن، «إسرائيل»، وأوروبا.
وبحسب ما أٌعلن فإنّ المشروع الجديد سيُساهم في عملية نقل الطاقات المتجددة والهيدروجين النظيف عبر كابلات وخطوط أنابيب، فضلًا عن تنمية الاقتصاد الرقمي وتعزيز النقل الرقمي للبيانات من خلال كابلات الألياف البصرية.
الدول المُشتركة في هذا المشروع تُقدّمه على أنّه الحلّ لتنشيط التنمية الاقتصادية والترابط بين القارات. على سبيل المثال، اعتبر وزير الاستثمار السعودي خالد بن عبد العزيز الفالح، أنّ «الممر سيكون تاريخيًا. يتحدّث الناس عن طريق الحرير وطريق التوابل الهندي عبر شبه الجزيرة العربية، لكن الممر الجديد سيكون أكثر أهمية لأنّه يتعلق بالطاقة الجديدة، والبيانات، والاتصالات، والموارد البشرية، وطرق الطيران والمواءمة بين الدول التي تتشارك العقلية والرؤى نفسها».
الدعسة الناقصة لـ«ممر الهند – الشرق الأوسط – أوروبا» أنّه يستثني تركيا منه، و«يستفز» مصر عبر تهديد عائدات قناة السويس.
بالنسبة إلى تركيا، أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان معارضته المشروع لتجاوزه تركيا، مُعلناً في المقابل عن طريق اقتصادي جديد هو «مشروع طريق تنمية العراق»، ويربط الخليج العربي مع أوروبا من خلال السكك الحديدية والطرق السريعة عبر الموانئ في العراق، ويشمل المشروع تركيا والإمارات وقطر والعراق، ويستخدم ميناء الفاو الكبير (جنوب محافظة البصرة) قيد الإنشاء.
أما في ما خصّ مصر، فيؤكّد معظم الخبراء في مجال التجارة الدولية أنّ كلّ الممرات الاقتصادية المُقترحة لن تُشكّل بديلاً كلّياً عن قناة السويس، التي تستحوذ على 12% من حركة التجارة العالمية. لكن في حال تمّ فعلياً تنفيذ هذه المشاريع، فهناك احتمال أن تُؤدّي إلى تقليص حركة النقل البحري عبر قناة السويس بنسبة تتراوح بين 10 و15%.