النظرة السريعة إلى الفارق الكبير بين ما يمتلكه الجيش الصهيوني من سلاح وقوة نيران وتاريخ عسكري، ودعم أمريكي-غربي بالذخائر، والتغطية السياسية والإعلامية، والنفوذ الدولي، من جهة، وإلى ما تمتلكه المقاومة من سلاح وقوّة نيران، أو “دعم” عربي وإسلامي ودولي، ووضع محاصر و… لا بد من الخروج بنظرة عسكرية تُعتبر غير قابلة للجدال: تفوّق عسكري كاسح في مصلحة الجيش الصهيوني. وهو ما ترجم تاريخيًا عدّة مرات ضدّ الجيوش العربية، أو إقامة الكيان الصهيوني، أو حروب 1948 أو 1956 أو 1967، و1982، أو اقتحام قطاع غزة عدة مرات، وحكمه لعشرات السنين.
ولهذا، توقّع كثيرون أن الحرب البريّة في اقتحام غزة بعد عملية “طوفان الأقصى” 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، لن تطول أكثر من بضعة أيام. بل حتى بعد مرور الأشهر على الحرب البريّة التي شنت على قطاع غزة، ومعها جريمة إبادة إنسانية وتدمير للمعمار، ما زال هنالك من لا يصدق بأن المقاومة منتصرة، أو ستنتصر عسكريًا حتمًا، بإذن الله. “وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَىٰ وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ ۚ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيم”ٌ (الأنفال 10).
على أن مجرى الحرب البريّة، ومن أول يوم إلى يومنا هذا، أثبتت أن النتائج العسكرية لم تتطابق مع التفوّق العسكري الذي يمتلكه الجيش الصهيوني. الأمر الذي جعل المعلقين المؤيدين للمقاومة، يقدمون نتائج انتصاراتها بالقول: بالرغم من الحرب غير المتكافئة عسكريًا، إلاّ أن المقاومة راحت تنتصر، باعتبار أن الإرادة والشجاعة والإيمان والبطولات الأسطورية، هي التي سمحت بتغلب المقاومة.
وهو تفسير جعل المعنوي يتفوّق عسكريًا على المادي. بل على سنن الحرب وقوانينها. ولهذا اعتبر الصمود أسطوريًا، والانتصار العسكري معجزة.
إنه تفسير يحمل جانبًا من الحقيقة، ولكنه غير كافٍ لمناقضة كل شروط السنن والقوانين في الحرب. وهي التي يجب أن تُراعى، وتعدّ الأسباب المادية والمعنوية، التي يجب أن تؤخذ قبل خوض غمارها.
هنا يجب قراءة الحرب البريّة من زاوية عسكرية بحت، وذلك لبحث الأسباب التي جعلت المقاومة تتفوّق على جانب التفوّق العسكري آنف الذكر من جانب الجيش الصهيوني.
إن العامل الأول الذي يفسّر الانتصار العسكري للمقاومة، يجب أن يُقرأ في الاستعدادات العسكرية التي أعدتها قيادة المقاومة الفذة، لاستقبال الحرب البريّة، وهي، بدايةً، بناء الأنفاق بما يغطي مئات الكيلومترات تحت قطاع غزة بأكمله تقريبًا.
وقد أثبتت تجربة الحرب، من جانب القادة العسكريين في الجيش الصهيوني، والخبراء الأمريكيين والغربيين، بأن هندسة الأنفاق وتوزيعها وتحصينها، أعجزهم عن تدميرها، أو حل معضلتها العسكرية، بالنسبة إليهم. ولهذا واجه الهجوم، برغم تفوّقه الجوي الهائل، وما يمتلك من دبابات وآليات ومدافع، واقعًا عسكريًا أبطل تفوّقه الجوّي والبرّي. وقد أخفى عليه وجود المدافع، أو “استحكاماته” أو “متاريسه” كعادة القتال في المدن. واضطره إلى أن يقتحم بريًّا، ويدخل إلى أي مكان حتى دون اشتباك، إلّا حين يقرّر المُدافِع أن يخرج من النفق الذي سيشتبك معه، بمعركة صفرية. وكان امتلك فيها عنصرَي المبادرة والمفاجأة، مما قلب معادلة المهاجِم المتفوّق إلى مدافِع، وبلا جدوى من تفوّقه الجوّي أو البرّي، كما جعل المُدافع هو المبادِر والمهاجِم.
إذا أخذنا هذه المعادلة في الاشتباك طوال الحرب البريّة التي تجاوزت المائتي يوم ونيف، أو سبعة أشهر ونيف، فيجب أن نلحظ من الزاوية العسكرية، أن المقاومة هي المتفوّقة عسكريًا، من الناحية العسكرية البحت. وهذا أمر لا يسهل القبول به، بالرغم من ترجمته الواقعية، وصدقه، طوال الحرب حتى الآن.
إن العامل الأول الذي يفسّر الانتصار العسكري للمقاومة، يجب أن يُقرأ في الاستعدادات العسكرية التي أعدتها قيادة المقاومة الفذة، لاستقبال الحرب البريّة، وهي، بدايةً، بناء الأنفاق بما يغطي مئات الكيلومترات تحت قطاع غزة بأكمله تقريبًا
ويجب أن يساويه، ثانيًا، من حيث الأهمية، والواقع، البُعد بتفوّق القيادة العسكرية من حيث مستواها العالي جدًا، وإبداعها وشجاعتها، وحسن تقديرها للموقفين السياسي والعسكري. وهو ما كان تأكد، في الإعداد والتخطيط لعملية “طوفان الأقصى”، وتنفيذها الناجح بما زلزل الكيان الصهيوني زلزالًا، وهزّ أمريكا والغرب العسكري، هزًا عنيفًا، وذلك خوفًا على الكيان الصهيوني، أو حتى من زعزعة للنظام أحاديّ القطبية، خصوصًا وهو يترنح بسبب شيخوخته، ومنافسيه الدوليين والإقليميين.
ما يجب أن يُضاف بهذا الصدد، ما كانت أعدت له قيادة المقاومة مسبقًا، من استعدادات لحرب استنزاف طويلة الأمد. وقد شاهدناها في الحرب البريّة، طوال أكثر من سبعة الأشهر، وحتى اليوم، تحت الحصار، وفي الأنفاق، مؤمنة الأسلحة الضرورية الكافية، وقوات مقاومة وقادة ميدانيين أعدوا جيدًا، ومكتفية طعامًا وماءً وطاقة، وعلاجًا أوليًا، ودواء للجراح، وذلك بإرادة لا تفلّ، وإيمان لا يهِن، وصمود وصبر استثنائيين. وقد أكد أبو عبيدة في 18/5/2024، بأنهم مستعدون لحرب استنزاف طويلة.
إن كل هذا، يدخل في ميزان القوى العسكري البحت، الذي لا يفسّر ما حدث بأنه أسطوري كأنه أسطوري، أو بالمعجزة كأنه معجزة. وذلك بسبب إمكان تفسيره عسكريًا، من دون حرمانه أعلى مستويات الفرادة والاستثنائية.
وبعد،
فثمة عدة ملحوظات إضافية تتعلق بالبُعد العسكري للحرب في قطاع غزة:
1- صاحب الحرب البريّة حرب إبادة بشرية، لا مثيل لها من حيث وقوعها، بصورة متواصلة، يومًا بعد يوم، وساعة بعد ساعة، وقد صحبها قصف تدميري للبيوت المسكونة وللمعمار، وحتى المستشفيات طوال سبعة أشهر، وبصورة علنية، تحت مشاهدة العالم كله، وبتحدٍ للقوانين الدولية والإنسانية، وبإسقاط لكل المعايير الضميرية والإنسانية والحضارية. وقد وصل بحرب الإبادة أن تتحول إلى القتل الجماعي، والتدمير الشامل المقصودين لذاتهما من جهة، ولخدمة الحرب البريّة، تغطية للهزيمة العسكرية، واستهدافًا فاشلًا لمعنويات القيادة والمقاتلين والشعب في قطاع غزة، مما أضاف فشلًا عسكريًا إلى فشل الحرب البريّة. والأهم، مما أسهم بالانتصار السياسي والأخلاقي للمقاومة والشعب، وقضية فلسطين عالميًا.
2- لا بد من التعامل مع الحرب في قطاع غزة، بكونها حربًا ذات فرادة خاصة، لا سيما من الناحية العسكرية، ولهذا يخطئ من يشبهها بحرب العصابات، أو من يشبهها من ناحية عسكرية بأية حرب من حروب احتلال المدن، لا سيما من زاوية الدور الذي لعبته الأنفاق الممتدة عمقًا وعرضًا وطولًا، كما الدور الذي لعبته قيادة المقاومة من حيث البراعة العسكرية، استراتيجيًا وتكتيكيًا، في حرب لا سابقة لمثلها.
طبعاً كل حرب لها خصوصيتها وفرادتها. ولكن ثمة مشتركات في ما بينها، أكثر بكثير مما يُعتبر مشتركًا في حرب غزة.
والمدهش في هذه الحرب أن قادة الكيان الصهيوني خاضوها باستهتار بموازين القوى عسكريًا، وبالرأي العام عالميًا. وقبلوا الخسارة في كل معاركهم. وهو ما لا يفعله قائد عسكري أو سياسي عاقل، مقابل الاستمرار بمواصلة القتال، بسبب عدم القبول بالهزيمة العسكرية والسياسية كقرار اضطراري، تحضيرًا لجولة أخرى. وذلك بسبب روح الانتقام والكبرياء أيضًا، ولو مخالفة لما تفرضه البدهيات العسكرية من “عقلانية”.
وأخيرًا، لا يمكن إعفاء أمريكا من مسؤولية التشارك بتغطية جرائم الإبادة، كما المضيّ في حرب خاسرة لا محالة.