على النقيض من إرث آيزنشتات (S. N. Eisenstadt) ومن بعده دان هوروفيتس، موشيه ليساك، الكلاسيكي،[1] الذي ظل حاكمًا لأعوام طِوال في “إسرائيل”، كان يوناثان شابيرو أول أكاديمي إسرائيلي ينحرف عن نموذج المدرسة الوظيفية التي أسس لها آيزنشتات واختار بديلًا عنها. استند شابيرو في تحليله للمجتمع الإسرائيلي على نموذج عالم الاجتماع الأميركي س. رايت ميلز (C. Wright Mills) لكشف الطبيعة السطحية للديمقراطية الإسرائيلية. وبدلًا من تركيزه على الحداثة والديمقراطية كسمات غالبة على الواقع الإسرائيلي، سلط شابيرو الضوء على عمليات السيطرة التي يتحكم فيها حزب العمل والتي تعمل لضمان استمرار سيطرة الييشوف الأشكنازي وسيادة الصهيونية العمّالية في الكيان. ومع ذلك، لم يحلل شابيرو العلاقات البينية للجماعات بالنحو الذي درسه باروخ كيمرلينغ.[2]
يعتبر كيمرلينغ مؤسس تيار الجيل الثالث من علماء الاجتماع الإسرائيليين. وقد شهد في حياته صعود النخبة الأشكنازية وانحطاطها، كما شهد صعود الأساطير المؤسسة لهذه النخبة وأفولها في أقل من نصف قرن. يكتب كيمرلينغ: “كانت غاية هذه النخبة خلق هوية جماعة وطنية، تتشكل وفقًا لنموذج ثقافة الييشوف المركزية والتي اعتبرتها النخبة مصدر رأس المال الثقافي. كان في صميم هوية النخبة منذ تأسيس “إسرائيل” فكرة الدولة وبوتقة الصهر”.[3]
أما سمات الهوية الفردية فتتمثل بالعلمانية، والثقافة، والقوة الجسدية التي تفترض الاستعداد للقتال على الدوام، والتعلم بطبيعة الحال. ومع هذا، يلاحظ كيمرلينغ أن هذا الواقع كان قد بدأ بالأفول منذ أوائل السبعينيات مع بروز تحدي الثقافات الفرعية التي واجهت النخبة المهتزة وأنتجت سبع جماعات: القومية الدينية، الأورثوذكسية غير الصهيونية، السفاردية التقليدية، العربية الإسرائيلية، الطبقة الوسطى العلمانية الروسية، الإثيوبية، والأشكنازية. ومع ذلك، لم يؤل واقع التجزئة هذا إلى تفتت المجتمع الإسرائيلي، إذ ظلت اليهودية والأمن مبدآن حاكمان على المجتمع ككل.
يقول كيمرلينغ: “في الواقع، إن كل ما تبقى من الهوية اليهودية لإسرائيل يمكن اختصاره بقيم عسكرية تحمل نزعة سلطوية، فتجتمع حول مبدأ مشترك، أو منظم، هو الحاجة إلى العنف المؤسساتي، الذي يستلزم الاستعداد الدائم للحرب الشاملة والاستعمال الظرفي للعنف، وهذه بذاتها تشكل مركبًا عسكريًا وثقافيًا في آن معًا يحكم المجتمع الإسرائيلي”.[4]
بالنسبة لكيمرلينغ كان من آثار سيطرة العسكر في المجتمع الإسرائيلي بروز العسكرة المدنية في المجتمع. نحن لا نتحدث هاهنا عن تغليب الاعتبارات العسكرية من حيث الأولوية على الاعتبارات الاقتصادية والاجتماعية فحسب، بل تغليب العسكرة على نمط التفكير السائد، بحيث يحكم المنطق العسكري على كل الاعتبارات الأخرى. هكذا يصبح السلام مسألة عسكرية، والعلاقات الدولية مسألة عسكرية والاقتصاد والطبابة والضمان الاجتماعي، كلها مسائل عسكرية. يجترح كيمرلينغ في أدبياته عبارة “الساسة المتعسكرون”، أولئك الذين يجعلون من الإبادة السياسية (البوليتيسايد) هدفًا لهم. ينظر هؤلاء إلى الحرب باعتبارها استكمال للدبلوماسية والسياسة الداخلية بلغة أخرى. وهم بهذا المنظور لا يتطلعون إلى السلام مع الدول العربية إلا لتعزيز موقع “إسرائيل” العسكري في مواجهة الفلسطينيين وحلفائهم الإقليميين.
سيشكل هذا التحول القيمي – الوظيفي في رؤية شرائح واسعة من المجتمع الإسرائيلي انعطافة في فهم كيمرلينغ نفسه لمرتكزات المجتمع الإسرائيلي ومُثله. في تعليقه على طروحات عملية السلام عام 1993، يتنبه كيمرلينغ لانقسام عميق لدى المجتمع الإسرائيلي قلّما يجري الحديث عنه. برأيه – وخلافاً لما هو مألوف – لم يكن الانقسام بين اليمين واليسار معيارًا يفيد في فهم انقسامات المجتمع الإسرائيلي يومًا. في “إسرائيل” ثمة ما هو أعمق بكثير. إن الانقسام الحقيقي في المجتمع الإسرائيلي هو انقسام بين ثقافة الإحساس بالضعف، وثقافة الإحساس بالقوة. هذا هو الانقسام الأكثر تعبيرًا عن واقع المجتمع الصهيوني على امتداد تاريخ “إسرائيل”. وقد تستوي في هذا الانقسام أوساط اليسار وأوساط اليمين على حد سواء. الفرضية الأساسية لثقافة الإحساس بالضعف بحسب كيمرلينغ، تكمن في أن قدرة “إسرائيل” السياسية والاقتصادية ليست سوى عامل هامشي في مكونات وجودها الجيوسياسي والاقتصادي والعسكري. إذ تبقى “إسرائيل” أقلية في بحر من الأعداء وفي عالم من “الأغيار” لا يكن المحبة لليهود. وجود “إسرائيل” بهذا المعنى معرض دائمًا للخطر، وإمكان إلحاق الأذى بها هو معطى دائم أيضًا. من هنا، يمكن تحسين قدرة “إسرائيل” على الوجود من خلال الاحتفاظ بمناطق استراتيجية خاضعة لاحتلالها، لكنّ هذه القدرة تبقى إلى الأبد قدرة الضعيف.
في المقابل، يرى أصحاب ثقافة الإحساس بالقوة في القدرة العسكرية لـ”إسرائيل” ثروة دائمة ووسيلة مركزية لإدارة السياسة الخارجية. هذه مقاربة قتالية تعود براءة اختراعها إلى حزب أحدوت هعفوداه بالرغم من تبني اليمين لها مرات عدة. ومع ذلك ثمة ما ينبغي أن نلتفت إليه؛ اليمين ضعيف. هو غير قادر على ممانعة إغواء القوة لأنه في حقيقة نظرته إلى نفسه لا يجد غير الضعف. آرئيل شارون (الذي ينتمي إلى مدرسة اللجوء إلى القوة) نجح عام 1982 في جر مناحم بيغن إلى “مغامرة لبنان” لإقامة نظام شرق أوسط جديد. لولا شارون لم يكن بيغن ليجرؤ على مثل هذه الخطوة. في المقابل، يتسحاق رابين لم يكن بحاجة لصورة القوي، هو نموذج فعلي لها وهو نتاج الثقافة التي تقدس القوة، وكاهنها الأكبر أيضًا. يمكننا التماس ذلك في مواجهته للانتفاضة الأولى. هو كان خلف سياسة “تكسير العظام”، بينما كان زعماء “الليكود” يكثرون من الألفاظ المقدسة للقوة وللفعل القتالي ليس إلا، ومع ذلك، كان الجمهور الإسرائيلي حصيفًا، يقول كيمرلينغ، وكان اليمين مكشوف العورة أمام جزء من الناخبين المقدسين للقوة، فأسقطوا اليمين وكل رموزه في انتخابات عام 1992. مرة جديدة، نحن لا نقول أن اليمين واهٍ، بل أن هذين الاتجاهين (الشعور بالقوة أو بالضعف) يتمازجان دائمًا داخل معسكري اليمين واليسار، كل على حدة، ويتأرجح معهما السياسيون بين شعور بالضعف والذل والرعب (ينعكس بانعدام القدرة على التمييز بين الأمن الجاري والأمن الاستراتيجي)، وبين الثقة القاطعة بالقدرة الكلية للجيش الإسرائيلي إذا ما منحه السياسيون مجال المناورة المطلوب.
***
نحن هنا في أواخر الثمانينيات. أشد المعجبين بالجيش الإسرائيلي وقوته، كانوا يزدادون قناعة أنهم لم يعودوا قادرين على تجاهل التآكل المتواصل في هيبة الجيش بعدما تحول إلى قوة بوليسية في المناطق المحتلة. لقد أصبحت طبيعة الانتفاضة ودروسها مفهومة جيدًا في أوساط رجال الجيش، وبالذات أنصار المقاربة المعتمدة على القوة، غير المأسورين لأيديولوجيا “أرض إسرائيل الكاملة” أو ذوي المقاربات الدينية الغيبية. إن قوة كالجيش الإسرائيلي ستتآكل بسبب انهماك كثير من رجاله في مطاردة “مطلوبين” أو صبية يرشقون الحجارة معظم الوقت. وما من جيش في العالم يمكنه إنهاء عصيان مدني يقوم به سكان مدنيون من دون اللجوء إلى القتل الجماعي. ما الحل؟ كان رأي رئيس أركان جيش الاحتلال، في حينه، دان شومرون، الحفاظ على قوة الجيش الكلاسيكية (كقوة مقاتلة قادرة على الاجتياح مجهزة بسلاح مدرعات سريع وسلاح جو ماحق) ثم الاحتفاظ بمناطق ذات قيمة أمنية استراتيجية، ولا إشكال فيما لو كانت أسباب الاحتفاظ بالأرض أسبابًا أيديولوجية دينية.
الاستيطان في الضفة الغربية كان الوسيلة التي ينبغي أن تتشكل بموجبها ثقافة سياسية تستوطن قلوب جميع اليهود في “إسرائيل”، و”إسرائيل” بموجب هذه الثقافة دولة يهودية ينبغي أن تقصي من داخلها كل ما هو غير مُعرَّف كيهودي. لقد صعد اليمين الإسرائيلي كنتاج لثقافة ترى في الحرب الدائمة ليس فقط شرًا لا بد منه، بل حالة طبيعية وسامية أيضًا، كما عبّر إيفي إيتام (الزعيم السابق للحزب القومي الديني “المفدال”) مرّة. ولقد وجدت النخبة العميقة الحاكمة في “إسرائيل” في اليهودية الدينية مخرجًا أو مهربًا من أزمة سؤال داهم: “ما العمل؟”. السياسات الاستيطانية لجماعات غوش إيمونيم، كمثال، كانت أداة نخبة مأزومة تسعى لتحقيق حسم استراتيجي مزدوج. من جهة، هي تريد تدمير البنية السياسية والمؤسسية الفلسطينية خارجيًا، ومن جهة أخرى، هي تعمل على تدمير ما تبقى من ركائز ثقافة النخبة الأشكنازية داخليًا.
لم يكن هذا التغيير ليحصل لولا تحوّل آخر كان قد بدأ بأخذ مكانه داخل المجتمع الإسرائيلي. لنَعترف، البشر ليسوا ماكينات عقلانية، ينعطفون يُمنة ويُسرى بناءً على قرارات عقلانية أطالوا البحث فيها والتمحيص. المجتمعات لا تفكر بهذا النحو البتة. وتحول الإسرائيليين نحو اليمين الاستيطاني لم يكن طبيعياً أبدًا! للتوضيح أكثر، نحن هنا منتصف التسعينيات و”إسرائيل” جنة ضريبية. اليهود الروس يفدون بأعداد كبيرة إلى “إسرائيل” بعد سقوط الاتحاد السوفياتي؛ متمولون، مبيضو أموال، أصحاب رساميل، وفتيات شقراوات. “إسرائيل” هذه جنة تسليف واعتماد كبيرة. بإمكانك حمل بطاقة التأمين خاصتك والذهاب أينما شئت؛ إلى منتجعات نهاريا أو نتانيا، إلى حديقة البهاء في حيفا، أو مراكز التزلج في هاردوف، أو حتى قضاء عطلة نهاية الأسبوع في منتجعات البحر الميت. أنت ببساطة جزء من “عالم حر” منتصر بعد حرب باردة زادت عن نصف قرن. حقًا، ما الذي يدفع إنسانًا يعيش بهذا النحو من الرخاء أن يأخذ قرارًا بالذهاب إلى نقطة استيطانية، لا تستوفي الحد الأدنى من الرفاه والأمان، في نواحي الخليل أو رام الله ليسكن فيها مجازفًا؟ لا تقولوا لي “الله”… بل حدثوني عن بقره المقدس.
في “إسرائيل”، ثمة بقر مقدس ـــ غير ذاك الذي يريد بن غفير ذبحه ـــ قد يجده الباحث في عالم المال في تل أبيب؛ تحديدًا في عالم المصارف، التأمين، الغذاء، الدواء، عالم البرمجيات، والبتروكيماويات، وفي قطاع الاستيراد والتصدير. بنك هبوعليم، ولئومي، وديسكاونت، يتحكمون ثلاثتهم بـ80% من تمويل المصالح الصغيرة والمتوسطة من خلال ثلاث بطاقات تسليف (إسرا كارد، لئومي كارد، وكال). شركات تنوفا، شتراوس عيليت، كوكا كولا، أوسم، وتلما يونيليفر، تحوز على 48% من السوق الغذائي. موارد الطاقة (غاز وفوسفات وأملاح، ومعادن) مقدمة مجانًا ليتسحاق تشوفا (شركة ديلك)، نوبل إنرجي، والأخوين عوفر صاحبي “كيماويات إسرائيل” (تخيلوا شركتي ديلك ونوبل تمتلكان حق التنقيب البحري بما تزيد مساحته عن 60% من مجمل مساحة “إسرائيل”). وهذه الشركات كلها، كانت تُعفى من الضرائب وتُمنح القروض منذ مطلع التسعينيات مقابل دخول أصحابها بشبكة “الديل” الجديد.
ببساطة، كانت الصفقة تفرض مشاركة في الاستثمار الكولونيالي في الضفة والجولان، مقابل إعفاءات ضريبية وتشغيل يد عاملة رخيصة (هذا بالتحديد ما دفع بحكومة نتنياهو الأولى للتشجيع على الذهاب والسكن في الضفة) وتمويل أحزاب اليمين. والأمر لا تنحسر تبعاته في “إسرائيل”. لقد أسهمت هذه الشركات (طيفع في مجال تصنيع الدواء، وإنتل وتشيك بوينت في مجال البرمجة) بتشييد مصانع في اليابان وهنغاريا بمبالغ تتجاوز الـ21 مليار دولار أمريكي، على سبيل المثال، وبتزخيم التيارات اليمينية في هنغاريا وتشيكيا ووسط أوروبا، وليس في “إسرائيل” وحدها. هذا بالضبط ما أنتج وعود الآخرة الغيبية وأحلام بن غفير وسموتريتش الماورائية.
[1] كان س. ن. أيزنشتات وتلامذته متأثرين بعلم الاجتماع الوظيفي الأميركي، وكانوا يصورون المجتمع الإسرائيلي على أنه بوتقة صهر كبرى تتم فيها قيادة المجموعات التقليدية نحو الحداثة من خلال المؤسسات الحكومية العاملة على التنشئة الاجتماعية (لا سيما النظام التربوي والجيش) ومن خلال قيادة الجماعة الإثنية الأشكنازية. راجع: S. N. Eisenstadt, Israeli Society, 1969, Weidenfeld And Nicolson London.
[2] باروخ كيمرلينغ (1939 – 2007) باحث إسرائيلي وأستاذ علم الاجتماع في الجامعة العبرية في القدس، نشر كيمرلينغ في حياته تسعة كتب أبرزها “نهاية حكم الأشكناز العلمانيين القدامى الاشتراكيين القوميين” و”الفلسطينيون، صيرورة شعب” بالمشاركة مع يوئيل مجدال، و”بوليتيسايد: حرب شارون ضد الفلسطينيين”.
[3] Baruch Kimmerling, The Invention and Decline of Israeliness: State, Society and the Military, Berkeley and Los Angeles: University of California Press, 2001, p. 97.
[4] Baruch Kimmerling, The Invention and Decline of Israeliness, 2001, p. 209.