في حزيران من العام 2002، ألقى رئيس الولايات المتحدة الأمريكية جورج بوش، خطابًا دعا فيه إلى “إيجاد قيادة فلسطينية جديدة ومختلفة في إطار إصلاحات شاملة” لأن “السلطة مركزة في يد أشخاص والبرلمان الفلسطيني ليس له سلطة كما لا يوجد دستور فلسطيني يكون فيه فصل للسلطات (في إشارة إلى إمساك رئيس السلطة حينذاك ياسر عرفات بالأمن والمال)”.
توقيت خطاب بوش جاء بعد سنتين من اندلاع الانتفاضة الثانية ومرور 9 أشهر على أحداث 11 أيلول، و4 أشهر على الكشف عن سفينة “كارين إيه” المحملة بالسلاح والتي أرسلها حزب الله إلى عرفات لدعم الانتفاضة. في تلك المرحلة من التاريخ الحديث، رسمت أمريكا وجه العالم بعد احتلالها أفغانستان والعراق وتقسيم بوش الكوكب “إلى فسطاطين”؛ دول الخير (أمريكا وحلفائها) ومحور الشر (دول وحركات المقاومة). رأت أمريكا، بعيون إسرائيلية، أنه يجب إزالة عرفات لوقف الانتفاضة الفلسطينية، ولرسم “شرق أوسط جديد”.
المشروع الأمريكي الذي طرحه بوش، قدّمه حينها رئيس الموساد السابق أفرايم هاليفي، لرئيس حكومة العدو أرئيل شارون، تضمنت رؤية الموساد لتفكيك سلطة عرفات وإضعافه. يقول هاليفي في كتابه “رجل في الظلال”، أنه لإضعاف عرفات عليهم نزع قدرته المالية وسلطته الأمنية وقوته السياسية ووضعها في أيدي أشخاص موالين للحل السلمي. فوقع الاختيار على محمود عباس لرئاسة السلطة السياسية، ومحمد دحلان لرئاسة الأمن، وسلام فياض لاستلام إدارة المال. بحسب هاليفي، قبل تقديم خطته لشارون، سافر إلى قطر والتقى عباس وعرض عليه مقترحه الذي وافق عليه. عاد بعدها هاليفي ورفع خطته إلى شارون الذي قدّمها، بدوره، إلى بوش الذي تبناها.
يقال يومذاك أن عرفات قبل بهذه الصيغة بسبب الضغوط الدولية والعربية عليه، واصفًا عباس بأنه “قرضاي فلسطين” (حامد قرضاي الذي نصّبته أمريكا حاكمًا لأفغانستان بعد سقوط طالبان في العام 2001). شكّل عباس حكومته الأولى في مارس/آذار 2003 وكان رئيسًا لها ووزيرًا للداخلية، ومحمد دحلان رئيسًا لجهاز الامن الوقائي. حينها، قال عرفات لدحلان إن “قاتل أبيه لا يرثه”. وفي تلك الحكومة، بقي سلام فياض وزيرًا للمالية لمدة سبعة أشهر فقط، قبل أن يقدّم عباس استقالته فتحل الحكومة بعدما نجح أبو عمار في إضعاف أبو مازن. لكن الأخير بقي على قيد الحياة السياسية، بفضل ثقة الأعداء به، فعاد في العام 2004 مرشحًا لرئاسة السلطة في الانتخابات التي كانت مقررة في العام 2005، وهو العام الذي استشهد فيه عرفات.
كانت قيادات “حماس” تقول سابقًا إن تحالفها مع دحلان في السنوات الماضية، كان حركة تكتيكية لإثارة غيظ عباس، وللسماح لجزء من سكان غزة بالاستفادة من دخول الأموال التي يرسلها. لكن عندما يصبح ترشيحه لرئاسة السلطة جديًا، فإن الحركة ستعمل على منع ذلك
اليوم يكرر التاريخ نفسه مع عباس. فالكأس التي أذاقها لعرفات سيشرب أبو مازن منها. بعد “طوفان الأقصى” أدركت أمريكا أنه يجب إجراء تغيير في فلسطين المحتلة، وتحديدًا في بنية السلطة، خصوصًا بعدما لامست إسرائيل مرحلة الخطر الوجودي صباح السابع من أكتوبر بعد اقتحام المقاومة الفلسطينية الحدود الجنوبية، والخوف الذي عاشته من اقتحام المقاومة اللبنانية الحدود الشمالية.
التغيير الذي تراه الولايات المتحدة، والذي سرّبته لصحيفة “التلغراف” البريطانية (16-12-2023) هو بإعادة تدوير السلطة، واستبدال عباس بأحد أتباعه. فبحسب الصحيفة، يعمل البيت الأبيض على وضع خطة لإدارة “غزة بعد الحرب” من قبل سلطة فلسطينية، تسهم في ضمانتها دول عربية، بينها ثلاث دول خليجية.
ووفق الصحيفة، فإن المسؤولين أكدوا أنه “لكي ينجح أي مشروع يجب أن يحظى بدعم الفلسطينيين وإسرائيل وجيرانهم العرب”، مشيرة إلى “عدم قدرة الرئيس محمود عباس على تسلم زمام الأمور في قطاع غزة بعد الحرب”.
أحد المرشحين لخلافة عباس هو دحلان، الذي يتمتع بعلاقات جيدة ومؤثرة في دولة الإمارات. وهو مقرب من رئيس الدولة حاكم أبو ظبي، محمد بن زايد، وأخيه طحنون بن زايد. يحظى دحلان أيضًا برضىً إسرائيلي. إذ يقال، بحسب الصحيفة، أنه “لعب دورًا رئيسيًا خلف الكواليس في اتفاقيات أبراهام، وكذلك دوره في اتفاق أوسلو للسلام”. والرضى الإسرائيلي عن دحلان سببه أداؤه الأمني في تسعينيات القرن الماضي عندما أشرف على تعذيب معتقلي “حماس” في سجون السلطة. كما كان من مؤسسي عقيدة الأجهزة الأمنية الفلسطينية التي تؤمن بالتنسيق الأمني، واسمه مرتبط بالتعاون مع الجنرال الأمريكي كيث دايتون الذي وضع خطة لتغيير عقيدة أجهزة السلطة الفلسطينية بعد الانتفاضة الثانية، من العداء لإسرائيل إلى التعاون معها.
اختيار دحلان لرئاسة السلطة دونه عقبات عدة، الرجل قوي بعلاقاته الدولية، ومجيئه يعني أنه سيسعى لإقصاء أقوياء آخرين موجودين في السلطة، وأبرزهم رئيس جهاز المخابرات ماجد فرج، وأمين سر منظمة التحرير حسين الشيخ. الرجلان يعملان على أن يكون أحدهما رئيسًا للسلطة في اليوم التالي لرحيل عباس. لذلك، من المشكوك فيه أن يسهّلا عمل دحلان وأن يكونا تحت إمرته، خاصة أنه من غير المرجّح أن يبقيهما في مواقعهما في حال تسلّمه السلطة. كذلك، لا يحظى دحلان بغطاء تنظيمي من حركة “فتح”، إذ طرده عباس منها في العام 2011 بحجة الفساد والمشاركة في قتل عرفات! أمّا في غزة، فإنّ لدحلان صيت سيء لا يمكن أن ينساه الحمساويون. فهو اشتهر بتعذيب معتقلي الحركة، وصولًا إلى “نتف” لحى مشايخ معتقلين. وكانت قيادات “حماس” تقول سابقًا إن تحالفها مع دحلان في السنوات الماضية، كان حركة تكتيكية لإثارة غيظ عباس، وللسماح لجزء من سكان غزة بالاستفادة من دخول الأموال التي يرسلها. لكن عندما يصبح ترشيحه لرئاسة السلطة جديًا، فإن الحركة ستعمل على منع ذلك.
يحكى أن رجلًا سيئًا كان في قرية قد اعتاد على نبش قبور الموتى وسرقة أكفانهم. وعندما مات ورثه ابنه الذي صار ينبش قبور الموتى ويسرق أكفانهم ثم يرفع الجثث على الخوازيق، مما جعل سكان القرية يترحمون على والده. المجيء بماجد فرج أو حسين الشيخ أو دحلان أو فياض، سيجعل الفلسطينيين يترحمون على أيام عباس
أمّا الاحتمال الآخر، الذي كشفت عنه الصحيفة، فهو ترشيح “بن غوريون فلسطين” لرئاسة السلطة. و”بن غوريون” هنا، هو سلام فياض، اللقب الذي أطلق عليه الرئيس الإسرائيلي السابق شمعون بيريز، إثر مشاركته في مؤتمر هرتسليا في كانون الثاني/ يناير من العام 2010. فياض، الرئيس الأسبق لحكومة السلطة، هو المفضّل لدى بعض المسؤولين المصريين والأمريكيين لقيادة حكومة جديدة في غزة. فهو كان في البنك الدولي سابقًا، وأثناء توليه رئاسة الحكومة، سعى إلى إفساد العقلية الفلسطينية، وتحويل المجتمع الفلسطيني من مجتمع إنتاجي إلى استهلاكي، مغرقًا الفلسطينيين بالقروض المصرفية. سياساته رمت إلى جعل جزء كبير من سكان الضفة الغربية ينتقلون من حالة أناس يعيشون تحت الاحتلال ويقاومونه إلى أشخاص يهتمون بتسديد قروض شراء المنازل والسيارات. لم يؤمن فياض يومًا بالمقاومة، حتى المقاومة السلمية التي يدّعي دعمها منعها في سنوات حكمه. طَرحُ اسم فياض كرجل تكنوقراط لإدارة السلطة والحكم، لا يقل خطورة عن اقتراح تسليم السلطة لدحلان. لكن رجال السلطة الأقوياء، مثل ماجد فرج وحسين الشيخ، يرون أن سلام فياض ضعيف للغاية، وسيكون “لعبة” طيعة في أيديهم، ما يعني احتمال قبولهم به تحت الضغط الأمريكي والإسرائيلي. ففي النهاية، الناخب الأول والوحيد في السلطة الفلسطينية منذ رحيل عرفات هو القرار الأمريكي – الإسرائيلي.
يحكى أن رجلًا سيئًا كان في قرية قد اعتاد على نبش قبور الموتى وسرقة أكفانهم. وعندما مات ورثه ابنه الذي صار ينبش قبور الموتى ويسرق أكفانهم ثم يرفع الجثث على الخوازيق، مما جعل سكان القرية يترحمون على والده. المجيء بماجد فرج أو حسين الشيخ أو دحلان أو فياض، سيجعل الفلسطينيين يترحمون على أيام عباس.
لكن كل هذه السيناريوات التي يرسمها الأمريكي لمستقبل الشعب الفلسطيني لا تأخذ في عين الاعتبار رأي الفلسطينيين أنفسهم ولا رأي المقاومة. العدو الأمريكي يتصرف على أساس أن المقاومة هُزمت ولم تعد موجودة. لكن في الواقع، المقاومة تثبت يومًا بعد آخر قوّتها سياسيًا وعسكريًا، واستطلاعات الرأي تُظهر أن المقاومة ليست سوى تعبير عن إرادة الشعب الفلسطيني.
دماء الشهداء التي أريقت لن تمهد الطريق لدحلان وفياض وفرج والشيخ لتولي سلطة تمثّل الشعب الفلسطيني. دماء شهداء غزة ترسم “الشرق الأوسط الجديد”، حيث اليد العليا للمقاومة. وإذا حاولت أمريكا فرض أمر واقع، فعلى المقاومة تغيير استراتيجتها المتبعة في التعامل مع أتباع الاحتلال في السلطة نفسها.