بدايةً، ليس السؤال الأخلاقي بغريبٍ على حروب العرب عبر التاريخ. من مبادئ الفروسية العربية التي انتقلت في ما بعد لتشكّل أسس القتال في أوروبا وغيرها، وصولًا إلى أخلاق الحرب التي رسّخها الإسلام بالقرآن والسنّة النبويّة. ومع تطوّر أشكال الحرب وانكفاء دور الفرد فيها مقابل تصاعد دور آلة الإبادة والقتل الجماعي الفوري، تعقّدت أسئلة أخلاقيّات الحرب ومدى قدرة الطرف الأضعف على العمل بها.
أذكر في إحدى اللقاءات مع مجموعةٍ شبابية مناصرةٍ للمقاومة ضد العدو، طرح أحد الحاضرين السؤال الأخلاقي النمطي: “لو كنت تملك صاروخًا وتريد استهداف مركزٍ عسكريّ للعدو يقع ضمن مربّع فيه حضانة أطفال، ماذا تفعل؟” ظهر في النقاش جوابان، أوّلهما عارض استهداف المركز تجنّبًا لإلحاق الضرر بالأطفال، وآخر لم يجد مشكلةً في قصف المربّع كلّه لما يحمله من حقدٍ عنصريّ ضدّ شعبنا. في الواقع، لا يختلف الرأيان في الجوهر وإن تعارضا في المظهر. فكلاهما نابع من تصوّرٍ نظريٍّ لواقعٍ عسكريّ غير قائم، ولو قام لما كان السؤال مطروحًا أصلًا، كما وأنّ كلا الرأيين يطرحان حلًّا لسؤالٍ أخلاقيٍّ مجرّد من سياقه الحقيقي، أي السياق الاستعماري.
وتعريف السياق الاستعماري للمسألة الأخلاقية في الحرب يجنّب المقاومة وأهلها الخوض في فخّ الوهم الأخلاقي الذي يبثّه العقل المستعمَر عن مسائل الحرب. فما هو السياق الاستعماري للمعركة الأخلاقية؟ وكيف أبدعت المقاومة الفلسطينية في خوض هذه المعركة والانتصار فيها؟
السياق الاستعماري
لتعريف السياق الاستعماري لأخلاق الحروب، بإمكاننا العودة إلى ما كتبه المفكّر الفرنسي جان بول سارتر، في تقديمه كتاب المفكّر الثوري فرانز فانون “معذّبو الأرض”. في المقدّمة، يشرح سارتر البُعد الأخلاقي لعنف المستعمِر ردًّا على العنف الاستعماري الأول، فيقول: “إنّ سلاح الثائر هو برهان إنسانيّته. فأيام الثورة الأولى تفرض على الثائر أن يقتل؛ وحين تقتل [مستعمِرًا] أوروبيًّا، فإنّك تصطاد عصفورين بحجرِ واحد: إذ تقتل مضطِهدًا و”تقضي” على المضطَهد في آنٍ واحد. ولا يبقى في المشهد حينها إلا رجلٌ ميّت ورجلٌ حرّ”.
حين تصل القوّة إلى مرحلة “المقدرة”، يصير “العفو” جائزًا لأنّ شرط أخلاقية العنف يكون قد تبدّل بتبدّل ميزان القوى.
بهذا التعريف، يقترن عنف المستعمَر ردًّا على الحرب الاستعمارية المفروضة عليه بالحاجة الملحّة إلى تحقيق الحريّة، مما يجعل هذا العنف السبيل الوحيد الممكن لتحقيق إنسانيّة المستعمَر. ومردّ ذلك في الأصل هو طبيعة الحرب الاستعمارية القائمة على الإبادة والإلغاء، والتي لا تشبه سياقات الخصومة والتنافس بين المجموعات البشريّة، إنّما هي حرب مجموعة ما لإفناء مجموعةٍ أخرى. وبهذا السياق، يصبح التخلّص من الاستعمار هو الفعل الأخلاقي الوحيد الممكن في الحرب. وفي كلّ الحروب الاستعماريّة، يستخدم المستعمِر وأدواته المحليّة ورقة “الأخلاق” لردع المستعمَر عن العنف، مما يسمح للمستعمِر بتثبيت اختلال ميزان القوّة والاستمرار في حملة إبادته.
من هنا، نستطيع فهم اندفاعة فانون في إنصاف أفعال المقاومة الجزائرية وتأكيد أخلاقيّتها، وذلك عبر توصيفها كردّ فعلٍ طبيعيٍّ (وصحيّ) للعنف الاستعماري وكوسيلة البقاء الوحيدة الممكنة للشعوب المستعمَرة.
بالإضافة إلى ذلك، يرتكز سؤال المعركة الأخلاقية في الحرب الاستعمارية على ركيزتين أساسيتين يتفاعل أحدهما مع الآخر، وهما: المبدأ والقدرة.
وقيمة المبدأ الأخلاقي لفعل المقاومة فارغةٌ بغير السياق الاستعماري. فالقتل سيّئةٌ لا جدال فيها، أمّا قتل المستعمِر فخيرٌ، لا بل واجبٌ يخسأ من يتخاذل عنه. لكنّ الاستعمار وأذنابه، يتعمّدون سلخ السؤال الأخلاقيّ من سياقه، فيطرحون “القتل” أو “الأسر” كفكرة مطلقة تزرع الشكّ في عقل الجمهور حول فعل المقاومة.
وهنا تظهر الركيزة الثانية لقياس أخلاقيّة الفعل المقاوم، وهي ركيزة القدرة. من المبادئ الإنسانية التي قدّمها الإسلام للعالم مقولة “العفو عند المقدرة”، وهي قاعدةٌ تسري في أخلاقيات الحرب الاستعمارية. فحجم إيذاء المستعمِر لردّ شرّه مرتبطٌ أوّلًا بقدرتك على تحقيق الأذى بالإضافة إلى حجم قوّة المستعمِر. وعلى عكس ما تفترضه العقول المهزومة، فإنّ تضاعف قدرة المستعمِر على الإيذاء تفرض مضاعفةً لقوّة المستعمَر على الإيذاء. فغاية العنف المقاوم للاستعمار هو قلب موازين القوى لمصلحة أصحاب الأرض وكفّ يد المجرم عن جرائمه، وتحقيق ذلك لا يكون إلا بالقوة. لكن حين تصل القوّة إلى مرحلة “المقدرة”، يصير “العفو” جائزًا لأنّ شرط أخلاقية العنف يكون قد تبدّل بتبدّل ميزان القوى.
المقاومة الفلسطينية والحرب الأخلاقية
منذ اللحظات الأولى لعمليّة “طوفان الأقصى”، ظهرت عدّة مقاطع، بعضها شكّل مادة كوميدية على وسائل التواصل الاجتماعي، لتعامل الفدائيين الفلسطينيين مع أسرى العدوّ من كبار السنّ والأطفال. ومع تصاعد مجازر العدو غير المسبوقة في غزة، ازدادت حدّة السؤال الأخلاقي في الحرب، خاصّةً وأنّ فصائل المقاومة تملك بين يديها ما يفوق الـ250 أسيرًا صهيونيًا بعضهم جنودٌ وضبّاط. لم يكن مفهومًا لكثيرين سبب تراجع المقاومة عن تهديدها بقتل الأسرى إن لم يوقف العدوّ مجازره الإباديّة، وهو تهديدٌ منطقيّ لأيّ كائنٍ يملك ورقة قوّة تحت النار. لكن ومع تفاقم المجازر والأوضاع المعيشية في غزة، فات كثيرين أن ثمة فدائيين وفدائيات يهتمّون بصحة وراحة وغذاء أسرى العدوّ الذي يقتل أهلهم وأولادهم ويدمّر بيوتهم طوال 45 يومًا! ثمّ جاءت مشاهد تسلم أسرى العدوّ للصليب الأحمر لتثبت سموّ أخلاق الفدائيين الفلسطينيين في التعامل مع الأسرى من لحظة أسرهم حتى تسليمهم. فائض السموّ الأخلاقيّ للمقاومة الفلسطينية، والذي يظهر بوضوحٍ أكبر بالمقارنة مع أسلوب العدوّ الانتقامي من الأسرى الفلسطينيين المحرّرين، شكّل اكتشافًا لكثيرين حول العالم وحتّى بين الجمهور العربي والفلسطيني. لكنّ تاريخ المقاومة الفلسطينية يثبت عكس ذلك. إذا عدنا فقط إلى مرحلة الثورة الفلسطينية المعاصرة، فبإمكاننا إحصاء عدد كبير من الأحداث الشبيهة لما يحصل اليوم في غزّة لناحية السموّ الأخلاقي للفدائي الفلسطيني. ففي إحدى عمليّات خطف الطائرات الأولى لـ”الجبهة الشعبية” (والتي كانت عمليات تهدف إلى تحرير أسرى فلسطينيين من سجون العدو)، يذكر أحمد جبريل كيف تبرّع هو ووديع حداد لإطلاق سراح الأطفال والنساء بدون مقابل. ومن جهة ثانية، كشف أبو داود، وهو أحد العقول المدبّرة لعملية ميونيخ الشهيرة، كيف تجنّب أحد الفدائيين الفلسطينيين قتل رياضيٍّ صهيوني تمكّن من الفرار وكان قريبًا منه، رغم ما سببته نجاة هذا الرياضي من تسريع لكشف العمليّة وإعطاء الشرطة الألمانية وقتًا أطول للتصرف. في كلّ هذه النماذج وصولًا إلى غزة اليوم، يجدّد الفدائي الفلسطيني ممارسة “العفو عند المقدرة”، متمسّكًا بالسياق الاستعماري للعنف بهدف تحقيق حريّة الإنسان والأرض.
وقد يعتقد البعض بأنّ تمسّك الفدائي الفلسطيني بالسموّ الأخلاقي في الحرب مع عدوٍّ منحلّ من كلّ أخلاق الحرب والسلم هو تفريطٌ بشكل أو بآخر. وهنا لا بدّ من التوضيح. التمسّك الفلسطيني بالسموّ الأخلاقيّ رغم اشتداد انحلال الطرف الآخر هو فعلٌ بآثارٍ تمتدّ كالجذور وتتفرّع كالأغصان. فمنطلق السموّ الأخلاقي الفلسطيني في الحرب هو عقديٌّ بالدرجة الأولى، عماده الالتزام بتعاليم الإسلام الثوريّ ورسوله الكريم. وعقيدة الإسلام الثوريّ هي عقيدة تصقل نفس معتقدها إلى أسمى درجات الإنسانية بتكريس صفتين يصعب تلازمهما في النفس الإنسانية: الكرامة والرحمة. فالكرامة تقتضي ردّ العدوان والدفاع عن النفس وحفظ الذات، بكلّ ما يشمله هذا الحفظ من بأسٍ وقوّة، فيما تأتي الرحمة لتهذّب اندفاع الكرامة وتشذّب عزّة الإنسان على مبدأ الآية الكريمة “لَا تَمْشِ فِى ٱلْأَرْضِ مَرَحًا ۖ إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ ٱلْأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ ٱلْجِبَالَ طُولًا”. وباتباع تعاليم العقيدة، يحافظ المقاتل على إنسانيّته بالدرجة الأولى، ويحمي منظومة القيم التي تمنحه الانضباط والصبر والقوّة اللازمة لخوض معركةٍ بهذا الحجم وبهذه الدقّة. هكذا تُحفظُ الجذور. وعلى صعيد الأغصان، يمثّل السموّ الأخلاقيّ في الحرب تمسّكًا بتطوير المنظومة الأخلاقية للمجتمع الفلسطيني والعربي ككلّ، بهدف الارتقاء إلى نموذج أمّةٍ قويّة كريمة، تنطلق من جذورها لتقدّم الخير الندّيّ لباقي الأمم. وفي ذلك، تكون المقاومة بقبضها على جمر السموّ الأخلاقيّ في زمن الشدائد، قد شقّت الطريق لمجتمعٍ كامل وللأجيال القادمة للخروج من وحل أزمات الاستعمار إلى فضاء الحريّة والاستقلال بشخصيّة صلبة متزّنة للأمة الصاعدة.
بناءً على كلّ ما سبق، ورغم مرور الوقت، فإنّي لن أجد إجابة على ذلك السؤال الذي طُرح في ذلك اللقاء، خيرٌ من أفعال المقاومة الفلسطينية والعربية على مدار صراعنا للبقاء بوجه آلة الإبادة الصهيونية. فإذا وصلنا إلى مرحلة امتلاك ذلك “الصاروخ” الذي نستطيع به قصف المربّع الذي يحمل المركز والحضانة، فإنّنا بذلك سنكون قد وصلنا إلى مرحلة “المقدرة”، وحينها سيكون عفونا هو التعبير الأسلم عن قوّتنا، لأنّنا بذلك نكون قد حققنا مصيرنا بأن نكون “خير أمّةٍ أُخرجت للناس”.