“تعاونت الصهيونية المسيحية واليهودية الصهيونية لإنشاء تحالف دولي يحّل محلّ أي شيء يقدّمه الناتو أو الأمم المتحدة“(دانيال لازار – 2003) ([1])
“في صباح يوم الإثنين الموافق 9 تشرين الأول/ أكتوبر، صدر البيان الخماسي المشترك، الذي تعهدت فيه قادة الولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وبريطانيا، بـ دعم إسرائيل في جهودها للدفاع عن نفسها“.([2])
يهدف هذا المقال إلى أمرين: محاولة إثبات قدرة “الكتاب المقدس” على تعزيز اللوبي اليهودي في تشكيل السياسات الأوروبية والأمريكية تجاه فلسطين، ومحاولة تفسير سبب التحالف والدعم الغربي، الأوروبي والأمريكي، للكيان الصهيوني في حرب الإبادة التي تشنّ على قطاع غزة.
اضطهاد اليهود في أوروبا
إنّ واحدة من الحقائق التاريخية، التي لم يُنكرها أحد من المؤرخين، هي أنّ اليهود كانوا في أوروبا في العصور الوسطي في ظل اضطهاد دائم ومعاناةٍ مستمرة. فقد قام إدوارد الأول، ملك إنجلترا، بطردهم عام 1290. وفي عام 1306 حذا حذوه فيليب دي بل، ملك فرنسا. وفي إسبانيا المسيحية، طرد اليهود أو ذبحوا على يد الملوك، وذلك حينما قضوا على غرناطة، عام 1492. وكانت روسيا مسرحًا لمذابح كبرى لليهود عام 1648، على يد القوزاق بزعامة بوغدان خميلنيتسكي.
فالموقف التقليدي للكنيسة الرسمية تجاه اليهود، كان يقوم على مقولات ثلاث هي:
أولاها: أن اليهود بقتلهم المسيح قد قتلوا “الإله”.
ثانيها: أن “الشعب المختار” صار هو “شعب الكنيسة”.
ثالثها: العهد القديم صورة سابقة للعهد الجديد، ترمز إليه وتبشر به.
هكذا، لم يكن في الفكر الكاثوليكي التقليدي، قبل عهد الإصلاح الديني، أدنى مكان لاحتمال “العودة اليهودية” إلى فلسطين، أو لأية فكرة عن وجود “الأمة اليهودية”. وكان القساوسة الأوائل يرفضون التفسير الحرفي للتوراة، ويفضِّلون الأساليب الأخرى للتفسيرات اللاهوتية، وبخاصة التفسيرات المجازية، التي أصبحت الأسلوب الرسمي للتفسير التوراتي، كما وضعته الكنيسة الكاثوليكية الرومانية. وكان يُعتقد أن الفقرات الواردة في “التوراة”، وبخاصة في “العهد القديم”، التي تشير إلى “عودة اليهود إلى وطنهم”، لا تنطبق على اليهود، بل على الكنيسة المسيحية، مجازًا. أما اليهود، فإنهم، طبقًا للعقيدة الكاثوليكية الرسمية، اقترفوا إثمًا، فطردهم الله من فلسطين، إلى منفاهم في بابل.
وعندما أنكروا أن عيسى هو المسيح المنتظر، نفاهم الله، ثانية، وبذلك انتهى وجود ما يسمى “الأمة اليهودية”، إلى الأبد. ولذلك، فليس لليهود مستقبل قومي جماعي، ولكنهم، كأفراد، يستطيعوا أن يجدوا الخلاص الروحي بارتدادهم للمسيحية.
النبوءات المتعلقة بعودة اليهود، كانت تؤوَل على أنها “عودة” الإسرائيليين من المنفى في بابل. وقد تحقّق ذلك في القرن السادس قبل الميلاد، حين أعادهم قورش إلى فلسطين. أما الفقرات الأخرى، التي تتنبأ بمستقبل مشرق لإسرائيل، فإنها كانت تحمل على أنها تنطبق على “إسرائيل الجديدة”، أي الكنيسة المسيحية، التي كانت تعتبر “إسرائيل الحقيقة” والوريث المباشر للديانة العبرية.
كانت هذه هي فكرة “De Civitate Dei”، الذي كتبه القديس أوغسطين، والذي يُعتبر التحفة الأدبية للاهوت الكاثوليكي. ويعتبر الأب أوغسطين، الذي كتبه في القرن الخامس، واضع العقيدة التي كانت الكنيسة، بموجبها، تجسِّد مملكة الله الألفية السعيدة. وبقي الأمر المسلم به أن هذه العقيدة هي الرأي المسيحي التقليدي في اليهود، حتى القرن السادس عشر. ونتيجة لذلك، كانت فترة العصور الوسطى تميل إلى الفصل بين اليهود المعاصرين والعبرانيين القدامى. ([3])
تشير المؤرخة اليهودية باربارا توخمان، إلى العداء الشائع لليهود في أوروبا، الذي بلغ أشده، إبان الحملات الصليبية، بالقول: فقد صبَّ الصليبيون أولى ضرباتهم على شعب المكابيين (اليهود)، قبل أن يغادروا أوروبا، وقد استعملوا السيف مع كل مجتمع يهودي، في طريقهم، بواسطة محاربيهم المسيحيين، الذين لم يستطيعوا الانتظار إلى نهاية الرحلة كي يغمسوا أيديهم في الدماء؛ ولم تكن الكراهية الشعبية لليهود عاطفة نشطة، حتى أشعلتها الحروب المقدَّسة. وقد كان أحد العناصر هو كره رجل العصور الوسطى وخوفه الخرافي من كل من يخالف عقيدة الكنيسة. وكان الشعور الطبيعي بالعداء لمن ندين له بالمال عنصرًا آخر، فقد كان اليهود يمارسون الربا، في العصور الوسطى؛ حيث إن النظام الاجتماعي استبعدهم من أشكال الحياة الأخرى، ولأن قانونهم كان يحرِّم عليهم الربا فيما بينهم، بينما يسمح به تجاه الغير، ولأن الربا كان ضروريًا للمجتمع، بالرغم من تحريم القانون المسيحي له. ([4])
“مسيحية جديدة “على يد لوثر!
لقد ظل اليهود، في نظر العالم المسيحي بأسره، “أمة ملعونة”، لمدة ألف وخمسمائة عام، لأنهم، في
اعتقاد المسيحيين، قَتَلة السيد المسيح، حيث عانى اليهود صنوفًا من الاضطهاد، والازدراء، بناء على هذا
التصوُّر، الذي ترسَّخ في العقل المسيحي. ورغم أن هذا التصوُّر، من وجهة نظر إسلامية، تصوُّر ظالم،
أنتج ممارسات ظالمة، إلا أنه صمد، على مر القرون، مدعومًا بنصوص كثيرة من الإنجيل، وظروف
اجتماعية، وسياسية خاصة. لكن القرن الخامس عشر الميلادي أظهر تحولات عميقة في النفس المسيحية،
الغربية على الأقل، مع بزوغ ما عُرف بحركة الإصلاح، وما استتبعه ذلك من انشقاق، سياسي وعقائدي، داخل الديانة المسيحية، بشكل عام، والكاثوليكية الغربية، بشكل خاص، حيث كان من نتائج هذه التحولات أن أصبحت المسيحية الجديدة، التي عُرفت باسم البروتستانتية، ربيبة لليهودية. فقد أصبح للتوراة، أو “العهد القديم”، أهمية أكبر، في نظر البروتستانت، من “الإنجيل”، أو “العهد الجديد”، وبدأت
صورة “الأمة اليهودية” تتغير، تبعًا لذلك، في أذهان المسيحيين الجدد. ولم يكن الانشقاق داخل الكنيسة،
رغم الطابع الأيديولوجي الذي اصطبغ به، بعيدًا عن صراعات السيادة بين الأمم الأوروبية، يومها،
خصوصًا بين فرنسا، وإنجلترا، وألمانيا، فقد انحازت الكنيسة الكاثوليكية إلى جانب فرنسا، مما جعل الشعبين، الإنجليزي والألماني، يميلان إلى اعتناق المذهب البروتستانتي، الذي دعا إلى التحرر من سلطة الكنيسة. ([5])
ظهر هذا التحوُّل في النظرة المسيحية إلى اليهود في كتابات رائد الإصلاح البروتستانتي الشهير، القس الفيلسوف مارتن لوثر. فقد كتب لوثر، عام 1523، كتابًا عنوانه “المسيح وُلد يهوديًا”، أعيد طبعه سبع مرات في العام نفسه. وشرح فيه لوثر المواقف المؤيدة لليهودية، وأدان اضطهاد الكنيسة الكاثوليكية لليهود، محتجًا بأن المسيحيين واليهود ينحدرون من أصل واحد: “إن الروح القدس شاءت أن تُنزل كل أسفار الكتاب المقدس عن طريق اليهود، وحدهم. إن اليهود هم أبناء الرب، ونحن الضيوف الغرباء، وعلينا أن نرضى بأن نكون كالكلاب، التي تأكل من فتات مائدة أسيادها”.([6])
يدافع لوثر عن اليهود ضدَّ كَثْلَكَةٍ يتّهمها باضطهادهم، ويطالب بوقف هذا الاضطهاد، الذي يمارسه “لوطيّون جهلة، كلُّ ما يفعلونه هو اضطهاد اليهود”، ويطالب بوقف الاضطهاد المسيحيّ “ضد اليهود، وإلحاق الإهانات بهم، قائلين إنهم بحاجة لعون المسيحيّين للتخلُّص من نتنهم، وغير ذلك من السخافات”. كما يتَّهم لوثر الكنيسة الكاثوليكية بأنّها تعاملتْ مع اليهود “كأنهم كلاب، لا بشر”، وبأنّها مارستْ “العنف والكذب ضد اليهود”، وأن المسيحيّين، المنقادين لها، “يمنعون اليهودَ من العيش والحياة بيننا وفي مجتمعاتنا”.([7])
كان لوثر، يؤمن بأن نبوءة التوراة، حول إنقاذ كل إسرائيل، كأمة، ستتحقق، وكان يلوم البابوية لتحريفها المسيحية، وصدها بذلك اليهود عن اعتناقها.
لكن موقف لوثر من اليهود أصبح أكثر قسوة في القسم الثاني من حياته، فقد أثارت حفيظته الأنباء القائلة إن اليهود كانوا يجمعون الأنصار لعقيدتهم، من خلال حركة المسيحيّين المتشددين في مورافيا، بدلًا من أن يرتدوا للمسيحية. وفي عام 1544، ألّف لوثر كتابه “اليهود وأكاذيبهم”، وتضمن سيلاً من الشتائم والهجوم على اليهود، إذ وصفهم بأنهم خبثاء، ولصوص، وقطَّاع طرق، وديدان مقزِّزة. واستخدم لوثر في كتابه كل الاتهامات التي كانت توجَّه إلى اليهود في العصور الوسطى، مثل تهمة الدم، وتسميم الآبار، واتهمهم بأنهم يلعنون المسيحيين في معابدهم، ووصف اليهودية بأنها أصبحت شكلًا من أشكال الوثنية. كما أوصى لوثر بضرورة إحراق معابد اليهود، وتدمير منازلهم، وأن يجمعوا، كالقطيع في الحظائر، حتى يتحققوا من أنهم ليسوا أسيادًا في بلادهم، وإنما غرباء في المنفى. ([8])
بالرغم من ذلك، فإن لوثر يقول في الكتاب نفسه: “من الذي يحول دون اليهود وعودتهم إلى أرضهم في يهوذا؟ لا أحد. إننا سنزوِّدهم بكل ما يحتاجون لرحلتهم لا لشيء إلا للتخلص منهم. إنهم عبء ثقيل علينا، وهم بلاء وجودنا”.([9])
“الكتاب المقدَّس” ملحمة قومية أوروبية!
في عام 1538، أصدر الملك هنري الثامن إعلانًا، أمر فيه بتجميع “الكتاب المقدَّس” في كتاب واحد باللغة الإنجليزية، ليكون أكبر كتاب عرفته اللغة الإنجليزية ــ وقد أمر بأن توضع نسخة منه في كل كنيسة في إنجلترا.
مع ترجمة الكتاب المقدَّس إلى اللغة الإنجليزية، واتخاذه كأعلى مرجع للكنيسة الإنجليزية المستقلة، أصبح التاريخ، والتقاليد، والقيم العبرية، جزءًا من الثقافة الإنجليزية، وأصبحت اليهودية، على مدى ثلاثة قرون، العامل القوي الوحيد المؤثِّر في الثقافة الإنجليزية. وكما قال ماثيو أرنولد، فقد “ربطت عبقرية، وتاريخ الشعب الإنجليزى، بعبقرية وتاريخ الشعب العبري”.
أينما سيطر الإصلاح، حل “الكتاب المقدَّس” محل البابا، كسلطة روحية عليا. وازداد التركيز، أكثر وأكثر، على الأصول الفلسطينية للمسيحية، للتقليل من ادعاءات روما. وحلَّت كلمة “الرب” كما هي واردة في الكتاب العبري (العهد القديم)، لإبراهيم، وموسى، ووصايا إشعيا، وإيليا، ودانيال، والمسيح، وبولس، محل الأوامر البابوية.
يقول توماس هاكسلي: “تذكَّروا الحقيقة التاريخية العظيمة، ألا وهي أن هذا الكتاب قد تخلل حياة كل نبيل، وسامٍ، في التاريخ الإنجليزي، وأصبح الملحمة القومية لبريطانيا”. وتحققت الحقيقة المدهشة، بتحوُّل التاريخ العائلي لشعب إلى الملحمة القومية لشعب آخر. وبعد طبع نسخة الملك جيمس، في 1611، اكتمل التبني، وأصبح “الكتاب المقدَّس” جزءًا لا يتجزأ من إنجلترا، مثله مثل الملكة بث، أو الملكة فيكتوريا. وعادة ما يشير الكُتّاب إلى “الكتاب المقدَّس” بعبارات مثل “الكتاب المقدَّس” أو “أعظم الكلاسيكيات الإنجليزية”، أو حتى “أكثر قطع التراث القومي احترامًا؛ يقول اتش دابليو هور، في كتابه “تطوُّر الكتاب المقدَّس الإنجليزي”، ويرينا كيف يمكن أن يضلل الحماس الباحث: حيث إن الكتاب المقدَّس الإنجليزي، ليس أكثر احترامًا من تشوسر، ولا هو قطعة تراث، إلا كترجمة. وسيظل محتواه تسجيلًا لأصول، ومعتقدات، وقوانين، وتقاليد، وتاريخ يهود فلسطين، وقد وضع أغلبه، قبل أن يتعلم أي شخص في إنجلترا القراءة والكتابة. ولكن لم يتغلغل كتاب آخر في دماء وعروق الإنجليز، كما فعل هذا الكتاب. وحين طلب والترسكوت المحتضر من لوكهارت أن يقرأ له، سأله لوكهارت “من أي كتاب؟”؛ فقال له سكوت: “لا يوجد سوى كتاب واحد، الكتاب المقدَّس!”.([10])
يذكر مؤرخ يهودي آخر، هو سيسيل روث (Cecil Roth)، صدور مطبوعات تمجِّد اليهود وتطالب بإعادتهم إلى إنجلترا. وقد ترجمت إلى الأسبانية، ليسهل تداولها بين يهود هولندا، وإنجلترا، المهاجرين من أسبانيا، والبرتغال. ([11])
يقول فؤاد شعبان، حول الأثر العام الذي تركته البروتستانتية فيما يتعلق بنظرة أوروبا إلى اليهود، إن “الثورة البروتستانتية، وترجمات الكتاب المقدَّس، حفزت الكثير من الأسئلة عن مكانة اليهود، وطبيعة معتقداتهم، والإله الذي يعبدونه. وحدث، بصورة تدريجية، تحوُّل في نظرة المسيحيّين في أوروبا إلى وجود اليهود بينهم، وأثارت معرفة الناس بنصوص العهد القديم، فضولهم حيال مفاهيم (العهد)، و(الشعب المختار)، و(أرض الميعاد)، وكل الأساطير التي وردت عن اليهود، وديانتهم، وأنبيائهم”.([12])
في ظل هذا الوضع، أصبح “العهد القديم” مصدرًا مهمًا للمعلومات التاريخية عند العامة، حيث اقتصر تاريخ فلسطين على القصص المتعلقة بالوجود اليهودي فيها، دون غيرها، وبالتالي أصبح البروتستانت مهيئين للاعتقاد بأنه لم يكن في فلسطين إلا الأساطير، والقصص التاريخية الواردة في “العهد القديم”، حيث كأنه لا وجود للشعوب الأخرى التي عاشت في فلسطين. وهكذا، رسَخت في أذهان البروتستانت فكرة الرابطة الأبدية بين اليهود وفلسطين، باعتبارها وطنهم القومي، الذي أٌخرجوا منه، والذي يجب أن يعودوا إليه، طبقًا للنبوءات الواردة في “العهد القديم”. كما أن حركة الإصلاح الديني أعطت وزنًا كبيرًا للغة العبرية، باعتبارها اللغة الأصلية للكتاب المقدَّس. فلكي يفهم المؤمنون كلمة “الله” بشكل صحيح، لا بد لهم من معرفة اللغة الأصلية، التي كُتب بها، وبالتالي، أصبح العلماء، والمصلحون، وحتى العامة، منكبين على دراسة اللغة العبرية، وتعلمها.
قبل نهاية القرن السادس عشر، أخذت الحروف العبرية تُستعمل في الطباعة، ولم تعد معرفة العبرية مقتصرة على كتب “العهد القديم”، بل انكب المسيحيون العاديون، ورجال الدين، على دراسة أدب الأخبار؛ وأصبحت العبرية “مسألة ثقافة واسعة، كما هي مسألة دين، وسرعان ما تحوَّلت معرفة الأدب العبري، أو الإلمام بشيء منه، على الأقل، من ترجمة أشعار العهد القديم، غير الصحيحة، وغير المترابطة، إلى معرفة هذه الكتب، بلغتها الأصلية، والتبحُّر في عالم الفكر العبري، الذي لم يكن مكتشفًا، من قبل”.([13])
على خطى لوثر
في الفترة التي تلت حركة مارتن لوثر الإصلاحية، ظهر عدد من المذاهب الفرعية للبروتستانتية، مثل الكالفينية (التي كانت تتبع أفكار جون كالفن، إلى اليمين من لوثر)، والإنجليكانية (وهي الكنيسة الرسمية لإنجلترا، التي كان يرأسها ملك إنجلترا، وهي أقرب المذاهب البروتستانتية إلى الكاثوليكية، وتسمى في أمريكا “الإبيسكوبالية”). كانت هذه المذاهب كلها تعتبر “العهد القديم” جزءًا أساسيًا من الكتاب المقدَّس، لكن جماعة الطهوريين (Puritans)، التي ازدهرت في أمريكا، وأرادت “تطهير” كنيسة إنجلترا من بقايا الكاثوليكية، كانت تتبع جون كالفن، وتحتل أقصى اليمين من البروتستانتية، وكانت تخص “العهد القديم” بمكانة تكاد تفوق مكانة “العهد الجديد”. وكان تأثير الطهوريين كبيرًا على الفكر الديني في أمريكا، لأنهم كانوا من أوائل المستوطنين في الشمال الشرقي من أمريكا الشمالية. ([14])
لقد ركزت حركة الإصلاح البروتستانتية، في القرن السادس عشر، على أهمية الكتاب المقدَّس، جاعلة منه المرجع الأساسي في الإيمان والعمل المسيحي (Sola Scriptura). أما الجيل الثاني من المصلحين الدينيين، فقد ادعى بحق المؤمنين، كأفراد، في تفسير الكتاب المقدَّس، وفق ما يوحى لهم من الروح القدس. ونتيجة لذلك، فقد بدأ يظهر هناك فيض من التفسيرات، بعد القرن السادس عشر، كما تطورت أساليب متعددة في مجال الأبحاث الكنسية. وفي غمرة هذا الترويج للتفسيرات الكتابية، ولـ اللامركزية في الكنيسة، فقد أُتيح هناك مجال كاف لدخول ضلالات، وكأنها تعاليم مسيحية مقبولة.
كإجراء تصحيحي، أدخل الجيل الثاني من المصلحين اللوثريين والكالفينيين أسلوبًا شديد التمسك بالمعنى الحرفي للكتاب المقدَّس. وخلافًا للكنيسة الأولى، ومحاورتها للمونتانيين (عندما حكمت الكنيسة على هذه العقيدة بالهرطقة)، فإن الجو الذي ساد، بعد فترة الإصلاح، أصبح الآن مهيئًا لهذا الأسلوب، ليدرج كوجهة نظر بديلة مقبولة. ([15])
فالصهيونية المسيحية، وتحديدًا المنتشرة في الأصولية الإنجيلية، وبشكل خاص في جميع فرق وفئات البروتستانت المتعددة، رأت في “العهد القديم”، المصدر الوحيد للاجتهاد، ولاستنباط الأحكام، والفلسفة الدينية، كما أن هذه الفرق حوّلت “العهد القديم” من كتاب ديني، إلى كتاب سياسي، يقوم على قاعدة العهد الإلهي بالأرض المقدمة لـ”الشعب اليهودي المختار”.([16])
لذلك، تسربت إلى صميم العقيدة المسيحية أدبيات يهودية، تبنتها الفرق البروتستانتية جميعًا، كوَّنت مكوِّنات أساسية للتطابق الحاصل في فهم الأصولية، الدينية والسياسية، بين ما يطرحه اليهود المتطرفون، وبين ما تطرحه فرق البروتستانت، بحيث بدا أن لا فرق واضحًا فيما بينهما. وقد تركَّزت هذه الأدبيات بشأن الأمور التالية:
الأول – أن اليهود هم “شعب الله المختار”، وأنهم يكونون إزاء ذلك الأمة المفضَّلة على كل الأمم.
الثاني – أن ثمة ميثاقًا إلهيًا يربط اليهود بالأرض المقدَّسة في فلسطين، وأن هذا الميثاق، الذي أعطاه الله لإبراهيم، هو ميثاق سرمدي، حتى قيام الساعة.
الثالث – ربط الإيمان المسيحي بعودة السيد المسيح، بقيام دولة صهيون، أي بإعادة تجمُّع اليهود في فلسطين، حتى يظهر المسيح فيهم. ([17])
وقد عبَّر محمد فاروق الزين عن هذا بالقول: “إن حركة الإصلاح الديني البروتستانتية زوَّدت اليهود بفرصة تاريخية نادرة، وفريدة، حصلوا بنتيجتها على الاحترام، والدعم الهائل، وغير المشروط من المسيحية الغربية، بسبب إيمان الأصوليين بالدور الكبير المفترض أن يلعبه اليهود في (سيناريو المجيء الثاني). فاليهود حصلوا على فلسطين، باعتبارها (الأرض الموعودة)، والمسيحيون الأصوليون ضمنوا بذلك تحقيق عودة المسيح الوشيكة”.([18])
إذن، من بين النتائج الواضحة للإصلاح الديني البروتستانتي، ظهور الاهتمام بتحقيق النبوءات التوراتية المتعلقة بنهاية الزمان. وكان جوهر “العصر الألفي السعيد” هو الاعتقاد بعودة المسيح المنتظر، الذي سيقيم مملكة الله في الأرض، والتي ستدوم ألف عام. واعتبر المؤمنون بالعصر الألفي السعيد مستقبل الشعب اليهودي أحد الأحداث الهامة، التي تسبق نهاية الزمان. والواقع أن التفسير الحرفي لنصوص “سفر الرؤيا” قادهم إلى الاستنتاج بأن عودة اليهود كأمة (إسرائيل) إلى فلسطين هي بشرى الألف عام السعيدة، لكن ارتداد اليهود للمسيحية عنصر هام لتحقيق ذلك، بل إن بعض الفرق كانت تصر على اعتناق اليهود للمسيحية قبل بعثهم، بينما اعتقد آخرون أن ذلك سيتم بعد عودتهم لفلسطين. وخلال تاريخ الكنيسة المسيحية استمر الاعتقاد الأخروي بعودة المسيح السريعة، وشاع ذلك الاعتقاد في القرن الأول الميلادي وكان يظهر بين فينة وأخرى خلال فترات الاضطراب السياسي والاجتماعي. ولكن الأمر الذي ينبغي ألا يغرب عن البال أن فكرة نهاية الزمان كانت مدمرة وتعتبر تهديدًا لأمن الكنيسة في العصور الوسطى. ([19])
وبلسان أحد الدهريين: “إن مصيرنا مشترك. فاليهود ينتظرون المسيح، ليجيء، ونحن المسيحيون ننتظر المسيح ليعود. وعلى أي حال، ستتوحد المسيحية واليهودية، من جديد، بمجيئه أو بعودته. وسندرك جميعًا أن هذا هو المسيح الذي كنا ننتظره”.([20])
هكذا اتحد الديني بالسياسي، واللاهوتي بالتاريخى، فخلق علاقة مميَّزة، بين البروتستانتية واليهودية، بشكل عام، وبين الأصولية البروتستانتية والصهيونية اليهودية بشكل خاص، بل زاد الأمر بتأسيس ما سمي بالصهيونية المسيحية. لقد آمنت الصهيونية المسيحية، قبل تأسيس “دولة إسرائيل”، بعودة اليهود، كشعب إلى أرضه الموعودة في “فلسطين”، وإقامة كيانه القومي فيها، تمهيدًا للعودة الثانية للمسيح، وتأسيسه مملكة الألف عام. وبعد قيام “إسرائيل”، أخذت الصهيونية تنظر إلى “إسرائيل” كحدث، وإشارة، تؤكد معتقداتها.
لقد خلق الإصلاح البروتستانتي ما هو أكثر بكثير من مجرد مناخ عام يفضّل انطلاق الصهيونية ونجاحها؛ لقد عمل البروتستانت من مختلف الطوائف لما يقرب من ثلاثة قرون ــ قبل أن يطلق تيودر هرتزل الحركة القومية اليهودية ــ على نشر فكرة العودة اليهودية، وجعلوها جزءًا من التصور البروتستانتي لنهاية العالم، ولفتوا انتباه الحكومات الغربية إلى هذا المخطط، وبعد ذلك بذلوا جهودًا ضخمة لدمجه في جدول أعمال السياسيات الأوروبية والأمريكية، ما أدى إلى تعزيز قدرة اللوبي اليهودي على تشكيل السياسات الأوروبية والأمريكية تجاه فلسطين.
[1]() محمد شهيد عَلَم، الاستثنائية الإسرائيلية: منطق الصهيونية الهدام، ترجمة: مصطفي هندي، ط1،
مؤسسة دراسات تكوين للنشر والتوزيع، السعودية ـ الدمام، 2021، ص 240.
[2]() بيان خماسي غربي مشترك: دولنا ستدعم إسرائيل في “الدفاع عن نفسها” – 09.10.2023, سبوتنيك عربي (sputnikarabic.ae).
[3]() ريجينا الشريف، الصهيونية غير اليهودية جذورها في التاريخ الغربى، ترجمه: أحمد عبدالعزيز، سلسلة
“عالم المعرفة”، الكويت، 1985، ص (26- 27).
[4]() باربارا توخمان، الكتاب المقدس والسيف، الجزء الأول، ترجمة: د. منى عثمان ومحمد طه، ط1، مكتبة
الشروق الدولية، القاهرة، 2004، ص (73- 74)..
[5]() يوسف عاص الطويل، الحملة الصليبية على العالم الإسلامي والعالم: دراسات وبحوث حول التحيز
الأوروبي والأمريكي لإسرائيل، الجزء الأول، ط2، صوت القلم العربي، القاهرة، 2010، ص(28- 29).
[6]() رضا هلال، المسيح اليهودي ونهاية العالم، ط3، مكتبة الشروق الدولية، القاهرة، 2004، ص 63.
[7]() د. عفيف فرّاج، اليهودية بين حضانة الشرق الثقافية وحضانة الغرب السياسية، ط1، دار الآداب
للنشر والتوزيع، بيروت، 2002، ص (152- 153).
[8]() مارتن لوثر، اليهود وأكاذيبهم، ترجمة: محمود النجيرى، ط1، مكتبة النافذة، القاهرة، 2007.
[9]() الشريف، مرجع سبق ذكره، ص 47.
[10]() توخمان، الكتاب المقدس والسيف، الجزء الأول، مرجع سبق ذكره، ص 105.
[11]() د. يوسف الحسن، البعد الديني في السياسة الأمريكية تجاه الصراع العربي ـــ الصهيوني (دراسة في الحركة المسيحية الأصولية الأمريكية)، ط4، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2005، ص 23.
[12]() د. فؤاد شعبان، من أجل صهيون التراث اليهودي المسيحي في الثقافة الأمريكية، ط1، دار الفكر، دمشق، 2003، ص (42- 43).
[13]() الشريف، مرجع سبق ذكره، ص 35.
[14]() د. شعبان، مرجع سبق ذكره، ص 42.
[15]() منشورات مجلس كنائس الشرق الأوسط، ما هي المسيحية الصهيونية الأصولية الغربية، ترجمة: مركز اللقاء للدراسات الدينية والتراثية في الأرض المقدسة، القدس، 1991، ص17.
[16]() محمد السماك، الأصولية الإنجيلية،ط1، مصر، مركز دراسات العالم الإسلامي، 1991، ص 40.
[17]() المرجع نفسه، ص 36.
[18]() محمد فاروق الزين، المسيحية والإسلام والاستشراق، ط1، دار الفكر، دمشق، 2002، ص 279.
[19]() الشريف، مرجع سبق ذكره، ص 28.
[20]() جورجي كنعان، والمسيح هو المشكلة، ط1، بدون دار نشر، 2001، ص 36.