إنّ رؤية علم فلسطين في الجغرافيا الغربية، أي في المساحات التي لا تعترف أصلًا بأحقّية وجوده، هي بمثابة خدعة بصرية متقنّعة. قد تخلق نوعًا من الحماس الطفولي أو الفضولي، ولكنّها في نهاية المطاف، ليست سوى محاولة لترقيع عمليّة محوٍ تحصل أيضًا، في لحظة الاعتراف بالعلم المرفوع في عواصم الإمبراطوريات السابقة على أنّها نوع من التضامن. ولا أقصد هنا أنّ التضامن هذا، بالضرورة، هو بلا معنى، أو “مؤامرة”، بل أحاول وضعه في إطار الحركات التي ترفعه والشروط التي تُرفق معه، والتي تدخلنا في عقود تضامن مشروط لم ندرك أنّنا وقّعنا عليها أصلًا.
يتنوع الخطاب عن ومع فلسطين في “الشمال العالمي”؛ بين المؤسسات الأكاديمية والإعلامية والحركات الاجتماعية والسياسية التي ترى في فلسطين إمّا سؤالاً أخلاقياً أساسياً، أو روابط وثيمات مشتركة، أو انتهزت فرصةً تاريخية لتحاول نزع صفة “الاستعمار” عن عملها – بمعنى آخر، تقول هذه الكيانات وبشكل غير مباشر: “قد نعمل مستفيدين من ثروات استُحصلت من عمليات استعمارية مختلفة، ولكننا نحاول، وجزء من محاولتنا هذه، أن نكون مع فلسطين”. يتحوّل فعل التضامن بدوره إلى محاكاة – أو محاكاة للمحاكاة، لا تمت إلى الواقع بصلة، وتنفصل عنه، لا بنيّة تحريفه بالضرورة، ولكن بهدف التهرّب من مواجهته أصلًا. يتماشى هذا الفعل جنبًا إلى جنب مع الفرضية التي مفادها أن الفلسطيني بالأصل ضحية، وأحيانًا يتحوّل إلى مقاوم.
وهذا الواقع، ليس بالضروري ناتجٌ عن أي مخطط مسبق، أو نية أذيّة، بقدر ما هي خلاصة انفجار تناقضات مختلفة لم يُتعامل معها. والواقع أن هذه الأسئلة حول ماهية التضامن “الغربي” مع فلسطين لم تتجاوز في السابق حدود الاستفسار عن النوايا. وبعكس المتوقّع، أُسست ديناميكية التضامن على أساس تلقّي المتضامن معه وقبوله كل أشكال المحبّة هذه، حتى ولو كانت مؤذية له في الأساس. وهذا النص ليس سوى محاولة للاستفسار عمّا إذا كان بالإمكان لنا، فضًلا عن أن نعكس العلاقة هذه، أن نضع شروطًا على من يتضامن، بدلًا من أن نتموضع نحن بحسب شروطه.
يتحوّل فعل التضامن بدوره إلى محاكاة – أو محاكاة للمحاكاة، لا تمت إلى الواقع بصلة، وتنفصل عنه، لا بنيّة تحريفه بالضرورة، ولكن بهدف التهرّب من مواجهته أصلًا
إعادة تشكيل الهوية الفلسطينية في سياق “حراكات التضامن”
يبقى “التمثيل” السمة الأساسية للتضامن المشروط، بغض النظر عن العاصمة الغربيّة التي يتخذها التضامن مركزًا له. هناك حاجة دائمة للاستماع إلى “الصوت الفلسطيني”؛ يُستحضر الصوت من خلف الحدود، يُوضع كديكور يعزّز من مصداقية المتضامن ويُستخدم في لحظة أي هجوم على حقهم بالتضامن. لعل الصوت الفلسطيني هو الأقل مجازيّة في التمثيليّة هذه، وبالتالي يصبح مضمون التضامن ليس سوى: “ما يقوله فلان هو/ ما يسعى فلان إلى قوله هو…الخ”، وفلان هنا قد يكون فعليًا أيًا منّا، كأشخاص وليس كأفكار. وبالطبع، مشروعية الشخص وإمكانية المتضامن الغربي على اقتباسه ترتبط بالضرورة بمدى قابلية ترجمته للأدبيات المضادة للاستعمار، ومدى قدرة المتضامن على “تأويله” بما يتطابق بحدود سقف تضامنه، والمرتبط بالضرورة بقوانين بلاده.
ولذلك، يُصبح من السهل استخدام لغة الضحية، وهي ليست بالضرورة لغة المظلومية، بل أحيانًا، تأتي لتقول بأننا لسنا ضحايا، ولكنّها قد لا تخبرنا من نحن حقًا. بمعنى، أنّها لغة تجرّد كل ما هو عملي وحقيقي؛ يُصبح الفلسطيني مجرد متلقٍ عابر، لا معنى لكلماته من دون وضعها في إطار الغضب أو مشاعر أخرى لا يمكن التحكّم بها. مثلًا، تجريد المقاومة إلى مجرد مصطلح يُستخدم في لحظات غضب معينة، ودائمًا في سياق الاستجابة والدفاع وليس في سياق الهجوم أو الاعتداء. وهذا يعني، أنّ القضية الفلسطينية، برمّتها، تصبح معرّفة في لحظة موتها فحسب، ولذلك تبقى غائبة، حيث لا يمكن لها الوجود إلّا في إطار موقع الضحية، أي تعلّب في الموت إمّا بفعل نفي الحياة عنها (أي تجريد المقاومة) أو نفي وجودها أصلًا (بمعنى أن الفلسطيني لم يكن سوى ضحية).
تتفشّى ظاهرة تحريف الهوية في حركات التضامن الغربيّة، وقد نعتقد للحظة أنّ ذلك مرتبط، حصرًا، بإطار خطاب الضحية. ولكن، أحيانًا، ولشدّة خوفهم من أن يفشلوا في تضامنهم، يضمّنوا خطابهم بعضاً من الأسطرة، بمعنى أن الفلسطينيين عبارة عن صورة لما تعنيه المقاومة بالنسبة لهم، وقد يتضمّن ذلك استعارات مختلفة، إمّا مثلًا صورة “المقاوم الوحيد” الذي لا سند له، أو المقاوم الذي ينجح في كل اختبارات قيمهم العجيبة، بمعنى أنّه يحب البيئة مثلًا ويحارب الاحتلال والتغيّر المناخي معًا. وبالتالي، نحن أنفسنا نخضع للاختلاس من قبل من يحاول “تفسير” وجودنا. فتصبح قضيتنا مجرد مجاز رمزي اجتماعي لقضاياهم، يرون فيها حياة أخرى بعيدة عن إحباطات بيروقراطية “تنظيماتهم السياسية”، ولذلك، تصبح المقاومة، التي جردوها في لغة الضحية، مجرد فوضى، وهم في حالة عجز تام عن دعمها، فوضى معقدة بشكل لا يمكن لأحد فهمه، ولذلك نكتفي بتجريدها، إما كضحية أو كأسطورة. نغرق نحن في داومة مشاعرهم حيال وجودنا وهواجسهم وشعورهم بالعجز وأحلام اليقظة في عالم “حر”. نجمد في هذا الإطار، وكأنما الزمن عالق لدى الفلسطينيين عند ما يقرّره اليساري الأوروبي. في حال قرّر أنّ تحررنا قادم غدًا، نصبح أكثر حركيين، نوضع على جلسات نقاشهم، ينشرون مقابلاتنا – من ينطق بيننا الإنجليزية التقدمية – ونصبح القضية المركز لهم جميعًا. وفي لحظة مللهم من عجزهم، أو انشغالهم بقضايا محلية، نوضع على الهامش، ونصبح مجرد إضافة على “تشيك ليست” لا تنتهي من القضايا التي يجب أن يهتم بها العالم. وهذا يعني أنّه من الضروري أن تتم مقارنة القضية الفلسطينية مع سياقات أخرى، مثلًا:Black Lives Matter vs Palestinian Lives Matter ــــ وهي مقاربة بين قضيتين تهمل بالضرورة السياقات المادية لكل منّها، ولكنّها قد تبدو صورة جمالية لطيفة للأبيض الغارق في جلد ذاته. واللافت هنا، أنّ نقد هذه المقارنات يتماهى أيضًا مع مقاربات أكاديمية بحتة لا معنى لها، بمعنى: “هل تعلمون أن أغلب المجتمع الفلسطيني عنصري أيضًا؟ لذلك، لا يمكننا المقارنة بين القضيتين!” ويوضع رفض المقارنات هذا في إطار عمليات “النقد الذاتي”، والتي يبدو أنّه من غير المسموح أن نقوم بها إلّا في لحظة التضامن الغربي معنا، بمعنى أنّها كغيرها من الأمثلة ليست إلّا محاولة لإعادة تشكيل الهوية بحسب إطار التضامن الممنوح لنا.
في حراكات التضامن التي لا تُعلن بشكل صريح عن موقفها السياسي الواضح من الاحتلال الصهيوني، أو حتى أنّها لا تسمّيه أصلًا، ولا تملك أي نوع من الفهم التاريخي واليومي لما تعنيه مقاومة الاحتلال والاستيطان، ولا فهم لسياقات المنطقة التي اختارها الاحتلال مركزًا له وربط ذلك بصراعات المنطقة العربية مع الاستعمار أيضًا، تصبح القضية الفلسطينية – والهوية بالضرورة – مجرد “ميلودراما” خاضعة للتأويل بحسب “الجهة المانحة للتضامن”، وتصبح قضيتنا كأنّها محاولة للحوار مع “إحباط” الحركات الاجتماعية في الغرب وتعبيراً عن الاستياء السياسي العابر. ونصبح هنا، سلعة للاستعمال وللاستهلاك وللمشاهدة، من دون انخراطنا فعليًا بأي فعل سياسي منتج “عابر للحدود” بصدق.
القضية الفلسطينية، برمّتها، تصبح معرّفة في لحظة موتها فحسب، ولذلك تبقى غائبة، حيث لا يمكن لها الوجود إلّا في إطار موقع الضحية، أي تعلّب في الموت إمّا بفعل نفي الحياة عنها (أي تجريد المقاومة) أو نفي وجودها أصلًا
في قواعد التضامن المشروط
نتلقى في هذا الإطار شروطًا للتضامن معنا، تبدأ أولًا بعدم مخالفتنا لأي من قوانين الدساتير الأوروبية: أن لا ندعم “جماعات إرهابية”، أن لا نرتكب أي شكل من أشكال العنف، حتى في حالات الدفاع. ويكفي وجود هذين الشرطين لفهم أنّ كل ما ذكر من قبل عن مسرحيات التضامن لا معنى له. يعني، لا يمكن لأيّ منّا فعليًا عكس الواقع في ما يحكيه ويكتبه أو أن يكون وفيًا لشعبه وما يؤمن به الفلسطينيون الذين اختاروا الإيمان بحركات المقاومة.
وأن نكون فلسطينيين في إطار التضامن يعني أن نكون فلسطينيين ثقافيًا، وأحيانًا سياسيًا بشرط أن نقتبس فانون مثلًا، وأن نقول أننا مع المقاطعة للمنتجات الإسرائيلية ولكن لا يمكننا رفض الوجود في مساحات مشتركة مع مستوطنين “يساريين” قرروا العداء للاحتلال من منطلق أنّهم ضد “الحكومة الإسرائيلية”، ويعني أيضًا أنّه من غير المسموح لنا القول بأنّ سياقاتنا كفلسطينيين مختلفة، وبالتالي، علينا في لحظة واحدة أن نمثل كل فلسطيني. ولكن التمثيل هذا يأتي مع نص مجهز مسبقًا: نحن فلسطينيون نعادي الاحتلال، نود العودة إلى أرضنا، كفى عنفاً، لنبني حركات عابرة للحدود، ولنحرر بعضنا البعض غدًا. والفكرة أنّ هذا التصريح لا يشمل البديهيات: عن أي أرض نتحدث؟ وأي احتلال؟ ومن المجرم؟ وهل الحركات العابرة للحدود هذه تؤمن بالضررورة بأحقيتنا في حمل السلاح، مثلًا؟
تضلل هذه التصريحات الناس حيث تسحرها بكلمات قد تبدو، وللحظة، مشابهة لحركات التحرر في السبعينيات والدعم المادي والمتماثل الذي حصلته حينها، ولكن يبدو أن الفرق هنا قد يُحصر بالأساس بالفرق في تسمية هذه الحركات لنفسها. الفرق شاسع بين مصطلحي “حركات التضامن” و”حركات التحرر”، فالأخيرة تربط مستقبلها ووجودها بك، وتضحي وتخاطر بما تملكه أو حتى أحيانًا تستعين بك لتملك شيئًا لتقاوم معك، بينما التضامن ينحصر فقط في من يملك امتياز التفكير بك في جامعاته، ويود أن يمنحك بعضًا من “وعيه”، لعلّه يكتب عنك لاحقًا وينتفع هو، بينما تصارع أنت على أحقية الوجود من قبل من يموله أصلًا. والتمييز بين حركات التضامن وحركات التحرر موضوع لا يمكن حسمه بالضرورة، خاصة أنه غالبًا ما يتم فحصه من خلال عدسات الهوية (أي من المتضامنين ومع من) أو مدى راديكاليته أو قربه من إيديولوجيات راديكالية (وليست بالضرورة يسارية). ومع ذلك، فإن هذا لا يقلل من ضرورة وأهمية فهم الفرق بينهما.
غالبًا ما تركز حركات التضامن في سياق الهوية الليبرالية على الهويات المشتركة أو الخبرات المشتركة أو القيم المشتركة، ولكن هذه الحركات غالبًا ما تعمل ضمن الأنظمة والنماذج الحالية التي خلقت هذه الهويات أصلًا، وبالتالي، في سياق فلسطين، يصبح التضامن معقدًا بفعل كون الكيان الصهيوني قائم على فكرة المحو.