بغض النظر عن دقة تقرير الوول ستريت جورنال عما جرى عشية بدء الحرب البرية على قطاع غزة، فإن نقاشًا حول مكانة “إسرائيل” وقدرتها كان قد شُرّع منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول داخل أروقة القرار الإسرائيلي. بإمكاننا اليوم قراءة ما سُرب من نقاشات في أروقة الحكومة الإسرائيلية باعتباره امتدادًا لنقاش ضارب في عمق الوعي الصهيوني عن “إسرائيل” ووظيفتها، وعن الجماعة اليهودية ودورها التاريخي خارج المنفى. وهو النقاش القديم الذي ما انفك يستعيد حضوره كسؤال عند كل تحدٍّ وفي كل منعطف: من هو اليهودي؟
يعود السؤال في جنبة من جنباته إلى كاتب ثلاثية سيرة تروتسكي (النبي المسلح، النبي الأعزل، النبي الخارج عن القانون) المنظر الماركسي الصهيوني إسحاق دويتشر، وتحديدًا إلى كتابه المعنوَن “اليهودي/ اللايهودي”. في كتابه ذاك، يعود دويتشر لأسئلة البدء الأولى بالنسبة للصهيونية؛ ما معنى قيام “إسرائيل” وما الفائدة المرجوة منها؟ “لو أن اليهود حازوا دولة قومية في القرن التاسع عشر – قرن صعود الدول القومية – لكان الأمر مبررًا لهم. لكنهم حازوا على دولتهم منتصف القرن العشرين، بعد أن صار أفول الدولة القومية مسألة حتمية. وبعدما فقد الفرد حظوته في تعريف نفسه من خلال الدولة – الأمة، وبعدما لم يعد للإنسان من مكانة إلا في المجتمع فوق القومي… في هذا التوقيت بالتحديد وجد اليهودي أمته ودولته”. دويتشر يعيد الاعتبار لليهودي العالمي في كتابه؛ إن كلًا من سبينوزا، ديفيد هيوم، كارل ماركس، روزا لوكسمبورغ، ليون تروتسكي، سيغموند فرويد، كل من هؤلاء الهراطقة يمثلون بحق اليهودي العالمي. إنهم “الهراطقة اليهود المتجاوزين شرط القيد اليهودي، هم ذهبوا إلى ما بعد حدود هذا الشرط بعد أن وجدوه شديد الضيق والبدائية والسطوة. فبحثوا عن مثالهم خارج هذا الشرط”. دويتشر تنبأ، في كتابه ذاك، أن الفاشيين المتزمتين من اليهود الذين ليس لهم قوة في الوقت الحاضر في “إسرائيل”، سيكونون هم حكام “الدولة” في المستقبل. ورأى أن قناعة الإسرائيليين بأن “العرب سيبقون إلى الأبد على الدرجة نفسها من التخلف والانقسام” ناجم عن غرورهم. فنفوسهم محكومة بعقدة التفوق، وهم منذورون لحروب أبدية مع العرب والمسلمين”.
في مقابلة له مع “New Left Review” قبل شهر واحد من وفاته عام 1967، قال دويتشر نفس الكلام بلغة أخرى: “ثمة ما يزيد عن مليون عربي فقدوا أرضهم وبيوتهم بعد قيام إسرائيل… ما معنى كل هذا؟ وما هو أفقه؟”.
سؤال دويتشر ذاك كان صميميًا وصادمًا بالنسبة للإسرائيليين، وكان استئنافًا لتساؤل نشده “أحد هعام/ أحد أبناء الشعب” وإن بنحو مختلف في مقاله “الطريق الخطأ” سنة 1889. في “الطريق الخطأ” كان هعام متخوفًا من فكرة الدولة وأقرب لليهودية الثقافية. الثقافة اليهودية الجديدة وحدها يمكن أن تكون حلًا للمسألة اليهودية في العالم، شريطة تحويل اليهود أرضَ صهيون إلى شعاع جذب نموذجي ليهود العالم. كل ما عدا ذلك، لن يجعل من “إسرائيل” المنشودة غير جزء من معضلة المسألة اليهودية وأزمتها العالمية. كلام أحد هعام ذاك كان جزءًا من سؤال يشغل نخب اليهود الأوروبية أواخر القرن التاسع عشر، أين يكمن حل المسألة اليهودية؟ “في أرض إسرائيل أم في أرض أمريكا؟”.
في مقاله ذاك، أكد هعام أن العقلاء وأصحاب النوايا الحسنة في كلا الجناحين (مؤيدي حل الهجرة إلى أرض صهيون أو الهجرة إلى أميركا) اضطروا بمرور الأيام إلى الإقرار، بشكل متبادل، أن أرض “إسرائيل” لن تستوعب كل اليهود، وبالأخص التجار والحرفيين الذين يسعون وراء رزقهم، في المقابل لن تستطيع أمريكا استيعاب جموع كبيرة من اليهود، ولن تساعدهم ليؤسسوا حاضرة يهودية هناك. من هنا اقترح هعام حلًا توفيقيًا: “إلى أمريكا وإلى أرض إسرائيل”. الجانب المادي والاقتصادي في المسألة اليهودية يجب أن يجد إجابته في أمريكا، في حين ينبغي للجانب المثالي والمعنوي في المسألة اليهودية أن يجد لنفسه “مكانًا تحت الشمس”، يرفع فيه اليهودي رأسه. والمكان الطبيعي لمثل هذا المشروع هو أرض صهيون. ومع ذلك، كان من المبكر بالنسبة إليه الحديث عن دولة بالمعنى السياسي، فالدولة تستولد عنفًا، وهو ما لا ينبغي لليهود الوقوع في شراكه مع العرب.
خيالات متضاربة
نحن لن نفهم طبيعة الاستجابة الإسرائيلية لتحدي السابع من أكتوبر ما لم نفهم طبيعة الخيال اليهودي المؤسس لـ”إسرائيل”. فاختلاف كل من نتنياهو، غانتس، غالانت، وأيزنكوت، هو في عمقه خلاف حول تصورات كل منهم للجماعة اليهودية ودورها التاريخي في (أو من خلال) “دولة إسرائيل”. ومع علمنا بأن “إسرائيل” حديثة العهد ككيان سياسي، وأن واحدًا من إشكالات الدراسات المستقبلية في مثل هذه الحالة تكمن في افتقار الباحثين لـ”باراديام تاريخي” يساعد في تحليل السياسة الإسرائيلية واقعًا، إلا أن إعادة النظر في المسألة اليهودية أواخر القرن التاسع عشر يفيد في فهم الأصل الذي تبني عليه الجماعة اليهودية تصوراتها عن ذاتها والعالم اليوم.
نحن لن نفهم طبيعة الاستجابة الإسرائيلية لتحدي السابع من أكتوبر ما لم نفهم طبيعة الخيال اليهودي المؤسس لـ”إسرائيل”. فاختلاف كل من نتنياهو، غانتس، غالانت، وأيزنكوت، هو في عمقه خلاف حول تصورات كل منهم للجماعة اليهودية ودورها التاريخي
يشكّل كتاب مارتن ويلينج “الحرب العالمية الأولى من وجهة نظر يهود براغ” (رسالة دكتوراه من جامعة دوسلدورف سنة 2003) مدخلًا مهمًا لفهم الفضاء العام للصهيونية وإطار تفكيرها النظري في المسألة اليهودية في ممالك بوهيميا وأوروبا الوسطى في لحظة من أعقد لحظات التوتر اليهودي في العصر الحديث. ينقل ويلينج أجواء يهود فيينا وبرلين الذين تبنوا عشية الحرب العالمية الأولى الثقافة الألمانية، ووالوا بعمق الممالك الهابسبورغية طوال القرن التاسع عشر. ومع ذلك، كانت القسمة التشيكية – الألمانية تزيد من إرباك يهود براغ، وقد تجلى الانقسام بين يهوديتي “برلين – فيينا” من جهة، و”براغ” من جهة أخرى (من خلال موقف الطرفين من الهجرة اليهودية من شرق أوروبا، ودورهما في الحرب العالمية الثانية).
تكشف الأرقام أن 57% من اليهود في تشيكوسلوفاكيا أعلنوا عضويتهم في الأمة اليهودية في التعداد السكاني لعام 1921 (مع وجود أعداد كبيرة من اليهود في سلوفاكيا وروثينيا جنوب جبال الكاربات/ غرب أوكرانيا). لكن هذا لم يكن صحيحًا في بوهيميا، حيث أعلن 14.6% فقط من اليهود عام 1921 أنهم يهود حسب الجنسية. وبالإجمال يمكن اختصار الخيال اليهودي في تلك المرحلة في تردده بين دوائر ثلاث:
الدائرة الأولى: الخيال اليهودي عن اليهودية كجماعة قومية (مثلها يهود براغ).
الدائرة الثانية: الخيال اليهودي عن اليهودية كجماعة أوروبية (مثلها يهود برلين وفيينا).
الدائرة الثالثة: خيال اليهود عن اليهودية كجماعة غربية أنجلو سكسونية (مثلها فرعا اليهود في لندن وفي الولايات المتحدة) والذي مالأ روسيا القيصرية.
باختصار، كان الحل الفلسطيني مع بولفور عام 1917 جزءًا من حل شامل للمسألة اليهودية، للخروج من فضاءات الخيال اليهودي الثلاث المتصارعة، وصيغة من نمط “رابح – رابح” لكل من ألمانيا، النمسا، روسيا، وبريطانيا، فترة ما بين الحربين العالميتين. من هنا، شكلت “إسرائيل” رافعة إقصاء اليهود عن أوروبا، ونجاحها صمام أمان استقرار العلاقات البين- يهودية. ومن هنا، سيُفضي أي نكوص – أو هزيمة – في المشروع الصهيوني إلى إعادة طرح المسألة اليهودية برمتها، كما سيفجر العلاقات البين – يهودية عالميًا.
نتنياهو: مكان تحت الشمس
من قرأ النص أعلاه، لا بد من أنه التفت لعبارة “مكان تحت الشمس”؛ تلك التي أطلقها أحد هعام حول أرض صهيون، في سعيه للخروج بحل للمسألة اليهودية أواخر القرن التاسع عشر. عبارة هعام هذه هي عنوان كتاب لنتنياهو عن “إسرائيل” (ألّفه عام 1995). نتنياهو بالضبط، يريد ما أراده أحد هعام في أن تكون “إسرائيل” منارة ليهود العالم (وإن اختلف مع هعام في آلية تحقيق هذا الهدف). وعلى النقيض من غريميه بيني غانتس وغادي أيزنكوت، يتطلع الرجل إلى “إسرائيل” باعتبارها حاضرة الجماعة اليهودية في العالم، ويعتبر نجاحها أو فشلها ضمان وحدة الدين اليهودي كما يقول دايفيد لانداو.
مرة جديدة، نحن بحاجة لإعادة التطلع إلى مرجعيات الخيال السياسي لكل من الأفرقاء الإسرائيليين.
غانتس يتطلع إلى “إسرائيل” باعتبارها دولة غربية، وأن ليس ثمة أمن قومي خاص بها بمعزل عن التصور الغربي لخارطة التوافقات والمصالحات في منطقتنا.
أيزنكوت يتطلع إلى “إسرائيل” باعتبارها دولة غربية بأمن قومي خاص بها (لاحظوا مواقفه المتشددة فيما يخص الفلسطينيين، وواقعيته المفرطة بكل ما له علاقة بالأمن القومي خارج “سيادة الدولة” على أرض فلسطين (يشترك في رؤيته الدولتية – statist vision – مع غانتس، ويختلف معه في موقع “إسرائيل” من الحاضرة الغربية، ويتوافقان في عقدة كيمرلينغ في أن “إسرائيل” كيان صغير في منتهى الضعف)، أما نتنياهو، فيتطلع إلى “إسرائيل” باعتبارها حاضرة الجماعة اليهودية بعيدًا عن موروثات “الدولة – الأمة” الأوروبية. يعي نتنياهو جيداً مخاطر الشقاق وإمكانية ظهور “شعبين” (أو أكثر) يهوديين خارج “إسرائيل” من خلال عملية تدريجية يعيشها اليهود في الغرب (لانداو يتنبأ بهذه المسألة من خلال منع الحاخامات الأصوليين الزواج بين اليهود الأصوليين واليهود غير الأصوليين، ويعتبر أنه خلال وقت قصير نسبيًا سيصبح هناك مجموعتان منفصلتان نتيجة الزواج فقط، على أن يأتي الانقسام العقائدي الرسمي كخطوة أخيرة).
يخشى نتنياهو، شأنه شأن الأصوليين خارج “إسرائيل”، من انتصار اليهود الغربيين عليه. ويرى في انتصارهم اضمحلال للجماعة اليهودية وللدين اليهودي. ويرى كذلك أنه لا تزال هناك فرصة أخيرة لتفادي هذا السيناريو باتحاد المشروع اليهودي اليميني عالميًا. نتنياهو وريث اليهودية المحافظة في براغ.
مرة جديدة، ينبغي على الباحثين التنبه لعودة ظلال المسألة اليهودية عالميًا، والأهم، التنبه للانقسام البين يهودي داخل حواضر اليهود عالميًا. كل سياسات نتنياهو تفيد معنى واحدًا: ينبغي على “إسرائيل” البقاء إلى جانب اليمين اليهودي (الأرثوذوكسي) عالميًا، في سعي منها للتغلب على حركة الإصلاح اليهودية التي تطل برأسها داخل العالم الأنجلوسكسوني. وهو يعتقد بقاء الدين اليهودي موحدًا منوطٌ بانتصار الجماعة اليهودية في معركتها الحالية داخل “إسرائيل”. إن هزيمة حركة الإصلاح (حركة علمنة الدين من خلال الأحزاب اليسارية داخل إسرائيل أو من خلال التيارات الاجتهادية العلمانية في اليهودية خارج إسرائيل) وحده يمكن أن يدفع بالجماعة اليهودية للانتصار في معركة تحديد المعنى الحقيقي لليهودية. وهذا هدف لا بد من لحاظه في معركة نتنياهو الحالية. يخوض الرجل معركته في غزة، وعينه على أعدائه من الفلسطينيين والعرب والمسلمين، وعينه الأخرى على خصومه من “الدولتيين والمتغربين” داخل الجماعة اليهودية نفسها، والمعركة، بالنسبة إليه، لا تزال في أولها.