“في إحدى ليالي القتال في أيلول 1970 كانت مقاتلة من أفراد المقاومة، قد تسلحت ببندقية كلاشنكوف، تقوم بواجبها في ليلة مرعبة، تحمي مع رفاقها أحد الأحياء في المدنية. وفي الهجمات المتقطعة بين نيران البنادق والانفجارات، كانت تسند دفترها على كعب بندقيتها وتخط في الظلام أبياتها الأليمة، ظانة أنها لن تعيش حتى الصباح لتقرأ ما تكتب. إن شعراً كهذا لهو صوت من الجحيم: يجعلك ترى، تؤمن، تغضب، تبكي، تريد القفز في اللهب”[1].
***
“صلينا الفجر نزلنا
فوق الأرض وحررنا
كُل شبر ولا ما تعبنا
نزلنا بعزة وإقدام
إحنا بأمر الضيف
للأقصى نعطي الأرواح”[2]
***
رغم ما يشاع أو يتوهم للبعض أن أدب الحرب بدأ يتشكل مع رواية تولستوي العظيمة “الحرب والسلم” (1872) الا أن أدب الحرب يعتبر من حيث المحتوى أقدم ما تعارفت عليه الحضارات، فهو التسمية الحديثة لأدب الملاحم، والأسطورة الملحمية الاغريقية “الألياذة” التي تحكي قصة حصار طروادة تعتبر أدب حرب. والكثير من التراث العربي القديم أدب حرب، فالعديد من السير والكتب بنت تفاصيلها المشوقة والبارعة حول الحروب، من حرب البسوس، وداحس والغبراء، وسيرة عنترة بن شداد المبنية على الغزوات والحروب، وتغريبة بن هلال، وقصة سيف بن ذي يزن، وجزء كبير من أدب الأقوام النوردية، هو أدب حرب. وكذلك “بيولف”، أقدم ملحمة أنجلوسكسونية مدونة شعراً، والقائمة تطول في حال تطرقنا إلى الـ”رومنسيات” الأوروبية في القرون الوسطى التي هي روايات شعرية يدور معظمها حول الحروب. هذا فضلًا عن أن الكثير من الشعر العربي من امرئ القيس وعمرو بن معد ويكرب إلى أبو تمام والمتنبي، هو في الواقع أدب حرب. وهذا ينطبق تماماً على الشعر الفلسطيني الحديث الذي في معظمه شعر مقاتل – أدب حرب[3].
***
“قسامنا شق السماء في هرتسيليا الملحمة.. رعب الوجوه تكلم، والله لا نهزم
قادمون، قادمون، قادمون.. قادمون، زاحفون، طالعون.. نرقب وعد الله
نحن العقاب المنتظر لعدونا نحن القدر.. أحفاد خالد والبرا.. والله لا نهزم”[4].
***
من جسر الشغور إلى بيروت مشيًا على الأقدام، أقاموا في الجامع العمري، ومنها إلى دمشق، وبسرية تامة كانت الوجهة صيدا، ومن هناك في قارب صغير إلى عكا، هذه كانت رحلة الشهيد عز الدين القسام برفقة ستة رجال طاردهم الاستعمار الفرنسي فلجأوا من سوريا إلى فلسطين عام 1920، وكان الوضع في فلسطين صعبًا من الناحية المعيشية، إذ عاشوا في غرفتين قدّمها قيّم مسجد في حيفا إليهم ليناموا فيها، ولم يكن لديهم أثاث أو مصادر دخل. وبعد شهرين من الإقامة في فلسطين اختار أحد المطاردين، وهو الحاج خالد، العودة إلى بلدته في اللاذقية مهما كان الثمن، وكانت خطته أن يعود إلى عمله ويتبرع بعائداته إلى حركة الشيخ عز الدين القسام. وعاد بالفعل، وعند أطراف بلدة جبلة، ألقت القوات الفرنسية القبض عليه، ومن درجة حقد الاستعمار على الشيخ القسام وكل معاونيه، قامت القوات الفرنسية بإعدام الحاج خالد أمام سكان القرى بأكثر الطرق بشاعة عن طريق سكب الكاز عليه وإحراقه حيًا أمامهم! وفي هذا العمل الشنيع تكثفت بشاعة ووحشية الاستعمار الفرنسي في عيون الناس وبينت مدى صمود وشجاعة المقاومين[5].
بعد أكثر من مئة عام من هذا الحدث، في صباح يوم السبت 7 تشرين أول /أكتوبر 2023، قرّرت “كتائب الشهيد عز الدين القسام” نيابة عن الشعب العربي الفلسطيني وأحرار العالم إعادة فتح حساب جرائم الاستعمار وإعادة الحق للحاج خالد ورفاقه.
***
“أنا محمد حلاسة سكان غزة، كنا ما يقارب من 4 – 5 عائلات مدنية احنا سكان الرمال التي تعرضت لقصف عنيف، توجهنا عند أقربائنا في الزوايدة، وكنا نيام والأطفال كانوا نيام، ولا يوجد بجانبنا أو حوالينا أحد من مَن تدعي سلطات الاحتلال أنهم من المستهدفين. الحمد لله رب العالمين أنا عندي 12 شهيد، بناتي الـ3 استشهدوا، وأخوي فقد عائلته كلها، زوجته وأولاده وأمه. وأخوي الثاني فقد زوجته وبناته، ولم يتبق له إلا ولدين. وأختي فقدت ابنها. مشاهد ومواقف.. لعل الفقد يبدأ قوي ومع مرور الزمن يزداد قوة، الفقد مؤلم بشكل كبير، لكن هذا قدرنا، ونحن في هذا البلد نعشق بلادنا، أنا وأخوي نستطيع أن نهاجر من سنوات، ونمتلك الإمكانيات لذلك، وعرض علي العديد من العقود، لكن تشبثنا بأرضنا. العدو يريد أن يوصل رسالة إلى كل صغير وكبير، أنا توفى لي أطفال، وكانوا هؤلاء الأطفال يتمنون الشهادة، وما قالته طفلتي لوالدتها على الواتساب قبل أن تموت بساعات، علمت أننا شعب لا تخيفه الشهادة، ولا يخيفه الموت. كانت تطلب من والدتها أن تسامحها، وتتيقن أن هذه الليلة ستكون نهايتها، وكانت تطلب أن تدفنها عند خالها الشهيد المقاوم لأنها تريد أن تتبارك به، وودعناها، وودعتها أخواتها وودعتها أمها، وبفضل الله سبحان وتعالى عزيمتنا قوية.
“أبو عبيدة بديرخ.. أبو عبيدة بديرخ” في حينها شكل المشهد تكثيفًا للحظة هبة أيار ولكن لم يكن أحد منّا يتوقّع أن يرى مشاهد أكثر غرابة بكثير في صباح السابع من تشرين حين أتى أبو عبيدة بالفعل
أكرم دلول: أخيرًا قبل ما نبدأ التغطية -يبدو أنه في مجزرة جديدة- بدنا انغلبك معانا، إسرائيل تسعى إلى الضغط على المقاومة من خلال استهدافكم كمدنيين… شو رأيك؟
محمد: يعني أنا أقول لدولة الاحتلال تعلموا من التاريخ، واعرفوا أن غزة على مدار التاريخ لم تخضع لغاصب ولم يطأ أرضها محتل، هذه فلسطين ككل وغزة على وجه الخصوص، ذات شكيمة قوية، وأطفالها ورجالها ونساؤها سيلعنونكم إلى أبد الأبدين، ونسأل الله السلامة لكل شعبنا وبارك الله فيكم”[6].
***
”أسوأ من الظروف التي أتت في 2006 لم يأت، العالم ضدنا، الدول الثمانية في العالم، حتى روسيا والصين أدانونا، أغلب الدول العربية ضدنا، الحكومة في لبنان ضدنا… وثلاث أرباع الاعلام الدولي والعربي ضدنا، والقصف أغلب الناس تهجرت من بيوتهم، مناطق بكاملها، وبعد أيام لم يبق مركز أو بيت لحزب الله إلا وقصف من الطيران. وقيل لا يوجد أمامكم خيار سوى أن تستسلموا أو تسحقوا. وكان هناك قرار دولي عربي بسحق حزب الله. وقالوا هناك حل: إما أن تقوم اسرائيل بتدمير كل شيء وسحق حزب الله. أو القبول بتسليم السلاح، القبول بتسليم الأسيرين الاسرائيليين، والقبول بانتشار قوات متعددة الجنسيات في بيروت والجنوب والبقاع وفي المطار والميناء وعلى امتداد الحدود اللبنانية السورية، وهكذا تتوقف الحرب… أنا لم يمر في حياتي يوم اقتربت فيه من فهم الحسين وكربلاء إلا في الأيام الأولى من حرب تموز… وأقول لهذا القائل أنت تعرفنا أكثر من غيرك، أنت تعرفنا، تاريخنا، عقليتنا، ثقافتنا، إرادتنا، هيهات منا الذلة، يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون” [7].
***
“هيهات منا الذلة”
هناك شكل من أشكال الكتابة يقوم به المراسلون عند كتابتهم للتقارير اليومية عن المعارك وهم في خطوط النار، حيث تشكّل كتابتهم أداة الاتصال بين الجنود والقيادة، أو بين الجيش والمجتمع. وتعكس كتاباتهم واقع المعركة والمقاتلين من مآس وعنف وعذاب وانتصارات وتضحيات. ويعتبر فعل الكتابة هنا جزءًا لا يتجزأ من المعركة، والكاتب بمثابة مقاتل يكتب قلمه تاريخ المعركة الذي ترسمه البندقية. ويأتي في ما بعد المؤرخ أو الدارس للشؤون العسكرية ليقوم بقراءة شاملة لهذه التفاصيل اليومية. وإلى جانب هذا يظهر أدب الحروب الذي من الممكن أن يرافق المعارك أو يتلوها، والذي يتمثل في القصائد والقصص والروايات التي يكتبها شعراء وكتاب عرفوا الحرب كمقاتلين، أو مراسلين، أو عايشوها بأي شكل من الأشكال، كتاباتهم التي غالبًا ما تبقى في ذاكرة المجتمع وملازمة لتراثه الثقافي، لما تتصفه من المزج بين روعة التحليل والتصوير الانساني للمشاعر والشخصيات والأحداث، المأساة والفجيعة، عبر إبداع وروعة في اللغة والتركيب التي دائمًا ما تبقى حاضرة رغم ابتعاد المعارك[8].
***
في مشهد مُبالغ في غرابته في إحدى مدن الداخل المحتل عام 1948 شاب فلسطيني ملثم ويضع على رأسه عصبة “كتائب القسام” ويحمل علم فلسطين، سيطر على جهاز لاسلكي خاص بقوات الاحتلال وبدأ يقول على اللاسلكي “أبو عبيدة بديرخ.. أبو عبيدة بديرخ” (أبو عبيدة قادم). في حينها شكل المشهد تكثيفًا للحظة هبة أيار “سيف القدس” (2021)، حين التحمت كل الساحات الفلسطينية دفاعًا عن القدس. ولكن لم يكن أحد منّا يتوقّع أن يرى مشاهد أكثر غرابة بكثير في صباح السابع من تشرين حين أتى أبو عبيدة بالفعل، فمرحبًا يا أيها العاصفة.
***
خاتمة
في محاضرة قدمها د. عبد الرحيم الشيخ ضمن مبادرة العمل في جامعة بيرزيت خلال معركة “طوفان الأقصى”، قال: “في الرياح السيئة يعتمد القلب، ولأن الرياح الآن ليس فقط سيئة وإنما مليئة بالفسفور ومئات الأطنان من القنابل يجب علينا مساءلة المقولة المنكسرة التي تتحدث عن أن أصوات المدافع تُسكت أصوات المثقفين والشعراء والأدباء، ولأن هذه دعوة للانسحاب، علينا العودة للإرث العالمي في مقولة النظرية والتطبيق، ومن هنا إلى معين بسيسو في “أَبَدأْتَ تُحصي أضْلُعَكَ؟ كمْ مِنْ ضُلوعِكَ والحصارُ يضيقُ قد وقَفَتْ مَعَكْ؟” وهي التي تقوم على معرفة الذات ومعرفة العدو كأساس وجودنا في المعركة، وعلى الشعور بالتقصير وعدم الإنجاز كشعور أساسي في محاولتنا المستمرة في المعرفة”. واستمرارًا في الحديث عن هذا الشعور المهم والمتعب، ماذا نفعل في هذا الكم الهائل من المادة المكتوبة والمصورة عن هذه الأيام؟ كيف لا ينسى المؤرخ أو الأديب أيًا من هذه الآلام والدماء والوجع والدموع، كيف بإمكاننا فهم صفحة معتز عزايزة على انستجرام؟ كيف نبقى مخلصين لهذه التضحيات والدماء؟
في نقاش جرى بين طاقم المتحف الفلسطيني، حول ما هو دور “المتحف” خلال الحرب على قطاع غزة -لأننا دائمًا نعمل في المتحف على فهم الحروب التي انتهت (الموجودة في التاريخ)، كان الرأي أن من الممكن أن يكون دور المتحف أن ينظر للحظة الحاضر كلحظة أرشيفية، يمكن حفظها وتصنيفها من أجل محاولة الإمساك بها وفهمها، أو أقله عندما ننظر لعام 2023 بعد سنوات نجد أن لدينا مادة تقربنا من واقع أيامنا الصعبة. ولكن الأصعب هو النظر للحظة الحاضر بعين المستقبل، أي بعين “طوفان الأقصى” الذي هو مقدمة في التحرير الكامل للتراب العربي الفلسطيني. هل تتخيلون معتز عزايزة يصور يومياته في المسجد الأقصى في يوم جمعة يقدّم فيها القائد العام محمد الضيف خطبة الصلاة؟
[1]جبرا أبراهيم جبرا، الفن والحلم والعقل. بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1988، 17.
[2]أغنية: طوفان الأقصى زمجر
[3]جبرا إبراهيم، مصدر سبق ذكره، 43.
[4]أغنية: غضب السماء الجوقة العسكرية كتائب الشهيد عز الدين القسام 2017.
[5] سميح، حمودة. الوعي والثورة: دراسة في حياة وجهاد الشيخ عزّ الدين القسّام. رام الله: مكتبة دار الفكر، 2021. 38.
[6]مقابلة على قناة الميادين أجراها أكرم دلول في صباح 17/10/2023 من أمام مشفى شهداء الأقصى.
[7]هيهات. حرب تموز السيد حسن نصر الله
[8]جبرا إبراهيم، مصدر سبق ذكره، 41.