المرثيات على الاقتصاد الإسرائيلي تغزو تقارير المؤسسات المالية ومراكز الأبحاث ووسائل الإعلام. تتراوح التغطية بين التوقعات السلبية وخفض التصنيف وتضرّر قطاعات اقتصادية والتحذير من تغيرات البيئة الاجتماعية. إلا أنّه ورغم كلّ شيء، يُحافظ كيان الاحتلال على «عناصر قوّته» القادرة على أن تُنجيه من المصير البشع.
أبرز هذه العناصر:
- الدعم المالي الذي يحصل عليه من يهود العالم الداعمين للصهيونية، ومن حكومات الولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا وغيرها من الدول الغربية؛
- دعم الشركات الكُبرى وصناديق الاستثمار العالمية التي سارعت إلى إنقاذ القطاع الخاص الصهيوني؛
- سيطرة الاحتلال على الموارد الطبيعية والإنتاجية في فلسطين.
في المقابل، يُعاني الاقتصاد والمُجتمع في قطاع غزة والضفة الغربية المحتلة من أزمة حقيقية. أزمة تعود جذورها إلى سنوات طويلة، ربّما إلى زمن الاستعمار البريطاني. وقد اشتدت حدّتها بعد تاريخ السابع من أكتوبر.
ما الذي تغيّر داخل الأراضي الفلسطينية وفي حياة الفلسطينيين بعد تاريخ السابع من أكتوبر؟ ما هو وضع العمّال الفلسطينيين، تحديدًا الذين كانت لديهم أشغال في الأراضي المُحتلة؟ في أي بيئة تعمل المؤسسات الفلسطينية؟ هل تتمكّن المصارف الفلسطينية من خدمة الزبائن والمجتمع؟ هل السيولة النقدية متوافرة بين الناس؟ أسئلة نحاول الإجابة عليها في هذا التقرير.
أوسلو اقتصادي
يروي الباحث الاقتصادي والأستاذ الجامعي، نصر عبد الكريم في دراسة بعنوان «تأثير الحرب في الاقتصاد الفلسطيني مع التركيز على الاقتصاد في قطاع غزة»، كيف أنّه في إطار المحددات السياسية والأمنية الواسعة لاتفاق أوسلو المرحلي، «وُلد بروتوكول باريس الاقتصادي ليُنظّم العلاقات الاقتصادية بين الطرفين (السلطة الفلسطينية وكيان الاحتلال) في المجالات التجارية والمالية والنقدية والعمل». فأدّى ذلك إلى:
- ربط الاقتصاد الفلسطيني بالاقتصاد الإسرائيلي ضمن غلاف جمركي واحد؛
- سلب السلطة الفلسطينية القدرة على التحكم بمعدل ضريبة القيمة المضافة والرسوم الجمركية (مكونات مهمة من السياسة المالية) لمعظم السلع والخدمات؛
- أبقى كذلك وظيفة جباية الجمارك والقيمة المضافة على مستوردات الفلسطينيين في يد «إسرائيل»؛
- حرمان سلطة النقد الفلسطينية من استخدام معظم أدوات السياسة النقدية الضرورية لتوجيه الاقتصاد.
من الصعب على أي بلد أو جزء من بلد (الضفة والقطاع في هذه الحالة) يعيش تحت الاحتلال أن يحدّد «المقوّمات الداخلية» التي يمكن أن تُشكّل حجر أساس في معركة النهوض الوطني بمعزل عن التحرّر من الاحتلال. فقبل النظر إلى انعكاسات ما بعد السابع من أكتوبر على الضفّة وغزة، من المهم ذكر كيف يُهيمن الاستعمار، المُتمثّل بكيان الاحتلال والدول الغربية الداعمة له، على جميع جوانب الاقتصاد الفلسطيني، وذلك عبر:
- المصادرة غير المشروعة للأراضي والموارد الفلسطينية لتسهيل عمل المستوطنات وتناميها؛
- سياسات كيان الاحتلال التمييزية في تخطيط المناطق وتخصيص الأراضي، والموارد الطبيعية، والحوافز المالية، والنفاذ إلى الموارد والبنى التحتية؛
- تعويض انخفاض نسبة العاملين من المستوطنين (كون الخدمة العسكرية والقطاعات؛ التكنولوجية تستقطب العدد الأكبر منهم) عبر توظيف العمّال من الضفة الغربية وقطاع غزّة (لا سيّما في قطاعَي البناء والزراعة)، فتُصادر سلطات الاحتلال تصاريح التنقّل والعمل. وكلّما مرّت «إسرائيل» بظروف اقتصادية ومالية صعبة، وتُقرّر تقليص ميزانية الأجور والعمالة، فإنّ ذلك يكون على حساب العمّال الفلسطينيين، الذين قد يجدون أنفسهم من دون سابق إنذار بلا راتب أو وظيفة؛
- سرقة مياه الضفة الغربية؛
- ربط الاحتلال نموّ الصناعات الفلسطينية وقطاعات الاقتصاد الإنتاجية باحتياجات «السوق الإسرائيلية»، واعتماد الفلسطينيين على الواردات من «إسرائيل» لتأمين احتياجاتهم الأساسية.
خسائر بأكثر من مليارَي دولار
قبل اندلاع الحرب الحالية، كانت نسبة الفقر في قطاع غزّة مرتفعة، حيث أنّ أكثر من نصف الأسر كانت تعتمد على المعونات كمصدر أساسي للدخل. بعد «طوفان الأقصى»، يُشير تقرير صادر عن البنك الدولي إلى أنه «تقريبًا جميع المُقيمين في غزّة يعيشون في فقر مُدقع، ويواجهون نقصًا حادًّا بالأمن الغذائي. مستويات الفقر آخذة في الارتفاع أيضًا في الضفّة الغربية، بسبب التباطؤ الاقتصادي الملحوظ وتقييد قدرات المالية العامة، ممّا يؤثّر في فعالية برامج الحماية الاجتماعية».
يصف تقرير البنك الدولي الاقتصاد الفلسطيني بأنّه «يشهد واحدة من أكبر الصدمات المُسجّلة في التاريخ الاقتصادي الحديث، إذ انخفض إجمالي الناتج المحلي في غزة بأكثر من 80% في الربع الرابع من عام 2023، وبنسبة 22% في الضفة الغربية في الفترة نفسها».
في السياق نفسه، تندرج الأرقام التي أعلن عنها الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني منتصف مارس 2024 عن أنّ الاقتصاد الفلسطيني تكبّد خسائر تُقدّر قيمتها بـ2.3 مليار دولار خلال الشهور الأربعة الأولى للحرب الإسرائيلية على قطاع غزة. فقد خسرت القطاعات الاقتصادية 86% من إنتاجها في قطاع غزّة، و27% في الضفّة الغربية.
الأخطر من هذه الحسابات، فهو تقدير اللجنة الاقتصادية الاجتماعية لغربي آسيا (إسكوا) وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، أن يرتفع معدل الفقر بنسبة تتراوح بين 20% و45%، وذلك بحسب طول مدة الحرب.
سجّل التراجع في القطاعات الإنتاجية نهاية عام 2023، النسب التالية:
- الإنشاءات: تراجع بنسبة 27% في الضفة و96% في قطاع غزة
- الزراعة: تراجع بنسبة 12% في الضفة و93% في قطاع غزة
- الخدمات: تراجع بنسبة 21% في الضفة و77% في قطاع غزة
- الصناعة: تراجع بنسبة 24% في الضفة و92% في قطاع غزة.
وبحسب الأرقام الصادرة عن بورصة فلسطين، فإنّ أرباح الشركات للعام 2023 تراجعت بنسبة 60% لتصل إلى 155 مليون دولار.
صعوبات في الحصول على الغذاء
تسبّبت الحرب الصهيونية في منع وصول غالبية سكّان قطاع غزّة إلى احتياجاتهم الرئيسية وحصولهم على الكميات اللازمة من الغذاء، ما ساهم في إفساح المجال أمام «مسرحيات» الولايات المتحدة الأمريكية والأردن والإمارات وغيرها من الدول القائمة على «رشّ» المساعدات فوق غزّة بطريقة مُذّلة وبكميات بالكاد تُغطّي 2% من احتياجات السكّان، وقد استخدمها العدّو أصلًا لارتكاب المزيد من المجازر.
يُفيد الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني إلى أنّ الشحّ الشديد وغير المسبوق في توافر الغذاء، أدّى إلى «ارتفاع أسعار المواد الأساسية بنسبة تجاوزت 30% في قطاع غزّة، و5% في الضفة الغربية، و11% في بقية الأراضي الفلسطينية».
تزامن ذلك مع فقدان معظم الأُسر مصادر دخلهم، أكان العاملون في الأراضي المُحتلة، أو المزارعون الذين تضرّرت أراضيهم، أو الصيادون الممنوعون من ممارسة مهنتهم.
وبحسب تقديرات منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة (فاو)، فقد دمّر الاحتلال الصهيوني في قطاع غزّة، بين الفترة الممتدة من 7 أكتوبر ولغاية 15 فبراير، 42.6% من إجمالي الأراضي الزراعية.
ما تعنيه الارتفاعات الكبيرة في أسعار اللحوم والخضار ومشتقات الحليب وغيرها من الاحتياجات الرئيسية، زائد عدم القدرة على الولوج إلى الأراضي الزراعية واستكمال الأعمال، يعني أنّ انعدام القدرة على الوصول إلى الغذاء يضرب أحد مكونات الأمن الغذائي في غزّة والضفة الغربية ويترك عددًا أكبر من السكّان من دون حماية اجتماعية غذائية.
خزينة السلطة مُحتلة
كيف تُخطط «إسرائيل» لزيادة إيرادات موازنتها؟ عبر سرقة حوالي 835 مليون دولار من أموال السلطة الفلسطينية المُحتجزة لدى كيان الاحتلال، بحسب ما كشفت صحيفة «ذا ماركر» الصهيونية. ليست المرة الأولى التي يقتطع فيها الاحتلال الإسرائيلي مبالغ من العائدات الضريبية (أو ما يُطلق عليه اسم المقاصة) التي يجبيها لصالح السلطة الفلسطينية، أو يمنع وصولها إلى قطاع غزة. آخر الاقتطاعات يتعلّق برواتب موظفي القطاع، «وهو ما حد من قدرة الحكومة على الوفاء بالتزاماتها المالية تجاه القطاعَين، العام والخاص، بالإضافة إلى التراجع الحاد للدعم الخارجي».
غزة والضفة… بالأرقام
آخر الأرقام الصادرة عن اللجنة الاقتصادية الاجتماعية لغربي آسيا (إسكوا) تعود إلى شهر نوفمبر الماضي، وقد ورد فيها أنّه:
- تمّ فقدان 390 ألف وظيفة في قطاع غزّة؛
- نسبة البطالة لدى النساء 66.2% في القطاع مقابل 32% في الضفة؛
- نسبة البطالة لدى المتخرجين حديثًا 70% في القطاع مقابل 32% في الضفة الغربية؛
- سيتراجع مؤشر التطور البشري للدولة الفلسطينية بين 11 و16 عامًا حسب مدة الحرب؛
- 36% من الخيم الزراعية دُمّرت في شمال القطاع ومدينة غزّة؛
- تضرر حوالي 1,023 حقل زراعي؛
- جمّد كيان الاحتلال تصاريح العمل لجميع الفلسطينيين، والتي كانت تؤمّن مدخولًا بقيمة 3 مليار دولار في العام؛
- يواجه 67 ألف عامل من الضفة الغربية صعوبة في الوصول إلى أماكن عملهم خارج محافظات سكنهم بسبب القيود المشددة التي فرضها الاحتلال.
تستخدم سلطات الاحتلال تصاريح العمل وقطاعات الاقتصاد الإنتاجية من أجل تضييق الخناق على الفلسطينيين وتأليب البيئة الشعبية ضدّ المقاومة، ولكنّ طابخ السمّ هو آكله في الحالة الفلسطينية. فقد ذكر تقرير نشرته وكالة «بلومبيرغ» كيف بات قطاع البناء والتشييد الإسرائيلي يعكس الأزمة الاقتصادية المصاحبة للحرب، مع استمرار منع دخول العمّال الفلسطينيين وتوقّف ورش البناء عن العمل.
صحيح أنّ «جدار الفصل» الاقتصادي الجديد يُضرّ جدًّا باقتصاد فلسطين، إلا أنّه «ترك شركات البناء الإسرائيلية تتدافع للحصول على عمال من الخارج». بالتزامن مع تقدير وزارة المالية الإسرائيلية أن «غياب العمال الفلسطينيين في قطاعات البناء والزراعة والصناعة يُكلّف الإنتاج خسارة 3 مليارات شيكل (840 مليون دولار) شهريا».
ضرب القطاع المصرفي
لم يسلم القطاع المصرفي الفلسطيني من الضربات الصهيونية. فالأوضاع الأمنية، وقصف قطاع غزة، وانقطاع الكهرباء… نتج عنها تدمير عدد من فروع المصارف وخروج صرافات الخدمة الآلية عن التغطية، واقتصار العمل على القيام بعمليات سحب وإيداع، بالإضافة إلى حصول أزمة غير مسبوقة في شحّ السيولة النقدية في الأسواق. وفوق كلّ ذلك، قرّر وزير المالية الصهيوني، بتسلئيل سموتريتش إلغاء نظام تأمين التعويض (الذي يحمي ويُعوّض المصارف الإسرائيلية في حال اتُهمت بإجراء معاملات مالية غير مشروعة) للمصارف الإسرائيلية التي تتعامل مع المصارف الفلسطينية. لكنه عاد وتراجع عن القرار بضغط من رئيس الحكومة الإسرائيلية,
القرار، لو نُفذّ، كان سيضرّ كثيرًا بالقطاع المصرفي الفلسطيني، وبالشعب الفلسطيني، ولكنّه أيضًا كان سيرتدّ سلبًا على صاحبه. فقد حذّرت صحيفة «ذا ماركر» من أنّ القرار «سيقطع شريان التعامل المالي بين المناطق الفلسطينية و«إسرائيل»، وسيتوقف الفلسطينيين عن استخدام الشيكل، ولن يبقي ذلك أمام السلطة الفلسطينية من مفر سوى مطالبة العالم السماح لها بصك وإصدار عملة فلسطينية خاصة بها، وقد يشكل بداية اعتراف عالمي بالدولة الفلسطينية».
الاحتلال الصهيوني، باستيلائه على رأس المال والأراضي واليد العاملة الفلسطينية، يمتلك قوّة زعزعة الاستقرار الفلسطيني ساعة يشاء. يكفي أن تكون العملة الصهيونية هي العملة المُتعامل بها في فلسطين، ما يعني غياب السيادة النقدية. ويكفي أن تكون سلطة إصدار تصاريح العمل للفلسطينيين وتأسيس الأعمال والبناء وغيره، محصورة بيد الإسرائيليين، أي غياب السيادة الاقتصادية. ويكفي أن يكون الاحتلال يُصادر الأموال الخاصة بالسلطة الفلسطينية والمساعدات إلى قطاع غزة، أي غياب السيادة المالية.