كلّ ما يطرحه محور أمريكا – «إسرائيل»، وحلفاؤهما في المنطقة والعالم، من مبادرات «إغاثية» في غزّة، هدفه ليس تخفيف وطأة الحرب عن الشعب الفلسطيني، فهذا أمرٌ لا يتحقّق إلا بوقف الحرب وإنهاء احتلال أرض الوطن. أما الهدف الحقيقي لكلّ تلك المبادرات والمخططات، فهو فرض واقع جديد في غزّة والأراضي المحتلة، في مرحلة «ما بعد الطوفان الأقصى»، يقوم على ركيزتين: تعطيل مشروع إقامة الدولة الفلسطينية وإلغاء حقّ العودة للشعب الفلسطيني. أو إلغاء الشعب الفلسطيني. من هذه الخلفية أتى إعلان الرئيس الأمريكي، جو بايدن، بناء الولايات المتحدة ميناءً بحريًا على شواطئ غزّة، بمشاركة بريطانيا والإمارات و«إسرائيل»، لنقل المساعدات إلى داخل القطاع.
يُدرك بايدن والمُلحقون به أنّ الحدود البرية موجودة وإدخال المساعدات عبرها هو أسهل الخيارات وأكثرها عملية لمن يُريد فعلًا مساعدة شعب غزة، ولا يحتاج الأمر سوى إلى قرار. ولكنّ المسؤولين عن حرب الإبادة هذه يريدون تغيير الحُكم والتوازنات السياسية داخل القطاع.
ما هو الهدف الحقيقي للميناء؟
الميناء الأمريكي المُقترح هو جزء من مرحلة ما بعد الحرب في غزة. يأتي في سياق واحد مع مخطط وقف تمويل وكالة الأونروا تمهيدًا لتصفيتها. وجود الأونروا كان يؤمّن للاجئين الفلسطينيين في قطاع غزة الحدّ الأدنى من الخدمات الطبية والتعليمية والغذائية، ولكن كان يتمّ ذلك من دون تدخّل أمريكي أو إسرائيلي، مباشر.
قرار وقف تمويل الأونروا، وإنشاء ميناء جديد، واختراع منظمات «إنسانية» جديدة تتولّى توزيع المساعدات، يُمهّد الطريق أمام أسلوب جديد لإدارة قطاع غزة، يجعل الولايات المتحدة ودول التطبيع العربي هي مصدر الخدمات لسكان القطاع. لن تكون دول العدوان على القطاع مصدرًا للخدمات وحسب، بل تُريد أن تفرض نفسها مصدرًا للحياة أيضًا، عبر تزويد سكان غزة بالغذاء والدواء.
من ضمن هذا المشروع الجديد لإدارة قطاع غزة، يأتي مشروع الميناء، وموقعه سيكون في الجزء الشمالي من القطاع. الموقع الجغرافي مقصود لإبقاء الشمال منطقة معزولة أمنيًا عن جنوب القطاع. تأتي البضائع إلى شمال القطاع عبر البحر، بضمانات أمريكية، وتفتيش إسرائيلي، ولا تأتي من رفح، حيث الإجراءات الأمنية المصرية “فاشلة”، بحسب التصنيف الإسرائيلي.
الأهم أنّ الميناء هو أداة من ضمن المشروع الإسرائيلي – الأمريكي – الإماراتي لإدارة قطاع غزة، وإبعاد سكان القطاع عن حركة حماس وخيار المقاومة، عبر ابتزاز الناس بما يبقيهم على قيد الحياة: “جوّعناكم، دمّرنا دياركم، وإذا أردتم البقاء على قيد الحياة والحصول على الطعام، فعليكم نبذ حماس والمقاومة”.
يكفي أن تكشف صحيفة «واشنطن بوست» الأمريكية مؤخرًا عن أنّ الإدارة الأمريكية وافقت على «أكثر من 100 صفقة مبيعات سلاح لإسرائيل وسلّمتها لها منذ بداية حربها المدمرة على قطاع غزة»، ليُشكّل ذلك دليلًا إضافيًا على غياب النية لمساعدة الفلسطينيين. المبيعات، وفق الصحيفة الأمريكية، تضمّنت آلاف الذخائر الموجّهة، والقذائف الخارقة للتحصينات، وغيرها من المساعدات الفتاكة (…) لم يتمّ الإعلان سوى عن اثنتين فقط من المبيعات العسكرية لإسرائيل منذ بداية الحرب». ونقلت «واشنطن بوست» عن مسؤولين ومُشرّعين أمريكيين قولهم إنّه «تمت معالجة عمليات بيع ونقل الأسلحة بأوامر تنفيذية من قبل الإدارة الأميركية من دون نقاش عام. إدارة الرئيس جو بايدن وافقت على مبيعات صغيرة مُجزأة ضمن السقف المالي المسموح به الذي لا يشترط موافقة الكونغرس».
ما هو الميناء المؤقّت؟
أعلن بايدن عن مُهّمة جديد للجيش الأمريكي في فلسطين وهي “بناء ميناء مؤقت على ساحل قطاع غزة لإيصال المساعدات”، مقابل التعهّد باستمرار دعم كيان الاحتلال.
الميناء الجديد سيتم بناؤه في غضون 60 يومًا بمشاركة 1000 جندي أمريكي، وفقًا لوزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون). المشروع لا يشمل نشر قوات أمريكية في القطاع، بل سيبقون في المياه الغزاوية، بالإضافة إلى الجنود من جنسيات أخرى مشاركة في عملية البناء، كبريطانيا.
في تفاصيل بناء الميناء…
أعلن البنتاغون يوم الأحد (8-3-2024) عن تلقّي لواء النقل السابع في الجيش الأمريكي، المتخصّص في عمليات البناء، أوامر بإنشاء رصيف مؤقّت في البحر قبالة ساحل غزة، مع جسر يسمح للشاحنات بنقل المساعدات الآتية من قبرص إلى شاطئ القطاع. ستشارك سفينة الدعم الأمريكية «بيسون»، التي غادرت قاعدة “لانجلي – يوستيس” المشتركة في ولاية فرجينيا في البناء والنقل، وسيرأس رئيس أركان مجلس الأمن القومي، كيرتس ريد الجهود من الجانب الأمريكي لضمان مرور المساعدات، عبر عمليات تفتيش أمنية.
الممر القبرصي مشروع آخر لغزّة
الميناء الأمريكي في غزة هو غير الممر البحري القبرصي الذي أعلنت المفوضية الأوروبية وقبرص والإمارات والولايات المتحدة وبريطانيا في بيانٍ مشترك (8-3-2024) سعيها لتدشينه. ويهدف إلى إيصال كميات إضافية من المساعدات إلى قطاع غزة. حيث تصل المساعدات إلى ميناء لارنكا في قبرص، الواقع على بعد حوالي 230 ميلا (387 كيلومترا) من غزة، تُفتّش بمراقبة من جانب قوات الاحتلال، قبل أن تُنقل ببواخر صغيرة إلى غزة.
الإعلان عن الممر القبرصي هو تأكيد على ما تداولته مشاورات قبرصية – إسرائيلية في ديسمبر/كانون أول 2023، بين وزير الخارجية الإسرائيلي السابق، إيلي كوهين، ووزير خارجية قبرص، كونستانتينوس كومبوس، لإنشاء هذا الممر بتعاون دولي.
الرقابة إسرائيلية
في الحالتين، الميناء الأمريكي والممر القبرصي، يخضعان فعليًا لحماية أمنية إسرائيلية، وذلك من خلال:
- موافقة قبرص على أن يقوم عناصر إسرائيليين التحقيق والتدقيق بالسلع التي تستلمها قبل أن يتم إرسالها إلى غزة.
- مشاركة أمريكية – إسرائيلية في مراقبة وإدارة الميناء المؤقت “لضمان عدم استخدامه لأغراض عسكرية”.
التحديات كبيرة
تحديات كثيرة تواجه عملية بناء الميناء الأمريكي، أبرزها:
- إدارة الحشود: قال مسؤولون أمريكيون إنّ «إسرائيل» لم توافق بعد على مهمة أمنية ومهمة للسيطرة على الحشود على رأس الجسر، وإن المفاوضات جارية لبتّ ما إذا كانت القوات الإسرائيلية ستكون مسؤولة أيضًا عن إزالة الألغام من مناطق المساعدات.
- توزيع المساعدات: في البداية، ستتولّى وكالات أمريكية توزيع المساعدات، قبل انتقال المهمة إلى جهات دولية. وستقوم قوات الاحتلال حينها بتشكيل قوة محلية مسلحة وظيفتها حماية حمولة الحاويات.
- دراسة العمق المائي: يحتاج الميناء إلى دراسة العمق المائي ليكون مناسبًا لرسو السفن، وهو ما يحتاج وقتًا حتى ينتهي المُهندسون من العمل عليه.
الميناء تمهيد لإنشاء الجزيرة؟
قرار أمريكا بناء ميناء مؤقّت يُذكّر بالاقتراح السابق لوزير الخارجية الصهيوني، يسرائيل كاتس، إنشاء جزيرة اصطناعية تتضمن موانئ بحرية قبالة شاطئ غزة، بالإضافة إلى مهبط للطيران ومنطقة سياحية ومحطة لتحلية مياه البحر.
كاتس قدّم خطته عام 2011، يوم كان وزيرًا للمواصلات، مُقترحًا أن تُدير السلطة الفلسطينية الجزيرة، وتكون تحت سيطرة دولية لمدة 100 عام على الأقل «لضمان أمن إسرائيل»، لكن الخطة فشلت بسبب رفض الحكومة الإسرائيلية لها.
عام 2016، أعاد كاتس طرح مقترحه مضيفًا إليه مهبطًا للطائرات يعمل وفق آلية مراقبة دولية، فيكون لـ«إسرائيل» الدور الأمني في مراقبة السفن وتفتيشها. وروّج كاتس يومها أنّ الجزيرة الاصطناعية ستكون الحل الوحيد لتحقيق «الانتعاش الاقتصادي» في القطاع لاستمرار الهدوء ومنع وقوع أي حرب أو مواجهة عسكرية. إلا أن الاقتراح اصطدم برفض رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو. فهل يُعاد طرحه اليوم ويلقى تغطية عربية – دولية؟