بعد عملية «طوفان الأقصى»، طلب كيان الاحتلال من جمعية «زاكا» الإسرائيلية المعروفة بفسادها وبتورّط مؤسّسها وعدد من موظفيها باعتداءات جنسية وحالات اغتصاب، بجمع رفات القتلى الصهاينة. أرسلت الجمعية تقريرها إلى وسائل الإعلام الغربية، بالتنسيق مع سلطات الاحتلال، لتنطلق حملة دعائية قائمة على الابتزاز العاطفي للجمهور الغربي لتسويق الرواية الصهيونية المُزيفة عمّا حصل يوم السابع من أكتوبر.
بعد نحو خمسة أشهر على انطلاق حرب الإبادة على غزة وما يجري في الضفة الغربية، لم يعد بإمكان «إسرائيل» تسويق دعايتها بسهولة، لا سيّما مع تكشّف حجم الجرائم التي ترتكبها وتواطؤ الأنظمة الغربية وأنظمة التطبيع العربية معها. مع تزايد الوعي العالمي، وتحديدًا بين جيل الشباب، تجاه القضية الفلسطينية، أعاد كيان الاحتلال نبش فبركات العنف الجنسي واستحدثها عبر لجنة أممية هي “بعثة الأمين العام للأمم المتحدة بشأن مسائل العنف الجنسي في النزاعات”.
بعد زيارة ميدانية تمّت بتخطيط ومتابعة من قبل قوات الاحتلال من تاريخ 14 يناير حتى 29 فبراير، وبالاستناد إلى فبركات صهيونية ثبُت زيفها، أصدرت مبعوثة الأمم المتحدة تقريرها الذي يبدو أنّه بحاجة إلى تحقيق ليُدقّق بما جاء فيه. تحقيق أقرب ما يكون إلى شغل الهواة (إذا تم التعامل معه بحسن نية) منه إلى تقرير صادر عن جهة يُفترض أن تكون جدّية. يعترف التقرير أنّ العديد من الحوادث المزعومة تبيّن عدم وقوعها، وعدم القدرة على التدقيق بجميع الحالات، فضلًا عن الحاجة إلى وقت أطول لمتابعة جميع الحالات (من غير المعلوم لماذا إذًا تم الاستعجال لإصدار التقرير)، ورغم ذلك يُصرّ على اتهام حركة حماس بارتكاب الانتهاكات، مقابل اتخاذ موقف محايد إيجابي من العدّو الصهيوني.
فماذا في التفاصيل؟
التحقيق بحاجةٍ إلى تحقيق
التقرير الذي صدر في 4 مارس، أتى في 24 صفحة، قدّمته الممثلة الخاصة للأمم المتحدة المعنية بالعنف الجنسي في حالات النزاع، ووكيل الأمين العام للأمم المتحدة، براميلا باتن، يتضمّن:
- تفاصيل عن «أعمال عنف جنسي»، كالاغتصاب، الاغتصاب الجماعي، تشويه الأعضاء التناسلية، مجامعة الميت…
- يذكر أيضًا حوادث عنف جنسي حصلت في موقع مهرجان «نوفا» الموسيقي، وعلى طول الطريق 232 (الطريق الذي يربط بين مستوطنات غلاف غزّة) حيث تمّ اكتشاف جثث بها إصابات في الأعضاء التناسلية.
- يتحدّث عن أحداث عنف جنسي ضد الفلسطينيين أثناء حملة الاعتقالات الإسرائيلية في الضفة الغربية، من دون الإشارة إلى أي حالات اغتصاب، بل يذكر «أشكالًا أخرى من الاعتداء أبلغ عنها الفلسطينيون».
يُعيد التقرير تكرار الادعاءات الصهيونية عن أنّ حركة حماس ارتكبت هذه الجرائم يوم السابع من أكتوبر الماضي. من الطبيعي أن تتوصّل باتن إلى هذه النتيجة إن كانت ستكتفي بزيارات ميدانية نظّمتها وحضّرت لها سلطات الاحتلال إلى المستوطنات القريبة من غزة وفي الضفة الغربية. فضلًا عن ترؤسّها وفدًا من «الخبراء» حقّقوا في المزاعم الصهيونية، وتبيّن لهم «صحة المعلومات» التي قدّمتها «إسرائيل»، استنادًا إلى شهادات «شهود عيان» وتقارير من جمعية «زاكا» (الجمعية الصهيونية المشبوهة ما غيرها).
اللافت أنّ التقرير يطعن بصحّته وشفافيته بنفسه. مبعوثة الأمم المتحدة تُقرّ فيه بأنّ «العديد من الحالات لم يتم التحقّق منها وتتطلّب المزيد من التحقيق». ورأت باتن أنّ الكشف عن النطاق الكامل للعنف الجنسي «قد يستغرق وقتًا طويلًا». بالإضافة إلى ذلك، يرد في التقرير «أنّ العديد من الشهود تراجعوا عن شهادات سبق وقدموها لوسائل الإعلام». ويشير إلى أنّ «حوادث عدّة تناقلتها وسائل الإعلام لم تحصل، لا سيما حادثة بقر إمرأة حامل وقتل جنينها في بطنها». ووجد التقرير أن «فريق القنابل الإسرائيلي قام بتغيير مسرح الجريمة عن طريق نقل الجثث».
في تفنيد التقرير
أولًا، لا تملك براميلا باتن صلاحيات تخولّها إصدار هكذا تقرير. فقد اعترفت في مقابلة لها عام 2022، بأنّها لا تتمتّع بأي سلطة أو قدرة على التحقيق، وتكتفي بتدوين ما يقال لها في الزيارات الميدانية. وحتى موقع الأمم المتحدة يقول عن مهمة باتن: «ليس المقصود من المهمة أن تكون ذات طبيعة تحقيقية ولا تم تفويضها بها».
ثانيًا، التقت باتن أثناء جولتها بأفراد من جمعية «زاكا» التي تولّت رفع الجثث بعد عملية «طوفان الأقصى». ومن بين الذين استمعت إليهم، رئيس العمليات للمنطقة الجنوبية في «زاكا»، يوسي لانداو الذي نشر كذبة بقر المرأة الحامل وطعن جنينها، التي نشرها تحقيق باتن وموقع «ذا إنترسبت» الأمريكي وصحيفة «هآرتس» الصهيونية نقلًا عن المسؤولين في مستعمرة «بئيري». كما أنّ مؤسّس «زاكا»، ميشي زهاف مُتّهم – وفقًا لتقرير منشور في صحيفة «هآرتس» العبرية (11 مارس عام 2021) – بارتكاب عدد من جرائم الاعتداء الجنسي والاغتصاب والفساد وسرقة الأموال.
ثالثًا، ورد في الفقرة 55، الصفحة الـ15 من التقرير أنّه «تجدر الإشارة إلى أنّ المعلومات والجزء الأكبر من المعلومات التي جمعها فريق البعثة مصدرها مؤسسات «وطنية إسرائيلية». وهذا بسبب غياب كيانات الأمم المتحدة العاملة في «إسرائيل»، فضلًا عن عدم وجود تعاون بين «دولة إسرائيل» مع هيئات الأمم المتحدة ذات الصلة في التحقيق. ومع ذلك، اتّخذ فريق البعثة كل الخطوات اللازمة، بما يتماشى مع منهجية الأمم المتحدة».
يعني ذلك أنّ البعثة لا تعترف حصرًا بعجزها عن إتمام تحقيق فعلي، وأيضًا أنّ معلوماتها مستمدة من منظمات إسرائيلية من بينها جمعية «زاكا». فكيف تقبل الأمم المتحدة أن يصدر عنها تقرير مبني على فرضية واحدة ومُستند إلى أدّلة صادرة عن جهة واحدة، هي نفسها الجهة التي ترتكب يوميًا مجازر بحقّ الشعب الفلسطيني؟ ألم تتنبّه باتن لتضارب المصالح؟ ألم يلفت نظر الأمم المتحدة ترحيب الحكومة الإسرائيلية بفريق باتن مقابل رفضها التعاون مع هيئة أخرى تابعة للأمم المتحدة كان يُفترض أن تُحقّق بما ارتُكب في 7 أكتوبر، واتهمتها حكومة الاحتلال بالتحيز ضد «إسرائيل» ومعاداة السامية، وفقًا لتقرير نشرته صحيفة «نيويورك تايمز» الأمريكية في 29 يناير الماضي؟
أعربت حركة المقاومة الفلسطينية، حماس، عن استهجانها بشدّة للتقرير الصادر عن براميلا باتن. وذكرت الحركة في بيان صدر في 5 مارس، أنّ تقرير المسؤولة الأممية جاء بعد محاولات «صهيونية فاشلة لإثبات تلك التهمة الباطلة، التي تأكّد أنها لا أساس من الصحة، والتغطية على تقرير مقرّري الأمم المتحدة حول وجود أدلة قاطعة على حدوث انتهاكات مروّعة لحقوق الإنسان تعرضت لها نساء وفتيات فلسطينيات من قبل قوات الاحتلال الصهيوني». وأضافت الحركة أنّه «رغم ادّعاء السيدة باتن واتهاماتها الكاذبة والباطلة للمقاومين الفلسطينيين، فإنَّ تقريرها لم يوثّق أي شهادة لما تسمّيه ضحايا تلك الحالات، وإنما اعتمدت في تقريرها على مؤسسات إسرائيلية وجنود وشهود تمَّ اختيارهم من قبل سلطات الاحتلال، للدفع باتجاه محاولة إثبات هذه التهمة الباطلة، التي دحضتها كل التحقيقات والتقارير الدولية».
وشدّد البيان على أنّ «مزاعم السيدة باتن تتناقض بشكل واضح مع ما ظهر من شهادات لنساء إسرائيليات عن معاملة المقاومين الحسنة لهنّ، وكذلك شهادات الأسيرات الإسرائيليات المفرج عنهنّ، وما أكّدنه من معاملة حسنة تلقّينها أثناء مدّة أسرهنّ في غزة».
وأكدت حماس أن الاتهام الباطل لن يفلح «في طمس بشاعة وهول الجرائم الصهيونية المرتكبة في قطاع غزة، والتي تسبّبت في مقتل نحو 40 ألف فلسطيني، أغلبهم من النساء والأطفال والمدنيين، في جريمة جماعية وتطهير عرقي، وتجاهل متعمّد لمقررات محكمة العدل الدولية وغيرها من التقارير الدولية، التي وثّقت أجزاء من الجرائم والفظائع المرتكبة في غزة على يد النازيين الجدد».