من الناحيتين الاقتصادية والمالية، الاستعمال الوحيد، المُفيد، للتقرير الصادر عن شركة «موديز» الأمريكية قبل حوالي الأسبوعين بخفض تصنيف «إسرائيل» ماليًا وتحذيرها من تنبؤات سلبية مالية للمستقبل، هو رميه في سلّة المهملات. لماذا؟ لأنّ الولايات المتحدة الأمريكية – عبر شركاتها الاستشارية المالية كـ«موديز» – وكيان العدّو ليسا سوى فريق واحد، حتى ولو ظهر تباين بينهما أحيانًا. وما صدر في الأيام الماضية، أكان التقرير نفسه أو التصريحات الإسرائيلية المُندّدة به، لا يُعدّ أكثر من شدّ حبالٍ بين إدارة جو بايدن وحكومة بنيامين نتنياهو حول اليوم التالي للحرب على غزّة والخطوات التي تُريد الإدارة الأمريكية تثبيتها قبل الانتخابات الرئاسية التمهيدية. أما عمليًا، فلا يزال الاقتصاد الإسرائيلي مسنودًا والسوق الصهيونية محمية من أي انهيار، بفضل الدعم الأمريكي أولًا، فيما لا تزال الولايات المتحدة الحليف الأول في حرب الإبادة على غزة والضفة الغربية.
لنشرح أكثر.
قبل التفاصيل: ماذا يعني خفض التصنيف؟
شركات التنصيف المالي العالمية هي مرجعية للأسواق المالية، لمعرفة مدى قدرة دولة ما على سداد ديونها. وكلما خفضت هذه الشركات تصنيف دولة ما، فإن هذه الدولة ستجد صعوبة أكثر في الاستدانة، وقد تضطر إلى زيادة الفوائد على سندات الدين التي تصدرها (أي الفوائد التي تدفعها للشركات والأفراد أو الدول التي تُقرِضها المال)، ما يعني كلفة أكبر على هذه الدولة.
«موديز» تُطمئن: الاقتصاد بخير
لم يسبق منذ نشأة كيان الاحتلال أن «تجرّأت» شركات التصنيف المالية على المسّ بالاقتصاد الإسرائيلي أو ماليته العامة أو قدرته على الاقتراض. كلّ الدول ومصارفها، من ضمنها الولايات المتحدة الأمريكية، تتعرّض لإعادة تقييم وتخفيض، باستثناء «إسرائيل». الحروب التي شنّها العدّو في السنوات الماضية أكان ضدّ لبنان أو فلسطين، لم تدفع تلك الشركات إلى رفع العصا في وجهه. على العكس من ذلك، كانت شركات التصنيف، وتحديدًا «موديز»، ترفع من مرتبة تصنيف الاقتصاد الصهيوني، مُحافظةً عليه في مصاف الدول المتقدمة. لا يعني ذلك أنّ شركات التصنيف العالمية «موضوعية» وتتعامل مع الدول من منطلق تقني بحت. إذ ليس من المبالغة القول إنّ كلّ التصنيفات والتقارير الصادرة عنها مُسيّسة وهدفها سياسي لدفع القوى المؤثرة إلى اتخاذ قرارات مُعينة، حتى داخل الولايات المتحدة. وفي حالة «إسرائيل»، كانت دائمًا الغاية حماية هذا الكيان وتحويله إلى مغناطيس جاذب للاستثمارات الأجنبية في منطقة «الشرق الأوسط».
“إسرائيل” ليست أوكرانيا
مقارنة بسيطة بين أوكرانيا و«إسرائيل»، تسمح بفهم تعامل الشركات مع العدو. فخلال حرب روسيا – أوكرانيا، لم تنتظر وكالة «ستاندر أند بورز» طويلًا وخفّضت تصنيف كييف في اليوم التالي لاندلاع الحرب، بسبب تأثيرها على الأمن الغذائي العالمي وسلاسل التوريد والنقل. في المقابل، تعاملت وكالات التصنيف الائتماني مع كيان الاحتلال «بحنيّة». فحصل على «فترة سماح» مدتها أربعة أشهر من ارتكاب المجازر وتهجير شعب فلسطين وإخلاء الأراضي المُحتلة من المستوطنين…، قبل أن تُقرّر «موديز» تغيير التصنيف الائتماني.
خفض التصنيف مع الإشادة بعافية الاقتصاد!
أكثر ما يلفت النظر في القرار نفسه هو التشديد على عافية الاقتصاد الإسرائيلي. تقرير يُخفّض تصنيف الكيان بسبب وجود مخاطر مالية عالية لجهة القدرة على تسديد الديون الخارجية، أليس من المستغرب أن يُطمئن في الوقت نفسه إلى متانة المصارف والسياسة النقدية؟ كما لو أنّ ما تُريده أمريكا هو توجيه «صفعة» خفيفة للعدّو من دون التأثير عليه سلبًا. إذ ورد في التقرير حرفيًا أنّ: «التصنيف يأخذ في الاعتبار نقاط القوة طويلة الأمد التي تتمتّع بها إسرائيل بما في ذلك القوة الاقتصادية العالية جدًا المستمدة من اقتصاد متنوع وعالي الدخل ومرن؛ فعالية عالية للغاية للسياسة النقدية، وهو ما تجلى مؤخراً في قدرة المصرف المركزي على تحقيق استقرار الأسواق المالية بسرعة؛ قطاع مصرفي قوي ووجود سيولة كافية للغاية للحكومة وإمكانية الوصول إلى الأسواق».
فإذا كان الوضع الاقتصادي بهذه القوّة، لماذا إذًا جرى خفيض التصنيف؟ ولماذا اختيار هذا التوقيت بالذات لنشر التقرير الجديد؟
شركات تصنيف أخرى تنضمّ لـ«موديز»
«فيتش» و«ستاندرد آند بورز»، شركتا تصنيف أمريكيتان أطلقتا تحذيراتهما أيضًا من «إمكانية» خفض تصنيف «إسرائيل» الائتماني في حال لم يُقدم المسؤولون الصهاينة على خطوات «مُقنعة» للشركتين تدفعهما إلى التراجع عن قرارهما.
وكشف موقع «واينت» العبري أنّ المحاسب العام الإسرائيلي، يالي روتنبرغ زار لندن «لإجراء مناقشات مع الاقتصاديين في وكالة فيتش لثنيهم عن خفض التصنيف، واعدًا إياهم أنّه في غضون أسبوعين سيوافق الكنيست على ميزانية جديدة لعام 2024، تتضمّن إجراءات للحدّ من عجز الميزانية عبر زيادة ضريبة القيمة المُضافة، الضرائب الصحية، الضرائب على المصارف الكبرى…».
وبحسب الموقع الإسرائيلي، فإنّ ثالث أكبر وكالة تصنيف، «ستاندرد آند بورز» ستُصدر تقريرًا سلبيًا عن الاقتصاد الإسرائيلي، «وقد تُفكّر» في خفض التصنيف الائتماني لكيان الاحتلال.
تباينات بايدن – نتنياهو
حرص تقرير «موديز» على توجيه رسالة إلى المستثمرين والأسواق المالية مفادها أنّه لا داعي للهلع، فالاقتصاد الإسرائيلي لن ينهار، وعليكم الاستمرار في العمل مع شركاته والاستثمار فيه.
هذه الرسالة وصلت بوضوح، إذ لم تتأثر الأسواق المالية سلبًا بخفض التصنيف. وقال المحاسب العام في وزارة مالية العدو، يالي روتنبرغ إنّ «مزادات السندات التي أجرتها وزارة المالية يوم الاثنين اجتذبت طلبًا قياسيًا من المستثمرين المحليين وعادت أسعار الفائدة إلى مستويات ما قبل الحرب. هذه علامة على ثقة السوق بعد التخفيض».
الرسالة التي أُريد تعميمها من خلال تقرير «موديز»، وشركتَي التصنيف الأخرى، أنّ الولايات المتحدة غير راضية عن سياسات حكومة نتنياهو وعن خططه لما بعد الحرب في غزة، بطريقة تؤخّر توقيع «اتفاق السلام» بين كيان العدّو والمملكة العربية السعودية، وهو «إنجازٌ» يحلم بايدن بتحقيقه قبل الانتخابات الرئاسية.
مقتطفات حرفية من التقرير
تقرير «موديز» لم يحمل أي مواربة في أنّ الهدف من تخفيض التصنيف هو محاولة بايدن انتزاع هذه الشروط من حكومة نتنياهو، ومساندة حاكم البنك المركزي الصهيوني (أي السلطة النقدية) في خلافه مع وزارة المالية والحكومة (أي السلطة المالية). النقاط التي وردت حرفيًا في تقرير «موديز» هي:
- ” الدافع الرئيسي لخفض تصنيف «إسرائيل» هو التقييم بأن الصراع العسكري المستمر مع حماس وتداعياته وعواقبه الأوسع تزيد بشكل ملموس من المخاطر السياسية على «إسرائيل»، وتؤدي إلى إضعاف مؤسساتها التنفيذية والتشريعية وقوتها المالية في المستقبل المنظور.
- لا يوجد حاليًا أي اتفاق لإنهاء الأعمال العدائية بشكل دائم ولا يوجد اتفاق على خطة طويلة المدى من شأنها استعادة الأمن بالكامل وتعزيزه في نهاية المطاف لـ«إسرائيل». وفي الوقت نفسه، نتوقّع في وكالة «موديز» أن يكون عبء ديون «إسرائيل» أعلى بكثير ممّا كان متوقعًا قبل الحرب.
- خطر التصعيد في الشمال مع حزب الله لا يزال قائمًا، ما قد يكون له تأثير سلبي على الاقتصاد أكثر بكثير مما يفترضه السيناريو الحالي. وفي حال التصعيد مع حزب الله، ستتعرّض الموارد المالية الحكومية لضغوط أكبر في مثل هذا السيناريو. وبشكل عام، فإنّ عواقب الصراع في غزة على الوضع الائتماني لـ«إسرائيل» سوف تتكشّف على المدى البعيد.
- ليس هناك وضوح بشأن احتمال حصول اتفاق. قدّمت حكومات الولايات المتحدة والدول المجاورة الخطوط العريضة لخطة طويلة المدى تشمل التطبيع مع السعودية وتتضمّن إطارًا جديدًا للحكم والقيادة السياسية في غزة، والذي يمكن بدوره أن يساهم في تحسين الأمن لـ«إسرائيل». ومع ذلك، رفضت الحكومة الإسرائيلية حتى الآن مثل هذه الخطط. قد تواجه «إسرائيل» فترة من الاضطرابات السياسية الداخلية عندما يتم حلّ حكومة الحرب.
- ترتبط المخاطر الأمنية المتزايدة بالمخاطر الاجتماعية المرتفعة داخل «إسرائيل». وهي تؤدي إلى إضعاف مؤسسات البلاد، ولا سيّما السلطتين التنفيذية والتشريعية التي ستُخصّص، في المستقبل المنظور، قدرة مؤسسية كبيرة لاستعادة الأمن. نأخذ في «موديز» في الاعتبار قوة المجتمع المدني والسلطة القضائية، والتي أظهرت أنها توفر ضوابط وتوازنات قوية. وألغت المحكمة العليا محاولة الحكومة تقييد الرقابة القضائية، مؤكدة على قوة السلطة القضائية واستقلالها.
- على مدى السنوات المقبلة، سيكون العجز في ميزانية «إسرائيل» أكبر بكثير مما كان متوقعًا قبل الصراع. ويُقدّر «بنك إسرائيل» تكلفة الصراع للأعوام 2023-2025 بنحو 255 مليار شيكل أو حوالي 13% من الناتج المحلي الإجمالي (توقعات 2024)، والذي يشمل زيادة الإنفاق الدفاعي والمدني بالإضافة إلى انخفاض عائدات الضرائب. وستكون فاتورة الفائدة أيضًا أعلى بشكل دائم”.
(نهاية الاقتباس من التقرير)
ترحيب نقدي واعتراض مالي
الانقسامات داخل منظومة الحكم الإسرائيلية حول تقرير «موديز» دليلٌ آخر على أنّ الهدف هو لجم حكومة نتنياهو وإجبارها على تبنّي سياسات بايدن لما بعد الحرب. فالتقرير يُشيد بسلطة المصرف المركزي الصهيوني، مقابل انتقاد سياسة وزير المالية والموازنة الجديدة التي أُقرّت. وكان هذا الأمر موضع خلاف في كيان الاحتلال في الأسابيع الماضية، مع قرار «بنك إسرائيل» خفض الفائدة، وتوجيه المحافظ أمير يارون انتقادات للحكومة بشأن الموازنة في ظل الحرب والخطوات التي لم يتم اتخاذها بعد لخفض العجز. الأجواء السياسية المرتبطة بصدور التقرير، دفعت بوزير مالية الاحتلال بتسلئيل سموتريتش إلى التصريح أنّ «القرار المرتبط بحرب غزة لم يستند إلى منطق اقتصادي سليم… هو بيان سياسي بالكامل يعتمد على رؤية جيوسياسية متشائمة لا أساس لها من الصحة».
ليست الصفعة الأولى
التقرير الأخير ليس الصفعة الأولى التي توجّهها الولايات المتحدة الأمريكية، عبر وكالات التصنيف، للعدّو الصهيوني. فقد قامت «موديز» بتخفيض النظرة المستقبلية للاقتصاد الإسرائيلي إلى «مستقر» من «إيجابي» خلال فترة محاولة نتنياهو تمرير قانون «الإصلاح القضائي». يومها، اعتبرت «موديز» في تقريرها أنّ «توسيع نطاق الإصلاح من دون الحصول على إجماع واسع يشير إلى ضعف القوة المؤسسية، ما يؤدي إلى نظرة مستقبلية مستقرة».
تزامن التصنيف يومها مع محاولة الضغط على نتنياهو عبر تعميم أخبار عن «هروب» الرساميل والشركات الناشئة من الأراضي المحتلة، وسحب استثمارات، وزيادة العجز في الموازنة… تبيّن حينها أنّ معظم ما نُشر لم يكن دقيقًا، كون العدد الأكبر من هذه الشركات الناشئة مُتمركز أصلًا خارج كيان الاحتلال الذي يُعاني من عجز مالي ونقص في اليد العاملة وغياب التطور والاستثمارات في العديد من القطاعات الحيوية، منذ ما قبل اقتراح قانون التعديلات القضائية.