مدخل
من أهم ما تتغنّى به الامبراطورية الأمريكية هو “الحفاظ على سلامة الملاحة البحرية”، التي تُترجَم عملياً، بسيطرتها، بشكلٍ مباشر وغير مباشر، على الممرات البحرية المحورية في العالم. وصل الأمر أن خاضت الولايات المتحدة عدّة حروب، مباشرة وبالوكالة، من أجل ضمان سيطرتها على الطرق البحرية المهمة.
العدوان الدولي على اليمن، منذ العام 2015، بقيادة السعودية والإمارات، والذي ترافق مع دعمٍ أمريكي وقح، لم يكن بعيداً عن هذا السياق. إذ كانت السيطرة على اليمن، بموقعه البحري المهم، أحد أهداف محاولة تحجيم حركة أنصار الله (الحوثيين) ومنعها من التوسّع والتطوّر.
منذ طوفان الأقصى، أظهر اليمن ما كان يخشاه المعسكر الغربي، واتضح أحد أهم الأسباب التي دفعت بالولايات المتحدة لدعم العدوان السعودي الإماراتي على اليمن، وإدارة هذا العدوان، والتدخل لمنع وقفه في أحيانٍ كثيرة.
فمنذ السابع من أكتوبر، انخرط اليمن في معركة مساندة الشعب الفلسطيني، بداية عبر إطلاق الصواريخ والمسيرات باتجاه الأراضي الفلسطينية المحتلة، ثم من خلال مهاجمة السفن الإسرائيلية في البحر الأحمر، قبل مهاجمة السفن التي تتعامل مع المرافئ الفلسطينية المحتلة. ووضعت القوات المسلحة اليمنية معادلة تفيد بأنها لن تكف عن استهداف السفن المتعاملة مع كيان الاحتلال إلا في حال فك الحصار عن قطاع غزة.
اليمن اليوم يتحدّى الامبراطورية المسيطرة على ممرات الملاحة البحرية. إذ حوّلت صنعاء أحد المضائق التي كانت من الأكثر “أماناً” بالنسبة لأمريكا، إلى أداة ضغط على أكبر استثمار إمبريالي في المنطقة. حركة أنصار الله اليوم لا تتحدى حصرًا الاحتلال الإسرائيلي نصرةً لشعب غزة، بل إنها تتحدى القوى العالمية الكبرى، نصرةً لكل الشعوب المستضعفة في العالم، مما جعلها، بلا شكّ، لاعباً مؤثّراً في الإقليم.
الكاتب الإسرائيلي في صحيفة “هآرتس” العبرية، تسفي برئيل، وصف إعلان أنصار الله بأنهم “سيعترضونً أي سفينة تعبر البحر الأحمر في طريقها إلى إسرائيل، سواء أكانت إسرائيلية أم لا، ما دامت إسرائيل لا تسمح بدخول المساعدة الإنسانية إلى قطاع غزة”، وصفه بأنه “تهديد يرقى إلى مستوى استراتيجي دولي”. اعتبر برئيل أنه “إذا تحقق هذا التهديد، فإنه سيتطلب إعادة تنظيم، وردّاً لا يقتصر على ضرب أهداف معينة في قواعد للحوثيين، أو القيام بعمليات تخريب محدودة في العاصمة”.
أمر آخر يدل على الدور الكبير الذي بات يؤديه اليمن إقليمياً، هو نأي السعودية بنفسها عن التصدي لأنصار الله عسكرياً. فوفق تقارير نشرتها وكالتا “رويترز” و”بلومبرغ”، تحرص السعودية على “إفساح المجال أمام استكمال اتفاق السلام بين السعودية والحوثيين، وبينهما وبين حكومة الشرعية التي تعترف بها الرياض”، خصوصاً بعد تصريح الناطق بلسان “الحوثيين” ورئيس الموفد المفاوض محمد عبد السلام، أخيراً إنه “بوساطة عُمانية جرى التوصل إلى مخطط متفق عليه لوقف إطلاق النار رسمياً (في اليمن، وبين السعودية واليمن)، وبصورة دائمة، وبعد ذلك إنهاء الحرب”.
بكلام أوضح، قوة أنصار الله تمكّنت من إجبار دول معادية لليمن، كالسعودية والإمارات، على عدم التدخل في أي معركة ضد صنعاء.
نصر “أنصار الله” هو نصر لفلسطين
كما بات معروفاً، جزء كبير من حرب اليمن كان يدور حول مضيق باب المندب ومحاولة المحور الأميركي، متمثلاً بالتحالف السعودي الإماراتي، عدم فقدان السيطرة على أحد اهم المضائق في العالم.
متابعة التحركات اليمنية اليوم في البحر الأحمر لاسيما اعتراض عدّة سفن إسرائيلية أو غربية متجهة إلى فلسطين المحتلة، من دون قيام الدول الغربية وخاصة واشنطن برد فعل يوازي الإجراءات اليمنية، تؤكد انتصار حركة “أنصار الله” في الحرب التي شُنّت عليها. وقد أتت حرب غزة الأخيرة لتؤكد حقيقة أن انتصار “أنصار الله” يصب في مصلحة فلسطين. ولا يعتبر هذا الأمر مستغرباً إذ إنه منذ بدء تزايد قوة الحركة عام 2015، استشعر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الخطر، إذ قال إن “الحوثيين سيشكّلون تهديدًا بالنسبة لأمن إسرائيل في المستقبل”.
إن انتصار “الحوثيين” في الحرب التي شُنّت عليهم أكد حقيقة وعمق هذا التخوف. تجسّد ذلك من خلال دخول اليمن اليوم في الحرب ضد “إسرائيل”، نصرةً لغزة، بشكل فاق التوقعات والحسابات الغربية والإسرائيلية. فاليمن اليوم يسعى إلى تعديل الموازين الإقليمية في المنطقة، وذلك من خلال تنفيذ تهديداته للسفن المتجهة إلى فلسطين المحتلة، عبر باب المندب. وبالتالي يمكن القول إن اليمن فرض، عملياً، حصاراً بحرياً على “إسرائيل”، بشكلٍ علني.
ولشرح أهمية هذا الإجراء، يكفي التذكير بأن حرب العام 1967، والتي انتهت باحتلال الكيان الإسرائيلي للقدس والضفة وغزة وسيناء والجولان، تلك الحرب بدأت بذريعة الرد على إقفال مصر لمضيق تيران، ومحاصرة ميناء مستوطنة إيلات (مدينة أم الرشراش الفلسطينية المحتلة).
اليوم، ومع إغلاق “أنصار الله” البحر الأحمر في وجه السفن المتجهة نحو الموانئ الفلسطينية المحتلة، لم تقم إسرائيل بأي رد فعل.
استنجد الكيان بالقوات البحرية الأمريكية والفرنسية والبريطانية من أجل تشكيل تحالف بحري في مضيق باب المندب لمواجهة التهديدات اليمنية. تدرك “إسرائيل” وأمريكا أن الدخول بحربٍ مباشرة مع اليمن سيؤدي إلى تكاتف الشعب اليمني بشكلٍ أكبر، سيكون ذلك مبرراً لأنصار الله لضرب صواريخ ومسيّرات بشكلٍ أكبر وأثقل باتجاه الكيان، وإغلاق باب المندب بشكلٍ تام. بناءً على ذلك، توقع خبراء فشل هذا التحالف البحري قبل مباشرته العمل.
خسائر موجعة لـ”إسرائيل”
يُعد مرفأ أم الرشراش المحتلة (“إيلات”) أكثر المتضررين من الخطوات اليمنية المُتخذة في مضيق باب المندب. ونتيجة لتهديدات أنصار الله، أعلنت شركات شحن عملاقة وقف كافة أنشطة النقل عبر البحر الأحمر، أو وقف التعامل مع كيان الاحتلال.
شركة ميرسك التي تستحوذ على نحو 14.8% من إجمالي التجارة العالمية بالحاويات، أعلنت أنه اعتبارًا من 8 كانون الثاني المقبل سيتم فرض تكاليف إضافية على الشحنات إلى “إسرائيل”. وسيكون نطاق الزيادة في الأسعار 50 دولارًا للحاويات التي تسع 20 قدمًا، و100 دولارًا للحاويات مقاس 40 و45 قدمًا.
كذلك أعلنت عدّة شركات شحن إسرائيلية، أهمّها شركة “زيم”، تغيير مسارها البحري من المرور عبر باب المندب إلى الالتفاف حول أفريقيا، وهو ما يزيد مدّة الرحلات بنحو 20 يوماً. وحتى مع عدم وجود أرقام تفصّل التأثير على الأسعار، إلا أن إطالة الرحلات بهذه المدّة يساهم في ارتفاع كلفة شحن البضائع وهو ما سيظهر في أسعار السلع في الأسواق.
- 4 شركات عملاقة، مسؤولة عن أكثر من 50% من التجارة البحرية العالمية أعلنت عن تعليق إبحار بواخرها في البحر الأحمر.
- هذه الشركات هي: “Maersk” الدنماركية، “CMA CGM” الفرنسية، و”MSC” التي تتخذ مقرها في سويسرا، بالاضافة إلى “Pegg Lloyd” الألمانية.
- ماذا يعني ذلك لهذه الشركات الأربعة؟ يتحتم على بواخر هذه الشركات الإبحار مسافة إضافية تزيد عن 13 ألف كيلومتر للالتفاف حول أفريقيا عبر طريق الرجاء الصالح، وهي مسافة تزيد وقت الإبحار بين 10 أيام و14 يوماً.
- شركة الشحن OOCL، ومقرها هونغ كونغ، ستوقف شحن البضائع من وإلى إسرائيل وحتى إشعار آخر
- أصدر مجلس الأمن القومي الإسرائيلي، في 12 كانون الأوّل، تعليمات عاجلة إلى موانئ العدو لإزالة المعلومات المتعلقة بوصول ومغادرة السفن من إلى والموانئ، من مواقعها الإلكترونية. لذلك تظهر بيانات بعض المواقع التي تتابع حركة السفن أن عدد السفن التي يتوقّعها مرفأ إيلات هو صفر.
- بدأ الجسري البرّي للبضائع من الإمارات نحو “إسرائيل” بالعمل. تُنقل عبره المواد الغذائية.
- تستغرق الرحلة البرية من دبي إلى فلسطين المحتلة أربعة أيام بمسافة 2550 كيلومتراً، ومن البحرين يومين وسبع ساعات (1700 كيلومتر). وتبلغ كلفة الكيلومتر الواحد حوالي 1.2 دولار، وهو أغلى قليلاً من النقل البحري العادي، ولكنه أرخص من كلفة طريق النقل حول أفريقيا بما يعادل 20 يوماً.
عن “إيلات”
- بحسب مدير مرفأ إيلات جدعون غولبر، خسر المرفأ نحو 80% من إيراداته خلال الشهر الأخير.
- من المعروف أن المرفأ هو أكبر وجهة للسيارات المستوردة إلى كيان الاحتلال إذ تُشكّل نحو 75% من النشاط التجاري في المرفأ، الذي يمرّ عبره 45% من السيارات المستوردة.
- بحسب بعض التقديرات الإسرائيلية قد يرتفع سعر السيارة العائلية المتوسطة المستوردة من الشرق، بحدود 2000 – 6000 شيكل بحسب الاتفاقيات التجارية لكل مستورد. ويعود ذلك إلى ارتفاع كلفة التأمين على الشحن والكلفة الإضافية للإبحار حول أفريقيا بدلاً عن المرور بباب المندب.
عن أهمية باب المندب
- 10% على الأقل من النفط المنقول بحراً عالمياً بمرّ عبر باب المندب.
- تمرّ عبره بضائع بقيمة تريليون دولار سنوياً.