في أربعينيات القرن الماضي، وصل ويندل ويلكي، مبعوث الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت إلى فلسطين، كواحدة من محطّات زيارته إلى المشرق العربي الذي كان يومها تحت الانتدابين البريطاني والفرنسي. استقبله المندوب السامي البريطاني على فلسطين، هارولد ماكمايكل، واصطحبه في جولٍة في أحياء مدينة القدس، حيث «كان مركز المسيحية… وجوهر كلّ الأمور التي نتقاتل لأجلها». قال ماكمايكل عبارته هذه مُتهّكمًا، ليردّ عليه «ضيفه» بالقول: «إنّني في الأرض التي وُلد فيها المسيح، وأتمنّى أن أعود إلى الأرض التي وُلدت فيها».
عكس هذا التبادل الكلامي بين الاثنين، التنافس المُتصاعد – في حينه – بين بريطانيا والولايات المتحدة على النفوذ وموارد الوطن العربي، وتحديدًا النفط. ففي تلك الفترة، كان البريطانيون يعتبرون الأمريكيين «أكبر أعدائهم» في «الشرق الأوسط»، وفق ما يسرد المؤرّخ البريطاني، جايمس بار في كتابه «أمراء الصحراء». إلا أنّ «التراشق الكلامي» يُشير أيضًا إلى أهمية أرض فلسطين الجغرافية والسياسية بالنسبة إلى القوى الانتدابية والاستعمارية، وكيف أنّها تتقاتل للسيطرة عليها منذ الأزل حتى تكون قاعدة لإرساء نفوذ الغرب والتحكّم ببقية الدول العربية. هو تأكيٌد جديد بأنّ الحرب على فلسطين اليوم ليست حربًا إسرائيلية، بل هي امتدادٌ لمطامع استعمارية، وحرب الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا على هذه البقعة الجغرافية لتقسيمها وسرقة مواردها.
بريطانيا «الصُغرى» التي تعيش حاليًا في جلباب القوى العظمى، الغارقة في أزماتها الداخلية ووحل استعمارها، تُحاول استنساخ «وعد بلفور» بصيغة جديدة، في محاولةٍ لحفظ موقع استعماري لها في المرحلة الجديدة.
في الماضي، قرّرت بريطانيا إنشاء «الدولة اليهودية العازلة» لتلعب دور «حارس المداخل الشرقية لقناة السويس»، فتُسيطر عبرها على التجارة والنفط والنفوذ السياسي. فصدر «وعد بلفور» الشهير (عام 1917، نسبًة إلى وزير الخارجية البريطاني في حينه، آرثر بلفور) بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، «بشرط» أن لا يصطدم مع الحقوق المدنية والسياسية للديانات الأخرى. هذا الشرط هو قمّة النفاق البريطاني. فأساسًا لا يُمكن لإقامة وطني قومي لجماعة ما إلا أن يأتي على حساب الجماعات الأخرى. أما الأهم، فهو أنّ بريطانيا موّلت وغذّت الصراعات الطائفية، وعزّزت وجود المجموعات الصهيونية المتطرفة التي بدأت عملياتها ضدّ الفلسطينيين منذ عشرينيات القرن الماضي.
بريطانيا الاستعمارية تُريد اليوم أيضًا إعلان «وعدٍ» جديد. وعٌد تُحاول من خلاله التذاكي عبر الإيحاء بأنّها تدعم وجودًا فلسطينيا في غزّة، وتُحاول تقديمه على أنّه حلّ للنزاع. فبعد الدعم الكامل لـ«إسرائيل»، ووصف جرائمها ومجازرها بحقّ الفلسطينيين بأنّه «دفاٌع عن النفس»، وتوفير الدعم العسكري والمادي لمحاولة تأمين انتصار العدّو في الحرب على غزّة، تُدرّب بريطانيا السلطة الفلسطينية لتسلّم الحكم في غزّة. أي أنّها تُقدّم الدعم لتدمير المقاومة، ومنع الشعب الفلسطيني من مقاومة الاحتلال، وتوفّر «الخبرات» اللازمة للسلطة برئاسة محمود عبّاس حتى يلعب دور حارس حدود «إسرائيل» مع قطاع غزّة، ويضمن عدم تعكير «أمنها» و«سلامة» المستوطنين حتى يتمكنوا من العودة إلى البلدات التي يحتلونها.
ماذا نعرف عن التدريب البريطاني للسلطة الفلسطينية؟
أبدى الرئيس الفلسطيني محمود عباس في نوفمبر / تشرين الثاني 2023، رغبًة في «عودة السلطة إلى قطاع غزة بشرط التوصّل إلى حلّ سياسي وفق حل الدولتين».
تحت هذه اللافتة، يُشارك فريق عسكري بريطاني في الضفّة الغربية بإعداد إمكانيات وقدرات السلطة، وفق حديث وزير الدفاع البريطاني، جرانت شابس الذي التقى فريق الدعم البريطاني ووزير الداخلية اللواء زياد هب الريح في رام الله يوم 7 ديسمبر / كانون الأول.
وقال شابس إنّ «الحلّ يكون في وجود سلطة فلسطينية، تحتاج إلى أن تكون قادرة على تأمين مستوى من الحكم، وذلك يتطلّب قدرًا هائلًا من المساعدة والدعم الدوليين لها». والهدف الأساسي، بالنسبة إليه، هو «تحسين أمن الإسرائيليين وحياة الفلسطينيين وسبل عيشهم».
أضاف وزير الدفاع البريطاني أنّ تشكيل «تحالف دولي تقوده الدول العربية» فيما يتعلق بإعادة الإعمار في غزة يرتبط أيضا بمن يُدير القطاع، وقد ناقش هذه الحلول مع وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن أثناء زيارة له للولايات المتحدة.
يُذكر أنّ الفريق العسكري البريطاني موجود في رام الله منذ أكثر من 10 سنوات ويعمل مع فرق أمنية فلسطينية بمشاركة أمريكية وكندية.
كيف تشارك بريطانيا في الحرب على غزّة؟
- تسيير طائرات مراقبة في المجال الجوي فوق الأراضي المحتلة وقطاع غزة بذريعة جمع معلومات استخبارية عن مكان الأسرى. لكن في الواقع، الطائرات البريطانية تساهم في توفير أهداف للجيش الإسرائيلي، بعدما استنفد الاحتلال “بنك” أهدافه.
- إرسال سفينتين حربيتين وطائرات إلى شرق البحر الأبيض المتوسط لتقديم “دعم عمليّ لإسرائيل وضمان الردع”، وفقًا لرئيس الوزراء ريشي سوناك (12-10-2023).
- الوقوف إلى جانب كيان الاحتلال في المحافل الدولية، وىخرها الامتناع عن التصويت في مجلس الأمن الدولي على مشروع قرار عربي يقضي بوقف إطلاق النار فورًا في قطاع غزة “لأسباب إنسانية”.
- انضمام مواطنين بريطانيين إلى الجيش الإسرائيلي، وقد أعلنت القوات الإسرائيلية مقتل مقاتلَين بريطانيين يوم 7 أكتوبر / تشرين الأول. الخارجية البريطانية اعتبرت أنّ هؤلاء «مزدوجي الجنسية».