قيل قديمًا إن الرجال يُعرفون عند وقوع الصدمات والفواجع. طبعًا، وكذلك النساء، بل كذلك الأحزاب وحتى الدول. إن مفهوم “يُعرفون” يُقصد بها، صمودهم وعزيمتهم، وقدرتهم على تجاوز ما وقع، والنهوض من جديد، وبأفضل مما كان عليه الحال، قبل ذلك.
لقد أثبت حزب الله بأنه قادر على أن يكون نموذجاً للصمود والنهوض، بعد أن تعرض لصدمة كبيرة، وفاجعة هائلة، تمثلتا بضربات غادرة متلاحقة، أُريدَ منها أن تشله شلاً، لكي يواصل الجيش الصهيوني، وبدعم أميركي، هجومه المتلاحق عليه، ومن دون أن يسمح له، بالتقاط الأنفاس. وذلك ليقضي عليه حين لا يستطيع الصمود والنهوض واستعادة زمام المبادرة. فلا يعود قلعة شماء من قلاع المقاومة التي جعلت هدفها النهائي، تحرير فلسطين، كل فلسطين، من النهر إلى البحر.
لا أحد من أبناء المقاومة أو ممن يحبها يستطيع أن ينسى تلك الأيام التي بدأت بتفجيرات البيجرات، ثم أجهزة الاتصال اللاسلكي، ثم العملية التدميرية الواسعة الهائلة التي استهدفت قائد المقاومة الشهيد السيد حسن نصرالله، وجاء ذلك بعد عملية نسف عدد من قادة “الرضوان”. وأخيرًا وليس آخرًا، العملية القصفية المزلزلة التي استهدفت السيد هاشم صفي الدين.
حقًا لا يمكن أن تنسى المحنة الفاجعة المؤلمة لتلك الأيام، لا من ناحية فداحة خسائرها، ولا من ناحية الألم القاسي بفقدان قادة كبار، ابتداء من السيد فؤاد شكر، وعلى رأسهم السيد الشهيد حسن نصرالله، الذي جمع في آن واحد سمة القائد القدير العبقري والإنسان القريب من القلب قرب الأب والأم والأخ والأخت والابن والابنة، بالنسبة إلى الملايين ممن أحبوه، وقد صعب عليهم أن يغيب عنهم، ولو بالشهادة التي تمناها واستحقها. وقد أنجز ما أنجز، وأثر في ما أثر، وترك ما يبقى مستمرًا من بعده، كما في عهده.
صحيح أن من “حق” نتنياهو أن يلبس ريش طاووس بعد تلك الأيام، ويتباهى ويهدّد، حتى بتغيير خريطة الشرق الأوسط. وهو الذي عجز طوال السنة أن ينتصر على المقاومة وقادتها وشعبها في قطاع غزة، حتى أصبح أمثولة للفشل المسنود بدعم دولي، وبعناد طفولي، وبلا تسويغ لاستمراره، من ناحية احترام موازين القوى، وتجنب الوصول إلى فضيحة هزيمة، أرادت الثأر من عملية “طوفان الأقصى”. فأرسل الجيش الصهيوني إلى هزائم متتالية طوال عام كامل، في مواجهة مقاومة وقيادة وشعب ما كان لأحد أن يتصور صمودهم، وانتصارهم على الجيش الذي اعتبر الرابع في العالم، وربما الأول أو الثاني في القصف، وارتكاب جرائم الإبادة، والقتل الجماعي للمدنيين، من أطفال ونساء ومسنين وجرحى، وتدمير المشافي والمدارس والجامعات والمساجد والكنائس، وبيوت الآمنين.
فنتنياهو، وأحلافه في داخل الكيان وخارجه، عانوا سنة كاملة، من خسائر في الاشتباكات الميدانية البرّية في غزة، كما في مواجهة محور المقاومة. وعانوا من سوء سمعة، وإدانة من قبل الرأي العام العالمي، خصوصاً في الغرب، بسبب ما ارتكبه الكيان الصهيوني من جرائم إبادة وقتل جماعي، وقد غطوه، ولم يحاولوا وقفه. مما عرض الحضارة الغربية إلى تذكيرها بما ارتكبته من قتل لمئات الملايين من “الهنود الحمر” والأفارقة، والسكان الأصليين في الأمريكيتين، وجزر الأطلسي والهادئ.
فقبل تلك الأيام القاسية على المقاومة ومناصريها، كان ميزان القوى، عالميًا وإقليميًا وميدانيًا، مائلًا، بصورة عامة، في مصلحة المقاومة ومحورها. ولهذا فإن ما أحدثته الاغتيالات، وتفجيرات البيجر، واللاسلكي، كان على المستوى الفردي والجمعي المحدود (أربعة آلاف)، على أهميتهما، محصورًا في حدود عمليات غادرة واغتيالات، وهذه وتلك لا تغيّران ما قام من اختلال في ميزان القوى، في مصلحة المقاومة. لأن موازين القوى تتشكل من تراكم، من المتغيّرات، في مدى سنين، وتتأسّس في جوهرها على ما يكون قد تراكم، من نقاط ضعف، وعوامل فساد وشيخوخة، في صفوف القوى المسيطرة عالمياً (أمريكا والغرب)، كما في الداخل الصهيوني من تناقضات وعوامل اهتراء، بسبب الدخول في مراحل الترف والاستهلاك العولمي، والشيخوخة.
أما من الجهة الأخرى، فما امتلكته المقاومات من تعزيز في التسلح وصناعة السلاح، والتدريب وإعداد الدفاعات، والتعبئة العامة، وتشكّل حاضنة قوية ومنيعة، وقد تمّ، بدوره، عبر تراكم طوال سنين، وعبر حروب وصراعات.
ومن ثم فإن الصدمات الكبرى، ومهما كانت من الوزن الثقيل، قد تحدث اختلالًا، مؤقتًا، وقد تترك أثرًا عميقًا من الناحية المعنوية والنفسية. ولكن، حتى هذه فسيفها مزدوج الحدّ، يجمع بين الخسارة والحزن والفقدان من جهة، ولكن الشهادة والتحدّي، من جهة أخرى، تدفعان إلى المزيد من القوّة والاستعداد للصمود والشهادة، ومواصلة طريق الشهداء. وهو ما أخذ يظهر الآن، بعد أن أخذت الصدمة، بمختلف أبعادها تُستوعب. فتنظم الصفوف من جديد. بل وتدخل دماء وعقول ومواهب جديدة، لتواصل المقاومة، ربما، أو في الأغلب، بعزيمة أشدّ.
ولعل التفريق الجيد بين مدى تأثر ميزان القوى من جهة، وبين محافظته على معادلته السابقة، من جهة أخرى، يسمح بالتأكّد، أن استعادة زمام المبادرة تكون مضمونة، ولن يطول ما حدث من اختلال، أو تخلخل، حتى ينتظم الوضع من جديد، وهذا ما حصل فعلاً.
وأخيراً وليس آخراً، في تناول هذا الموضوع، يجب التذكر بأن تجارب كل المقاومات مرت على تلقي ضربات وصدمات، وحتى هزائم ميدانية، تزيد عما واجه حزب الله في تلك الأيام العصيبة. فعلى سبيل المثال، واجهت المقاومة في حرب التحرير الصينية، هزيمة أجبرتها أن تنسحب عشرة آلاف كيلومتر (المسيرة الكبرى)، وذلك لتستعيد زمام المبادرة الهجومية، والإفلات من السحق. وعبرت الثورة الفيتنامية بمثل ذلك حين فشل هجوم “التيت”. وظن الكثيرون أن لا خلاص من الهزيمة. وإذا جئنا إلى التجربة السوفياتية والغربية في الحرب العالمية الثانية، فقد طال أمد استعادة زمام المبادرة، ربما لأربع سنوات.
ولهذا، لو قارنا تلك الصدمة التي تعرض لها حزب الله، بالرغم من فداحة فقدان أمينه العام السيد حسن نصرالله، وبقية الشهداء، وبرغمٍ من تفجيرات البيجرات، فإن استعادة امتلاك زمام المبادرة، وعودة نتنياهو وأمريكا إلى مأزقهما، لم يطل، إلاّ فترة قصيرة من الزمن، وإلّا وقتًا قصيرًا نسبيًا لإعادة تنظيم الصفوف، والعودة إلى المساندة النشطة، والدفاع المتصاعد في مواجهة العدوان الصهيوني.
وذلك سواء في صدّه لمحاولات الهجوم على الجنوب، أم كان في قصف العمق الفلسطيني المحتل، ولا سيما حيفا وتل أبيب. ويكفي ذكر العملية الخطيرة التي تعرّض لها لواء جولاني في حيفا في 13 تشرين الأول/أكتوبر 2024. وهو يومٌ من أيام الردّ الحاسم.
وبهذا يكون حزب الله قد أنجز إنجازًا استثنائيًا، بسرعة استيعابه لصدمة كبيرة للغاية. وقد أعاد نتنياهو وبايدن للإحباط، بعد نشوة انقلبت إلى ضدها.