“كل الأدب سفر، منذ هوميروس، مرورًا بجلجامش، حتّاي”
ابتدأ الراحل الياس خوري كلمته الافتتاحية في مؤتمر “الثقافة الفلسطينية إلى أين؟” الذي نظمته مؤسسة الدراسات الفلسطينية في جامعة بيرزيت سنة ٢٠١٦ بسؤال: “مَن يروي الحكاية؟”.
مثل الثقافة الفلسطينية، لا يمكن قراءة الياس خوري بمعزل عن “النكبة المستمرة”، فالتفوق الأخلاقي للثقافة الفلسطينية بالنسبة إليه هو شرط قدرتها على توليد الكلمات والمعاني الجديدة. لذا فإنّ صراعها مع الصهيونية على مَن يروي الحكاية هو في جوهره صراع عمّن يرث الأرض والمستقبل.
في الانتهاك الشامل للمعاني الإنسانية، حسب وصف خوري، كان حكّاء فلسطين، وإلى جانب كونه حكّاءً، كان قارئًا للواقع الثقافي العربي بوصفه جزءًا من البنية الأساسية التي تصوغ الوعي وتواجه الكارثة. لا ريب في أنّ كل ما طرحه الياس خوري من أسئلة كان هو جوابها، ولأنّ عنده ليس ثمة طلاق بين الكلمة والمعنى، ولا الكلمة والفعل. وهو، لو استعرنا كلماته عن باسل الأعرج وزكريا الزبيدي، والفدائيين عمومًا، بأنهم يحوّلون تجربتهم النضالية إلى فعلٍ ثقافي ويحوّلون مواقعهم كمثقفين إلى فعلٍ نضالي، فإنه نفسه فعل ذلك، وحوّل فعله الثقافي إلى تجربة نضالية، وموقعه كمثقف إلى مناضل.
أين تبدأ الحكاية؟
في واحدٍ من الحوارات الكثيرة معه، قال خوري إنّه في عمله الروائي الذي احتلّ العمر كله، كانت مسألة كيف وأين تبدأ الحكاية هي السؤال. الحكّاء خرّيج مدرسة “ألف ليلة وليلة” يعرف أنه لا وجود لنهاية القصة، فهي قادرة على التوالد الدائم والاستعادة وإعادة التكوين إلى ما لا نهاية. هذا ما تعلّمه من بورخيس وهو يقرأ “ألف ليلة وليلة” بعينيه المغمضتين.
شهرزاد، بالنسبة لخوري، هي أول حكاية في الأدب العالمي، ومنها بدأت القصص، وهي المعلمة الأولى التي وضعت أسس العالم الخيالي الذي لا يوازي الواقع، ولكن الذي يصنعه. بهذا المعنى تغدو الحكاية (القصة) بالنسبة لخوري لا عالمًا متعاليًا على الواقع، بل هي العالم، والحكاية حياة، هذا على المستوى الأدبي.
الطفل الذي تربى على حكايات جدته، من ثم على ألف ليلة وليلة، تخرّج من مدرسة الجدات ومدرسة شهرزاد في آنٍ معًا، وتعلّم من كلتيهما أنّ الأدب “فعل تأنيث للعالم”، وتأنيث للّغة. اللغة بالنسبة له هي فعل حين يتأنث يعطي العالم معنى جديدًا وأبعادًا جديدة.
الأدب بالنسبة لخوري فعل حب، والكتابة فعل حياة، في الحب، بالنسبة له يصبح كل شيء ممكنًا: الكتابة والثورة.
الكتابة كذلك، غير أنها فعل حياة، فإنها خلق وإعادة خلق في آن. بالنسبة لخوري، الشخصيات هي التي ألّفته. والمؤلف الذي لا يعيد النص تأليفه يكون في حالة تكرار وعدم تجدد. النص رحلة إلى المجهول، فخوري “تعلّم فلسطين من باب الشمس”، تعلّم اللد ومأساتها من “أولاد الغيتو”، تعلّم المنام في “كأنها نائمة”. الكتابة عنده معرفة، تعلّم، الكاتب تلميذ، المؤلف الحقيقي هو الذي يقبل أن يؤلفه النص، ومهمة الكاتب الفرد عنده هو أن يكون أداة للوصول إلى إعادة تركيب العالم بطريقة جديدة ومختلفة وملائمة، والكتابة تبدأ من نقطة “لا أعرف”، ما يحيل إلى سؤاله الدائم “أين تبدأ الحكاية؟”.
تبدأ من أنّ الفنّ أخلاق، الأدب يعيد بناء الأخلاق في العمق، هذه وظيفته بالنسبة لخوري، وهو ليس سوى تأويل للتجربة الإنسانية، وعرضة للتأويل الدائم.
يقابل الكتابة كفعل حياة، أنّ القراءة عند قرّاء خوري أيضًا فعل حياة. سنة ٢٠١٤ مثلًا، في كانون الأول، قام مجموعة من الشابات والشبان الفلسطينيين بالسيطرة على أرض قرب القدس أطلقوا عليها اسم “باب الشمس” في إشارة إلى رواية خوري. حين دمّر جيش الاحتلال الإسرائيلي هذه القرية بعد ثلاثة أيام، أسس الشبان والشابات مجددًا بعد طردهم منها قرية جديدة أطلقوا عليها اسم “أحفاد يونس تيمّنًا ببطل رواية “باب الشمس” يونس الأسدي.
هكذا، ليس الأدب هو الذي يقلّد الواقع، بل الواقع يقلّد الأدب. وتلك لحظة من اللحظات النادرة التي استطاع خوري تحقيقها في تاريخ الأدب بعد انتحار فيرتر المحاكي (عن رواية آلام فيرتر لغوته) مثلًا.
إشكاليّات الروائي والرواية: الهوية
في حوارٍ مع عادل الأسطة، يقول خوري إنّ رواياته تثير عدة إشكاليات: إشكالية هوية الكاتب نفسه، وإشكالية تحديد هوية أدبه، وإشكالية الكتابة عن أماكن عرف بعضها وألمّ بدقائق تفاصيلها، مثل بيروت ونيويورك، وأماكن لم يرها ولم تطأها قدماه، مثل اللد ويافا وحيفا وقرى الجليل الفلسطيني، وإشكالية مفهوم الالتزام بالأدب وموقفه منه وموقفه من أدب الواقعية الاشتراكية، وليس أخيرًا إشكالية تجنيس أعماله الأخيرة.
قال خوري للأسطة إنه بيروتي المولد وبيت أهله في الأشرفية في بيروت من قبل النكبة في ١٩٤٨ (ثمة روائي فلسطيني اسمه الياس خوري أيضًا له رواية اسمها عكا والرحيل، نُسِبَت إلى الياس خوري الثاني).
إشكالية هوية خوري، أي اعتباره فلسطينيًا، وفقًا للأسطة، ترجع إلى عدة عوامل منها: تشابه الاسم، وانتماؤه إلى حركة فتح في ستينيات القرن العشرين، وصلته الوثيقة بالفلسطينيين ومنهم محمود درويش، وكتابته عن أبرز الشعراء والروائيين الفلسطينيين. إضافة إلى عمله في مركز الأبحاث الفلسطيني ولاحقًا في “الدراسات الفلسطينية”، والحضور الطاغي للموضوع الفلسطيني في رواياته منذ فترة مبكرة حتى آخر عمل له، وانتشار روايته “باب الشمس” التي عالجت القضية الفلسطينية كما لم تعالجها من قبل رواية فلسطينية، على رأي الشاعر أحمد دحبور.
أما تحديد هوية “أدب” خوري، فيعتمد فيها الأسطة على ما حدده الباحث الألماني مانفرد فيشر لتحديد هوية أدب ما، وهو: المكان، اللغة، الموقف الأيديولوجي، جواز السفر / الهوية السياسية، الموضوع. يقول الأسطة:
“فيما يتعلق بالمكان فإنّ الياس خوري لم ير فلسطين التي لم يولد فيها أصلًا، وعليه فإن أدبه حسب هذا المعيار أدب لبناني. وفيما يتعلق بمعيار اللغة فإنّ الياس يكتب بالعربية، وبالتالي فإنّ أدبه حسب هذا المعيار هو أدب عربي بامتياز، فلا لغة فلسطينية أو لغة لبنانية، وبخصوص اللهجة فإن شخصيات رواياته فلسطينية ولبنانية، وهناك شخصيات غير عربية، والملاحظ أنه أنطق الشخصيات الفلسطينية واللبنانية في بعض رواياته كلا بلهجتها وأسلب لغة الشخصيات اليهودية على سبيل المثال وأنطقها بعربية فصيحة. وبخصوص الأيديولوجيا فإنّ الياس مثقف عربي ولم يلزم نفسه بالماركسية مثلًا ليكتب أدبًا أيديولوجيًا، وقد عبّر عن عدم إعجابه بالأدب الاشتراكي، ونظر في «أولاد الغيتو: اسمي آدم» لفكرة أدبية الأدب”. يضيف الأسطة أنّ معيار الموضوع هو المعيار الذي يلفت النظر إليه حقًا في أثناء متابعة كتابات الروائي. إذ يحضر الموضوع الفلسطيني في روايات الياس حضورًا طاغيًا منذ روايته المبكرة “الوجوه البيضاء” التي سببت له مشاكل مع بعض الفصائل الفلسطينية، وقد ظل الموضوع يحضر في روايات لاحقة، مثل “مملكة الغرباء”، وتوّج بروايته “باب الشمس” وأخيرًا “أولاد الغيتو”. لكن ما يجب أن يذكر هو أن الموضوع اللبناني لم يقل حضوره في الروايات الأخرى، “الجبل الصغير” و”يالو” و”كأنها نائمة” والرواية لبنانية الموضوع بامتياز “سينالكول”. في أثناء تحديد هوية الأدب حسب هذا المعيار، فإن روايات الياس تدرس في أثناء دراسة الأدب اللبناني وفي أثناء دراسة الأدب الفلسطيني أيضًا.
أيًا تكن هذه الإشكاليات، فليست هي التي تعني الباحثين في أدب الياس خوري، إذ إنّ نظرةً على عناوين الدراسات التي كُتِبَت في أدبه (ولروايته “باب الشمس” نصيب الأسد) تدلّ على أنّ اهتمامًا آخر حقيقيًا هو الذي يعنى به الدارسون، ومن الدراسات نذكر: “باب الشمس: الحكاية التاريخية والرواية الفلسطينية الكبرى” لصبحي حديدي، “القص والموت والذاكرة: باب الشمس، ملحمة الوعي والأدب المقاوم” لماهر جرار، “باب الشمس بين التمثيل الرمزي وقوة الحكاية” لفخري صالح، “تشكل الهوية السردية في باب الشمس” لوافية بن مسعود، “أبواب المدينة: مدينة لا اسم لها ولا ذاكرة” لسونيا ميشار، “مملكة الغرباء: أثر المرجعي في تمييز بنية الشكل” لميسون علي، “سيميائية العتبات النصية ودلالتها في رواية: يالو” لجمال جياب ونهيان هواوي، ودراسة أمل عبد اللطيف أحمد التي تقف فيها على التناص وتداخل الحكايات وتعدد الرواة في بعض أعمال خوري، وغيرها كثير.
على أنّ لخوري نفسه دراسات بالغة الأهمية إلى جانب كونه روائيًا، نذكر منها:
“عوالم جديدة: ومختصر علم الفلك” (١٩٦٢)، و”تجربة البحث عن أفق: مقدّمة لدراسات الرواية العربية بعد الهزيمة” (١٩٧٤)، و”الذاكرة المفقودة: دراسات نقدية” (١٩٨٢)، و”المسيحيون العرب: دراسات ومناقشات” (١٩٨٦)، و”دراسات في نقد الشعر” (١٩٨٦)، و”يوسف حبشي الأشقر طليع، حدّاث، مجدّد في الرواية اللبنانية والقصة” (٢٠٠٣)، و”تصوّرات البحر الأبيض المتوسّط: المتوسّط اللبناني” (٢٠٠٣).