أدخل وزير خارجية بريطانيا اللورد هنري بالمرستون، في الاستراتيجية البريطانية، ما أسماه إقامة “حاجز بشري” في فلسطين، أي ما أصبح الكيان الصهيوني، كما كانت قد صدرت قبله تصريحات، لعل أهمها تصريح نابليون بونابرت بخصوص إعادة اليهود إلى فلسطين، وكانت عدة كتب تناولت عودة اليهود إلى فلسطين.
وقد ذهب بعض المؤرخين إلى البدء بتلك التصريحات، أو الكتب، في التأريخ للقضية الفلسطينية، أو التأريخ للمشروع الصهيوني في فلسطين. ولكن ما من تصريح أو كتاب من تلك الكتب يصح أن يُرجع إليه، أو يعزى له الانطلاق في عملية التأسيس للمشروع الصهيوني، أو التحضير له، أو بدء العمل في اتجاهه.
الفارق بين ما سبق وصدر من التصريحات، كتصريح نابليون، من جهة، وقرار بالمرستون من جهة ثانية، كون قرار بالمرستون أصبح جزءًا من استراتيجية بريطانيا، وهي في طريقها لتدمير الدولة العثمانية، واحتلال أغلب البلاد العربية، بما فيها فلسطين نفسها.
صحيح أن بالمرستون كان معبأ بالنص التوراتي، وكان مع صهره وشريكه اللورد شافتسيري، يسعيان لتنصير اليهود، قبل مشروع الحاجز البشري، ثم ربطاه بتنصير اليهود، ولكن تبين لهما أن ذلك بطيء كالذي يحفر في الصخر. فقررا أن يكون يهوديًا، ويرسل اليهود إليه. ومن هنا بدأ الحديث عن تلبية “نبوءة”، أو أسطورة في التوراة، فيما هو في الأساس استراتيجية للدولة الكبرى الاستعمارية بريطانيا، التي تُعِدّ للسيطرة على الدولة العثمانية، ومن ضمنها السيطرة على البلاد العربية، وفلسطين. فهذه الاستراتيجية هي التي جعلت المشروع الصهيوني ممكنًا، أما ما عداها فأيديولوجيا ليس أكثر.
كانت تجربة محمد علي الكبير في مصر مريرة بالنسبة إلى بريطانيا. وذلك عندما توسّعت لتشمل السودان، والمشرق العربي من فلسطين إلى شبه الجزيرة العربية. ثم الصعود إلى الأناضول للاستيلاء على الآستانة. ووصل الأمر إلى حد أن أتراك العاصمة العثمانية، مالوا للترحيب بمحمد علي، الذي جاء لينهض بالدولة العثمانية، ويخرجها من تراجعها وتدهورها، أمام الضغوط الدولية الأوروبية، وفي مقدمها بريطانيا.
وكان محمد علي قد نهض بمصر، وحدّث دولتها، واخترق حاجز الصناعة. وتوسّع بترجمة العلوم، وإنشاء مؤسسات علمية. والأهم شكّل جيشًا من النمط النابليوني، وقد جنّد لذلك جنرالات من جيش نابليون، بعد هزيمته في 1815، على يد الجيش البريطاني. ووصل تعداد جيش محمد علي إلى أكثر من 200 ألف. وهزم الجيش العثماني في موقعتين، لم يصمد فيهما الجيش العثماني الإنكشاري بضع ساعات في كل موقعة. الأمر الذي جعل من جيش محمد علي جيشًا عالميًا، وجعل من مصر دولة صناعية بمستوى عالمي. فكيف لو تمكن من أن يدخل الآستانة، ويفعل في إنهاض الدولة العثمانية، كما فعل بمصر، وكان هدفه الأول. وإذا لم يتحقق يكون قد حوّل البلاد العربية، إلى قوّة ناهضة على مستوى عالمي. وهي فرصة استثنائية لم تتكرر عربيًا، بعد أن قضي عليها من خلال بريطانيا. وكانت قد وحدّت أوروبا كلها لأول مرّة، لتستطيع إنزال الهزيمة بمحمد علي، وسحق جيشه، وإعادة مصر إلى ما كانت عليه قبل محمد علي. وذلك من خلال جيشها واستعمارها، وتفكيك ما بُنِي من مصانع. وقد أرسل بعضها إلى جزيرة سيشل ليأكلها الصدأ، وبعضها ضمّ إلى المصانع البريطانية في يورك شاير.
ولهذا منذ العام 1840 قررت بريطانيا ألاّ تكرّر تجربة محمد علي مرّة أخرى. وذلك:
أولًا، بإقامة حاجز بشري في فلسطين يحول دون مصر، والوصول إلى المشرق العربي وتوحيده.
وثانيًا، بتجزئة البلاد العربية بعد القضاء على الدولة العثمانية. وهو القرار الثاني الذي أصبح جزءًا من الاستراتيجية البريطانية، بعد مؤتمر كامبل/1905-1907، الذي أخفيت وثائقه التي أوصى بتجزئة البلاد العربية. ولم يبق من ذلك المؤتمر، غير ما ورد في تقرير صحفي عنه.
وقد أشير فيه إلى أن لا يسمح للبلاد العربية من المحيط إلى الخليج أن توحّد، وإنما يجب أن تجزأ إلى أكبر قدر من التقطيع “على المفاصل”. لأن هذه المنطقة ذات لغة واحدة ودين واحد (المسيحيون العرب جزء منها). ولها تاريخ طويل من “إمبراطورية” عربية إسلامية، سادت في العالمين. وقد وضعت أوروبا في سجن محكم، موضوعيًا، ولو دون قصد، لثمانية قرون، منذ ما بعد معركة اليرموك ودحر الإمبراطورية البيزنطية ومحاصرتها في تركيا. وثم فإن ذلك يسمح بإطالة عمر الإمبراطورية البريطانية.
وبهذا أصبحت أوروبا في سجن سوره الشمالي من ثلوج، وسوره الغربي بحر الظلمات (المحيط الأطلسي)، وسوره الجنوبي عربي من المحيط إلى الدولة البيزنطية. وقد دام ذلك السجن ثمانية قرون، وهو الذي فرض على أوروبا ما قام من أنظمة إقطاعية وملوك، وسيطرة الكنيسة الكاثوليكية، وما سميت بعصور الظلام.
وقد حاولت حروب الفرنجة (الحروب الصليبية) اختراق هذا السجن، ولكنها سرعان ما فشلت، وأحكم إغلاقه من جديد، وزاد الظلام بعد ذلك لثلاثة قرون أخرى، حتى الفتوحات البحرية في تسعينيات القرن الخامس عشر، حيث انطلقت أوروبا بكسر الجدار الغربي (المحيط الأطلسي) غربًا باتجاه الأمريكيتين، فآسيا. وجنوبًا، باتجاه الرجاء الصالح وجنوب الصحراء في أفريقيا، إلى الشرق أيضًا.
هذا السجن الذي كان سببه الرئيس هو العرب من جبل طارق واسبانيا والمغرب الكبير، فمصر وبلاد الشام، شكّل لأوروبا عقدة استراتيجية ودينية وقومية، ترجمت بعد الحرب العالمية الأولى بإعلان وعد بلفور (إقامة الكيان الصهيوني)، وباتفاقات سايكس-بيكو، ومؤتمرات سان ريمو في تجزئة البلاد العربية إلى 22 جزءًا. وقد فشلت في تجزئة القطر المغربي إلى ثلاثة أو أربعة أجزاء أخرى، كما فشل الشيء نفسه، بتجزئة القطر السوري إلى أكثر من جزء كذلك.
إن خصوصية الاستعمار الغربي بالنسبة إلى البلاد العربية (الأمة العربية) تمثلت في إقامة دولة الكيان الصهيوني، وفرض تجزئتها إلى 22 جزءًا.
هذه الخصوصية، بشقّيها الكيان الصهيوني في فلسطين وإقامة 22 دولة عربية قطرية لتكريس تجزئتها ومنع وحدتها ونهضتها، هي التي تفسّر ما وصله الوضع العربي (الأقطار العربية المستقلة) من عدم قدرة على النهوض أو التنمية، أو مواجهة الكيان الصهيوني، أكان على المستوى العام، أم كان على مستوى كل قطر عربي.
بل إنه يفسّر ما عرفه ويعرفه الوضع العربي من صراعات قطرية- قطرية، أو انقسامات داخلية طائفية أو مذهبية، أو جهوية، أو استشراء للفساد والاستبداد، أو فشل للأحزاب النهضوية القومية، أو القطرية، أو العلمانية أو الديمقراطية، أو الإسلامية. فوجود الكيان الصهيوني، كما ترجم دوره على مدى 76 عامًا، وفشل كل محاولات التغيير، بغض النظر عن الموقف منها، أو طبيعة كل منها، لا يُفسّر إلّا بسبب التجزئة والكيان الصهيوني، وبالطبع مع وجود الاستعمار والسيطرة الخارجية، وإعادة توليد التبعية.
فقط لنقارن مع دول العالم الثالث، سواء أكانت التي حافظت على وحدة كبرى كالصين والهند، أو وحدات كبيرة كإيران وتركيا والبرازبل. وكيف أثرت وحدتها القومية في إمكان نهوضها، بالرغم من الضغوط الخارجية، الآتية من السيطرة الغربية-الصهيونية على العالم. تصوروا وضع الصين التي حافظت على وحدتها، واستطاعت أن تتحوّل إلى دولة كبرى تنافس الولايات المتحدة، كم تعاني من تجزئة تايوان منها. فكيف لو قسّمت إلى 22 تايوانًا، هل كان لها أن تنهض؟