في كتابه “ثلاث عوالم؛ مذكرات يهودي عربي”،[1] يقص آفي شلايم حادثة وقعت له خلال طفولته. يقول شلايم: “في أحد أيام الصيف الحارة وبينما كنت أتسكع مع أصدقاء الحي في بلدة رمات جان شرق تل أبيب، خرج أبي من المنزل ونادى إلي يحدثني بالعربية”. يصف شلايم حالة الخجل التي اعترته أمام أصدقائه. يقول: “شعرت بالخجل وتحولت وجنتي إلى اللون الأحمر. كانت الإجابة على أسئلة والدي مشوشة، وأحادية المقطع، بالكاد مسموعة. ما أردت قوله له – ولم أستطع – هو أنه في حين قد يبدو الحديث باللغة العربية جيدًا في المنزل، إلا أن الأمر ليس على هذا النحو أمام الأصدقاء”. يقول شلايم: “لقد أسس إسرائيل جمع من يهود أوروبا، وتفاخروا بكونها جزءًا من الغرب و”العالم الحر”. كنت أنا من دولة عربية كانت لا تزال رسميًا في حالة حرب مع “إسرائيل”. وكان اليهود الأوروبيون يميلون إلى النظر إلينا باعتبارنا أقل شأنًا منهم اجتماعيًا وثقافيًا. كانوا يحتقرون اللغة العربية وينظرون لها كلغة قبيحة وبدائية. وكصبي صغير سريع التأثر، التقطت واستوعبت التحيزات تلك في بيئتي الجديدة. لقد أردت أن أدير ظهري لتراثي العربي، ولثقافة الشتات وعاداته، وأن أتحول إلى “إسرائيلي جديد” ناطق بالعبرية. لم يكن الحديث باللغة العربية متوافقًا مع هويتي الجديدة التي أردت تبنيها. وتلك الحادثة البسيطة لخصت كمًا مذهلًا من الاضطراب العاطفي الذي ابتليت به (ومعه كثير من اليهود العرب) طوال طفولتي في “إسرائيل”.
يصف شلايم في كتابه طبيعة العلاقة المضطربة بمجتمعه الجديد. كانت عقدة النقص هي الحاكم في تلك العلاقة. “كنت فتى عراقيًا في أرض الأوروبيين […] لم أصدق أن لدي أي قدرات أو مواهب خاصة لا يعترف المجتمع بها. والأصعب، أني افتقرت تمامًا إلى الإحساس الشديد بالظلم الذي قد يدفع بعض الأطفال المهمشين إلى إثبات أنفسهم”.
يراجع شلايم تاريخ اليهود المنسي في العراق، ويقول أنه كان هناك تقليد من التسامح الديني وتاريخ طويل من الانسجام بين مختلف شرائح المجتمع. في العراق لم يكن اليهود وافدين جدداً ولا أجانب. ومن المؤكد أنهم لم يكونوا متسللين. يعيد شلايم ارتباط اليهود ببابل إلى زمن نبي الله إبراهيم الذي هاجر من أور إلى أرض كنعان. ويصر على أن اليهود عاشوا في بابل منذ عام 586 قبل الميلاد، عندما دمر الملك نبوخذ نصر مملكتهم وطردهم منها إلى المنفى.[2] إلا أنه وبعد عدة قرون، تمكن اليهود من جعل بابل المركز الروحي لليهود في الشتات ومقر الأكاديميات الدينية الأكثر تميزًا، وهي نيهارديا وسورا وبومبيديتا (الفلوجة). وهناك، تم جمع التلمود البابلي، وتم تدوين قانون الهالاخاه اليهودي.
يروي شلايم الظروف التي أسهمت في خروج اليهود من العراق (فترة أحداث الفرهود سنة 1941) بدءًا من أواخر أيلول/ سبتمبر 1939، أي بعد يومين فقط من دخول القوات البريطانية وفرار رشيد عالي الكيلاني والحاج أمين الحسيني إلى إيران ومنها إلى أوروبا. وبعدما صار يُنظر لليهود كأصدقاء للبريطانيين.[3]
عمومًا، وإلى اليوم، لا تزال قضية “الفرهود” وخروج اليهود من العراق، واحدة من أكثر القضايا التباسًا في تاريخنا السياسي المعاصر. في كتابه “بغداد أمس”، يقدم الباحث الإسرائيلي، ساسون سوميخ، مقاربته اليسارية الخاصة بالموضوع. يقول: “لقد انهار النظام القصير الأمد المحابي للنازية بعيد عام 1939، وفر قادته ليجد الكثير منهم ملاذًا خارج العراق. في حين تلكأ الجيش الإنكليزي وولي العرش العراقي في فرض سيطرتهم على العاصمة العراقية من جديد. في تلك الأيام التي خلت فيها المدينة من سيطرة النظام والقانون، عاثت جماهير المشاغبين فسادًا وفوضى، وكان معظمهم من أبناء القبائل البدوية الذين توطنوا في ضواحي بغداد، فنهبوا وقتلوا دون تمييز كل من طالعهم في الأحياء اليهودية، خاصة الأحياء القديمة والفقيرة، وقد انضم إلى المشاغبين بعض الجنود الفقراء، بعد أن تشتت وحداتهم وتفرق شملها. ومن حسن الحظ أن المشاغبين لم يصلوا إلى معظم الأحياء الجديدة التي شيدت في الثلاثينيات والأربعينيات وسكن فيها عشرات الآلاف من يهود المدينة”.[4]
يشير سوميخ إلى العواقب النفسية والاجتماعية للفرهود على يهود العراق بما يلي: “حلت على جميع أبناء جالية بغداد صدمة عنيفة، بمن فيهم أولئك الذين لم ينلهم الأذى خلال فواجع «الفرهود» وويلاته، وقد دهمتهم الأحداث وباتوا مفجوعين مشدوهين. ترى كيف حدث أن انقلب جيران الأمس إلى وحوش ضارية؟ وهل الفرهود سيبقى حدثًا طارئًا ولن يتكرر أبدًا؟ أم أنه سيكون فاتحة لعصر جديد مثير للمتاعب في العلاقات بين المسلمين واليهود في بلاد الرافدين؟ ثم يواصل فيكتب: “لكن تجدر الإشارة أن كثيرًا من المسلمين القاطنين في جوار اليهود في المناطق القديمة من بغداد كانوا قد دافعوا عن اليهود، ولم يترددوا في منحهم الحماية والملاذ رغم المخاطر التي تعرضوا لها جرّاء ذلك”.[5]
بحسب إيلا شوحيط، لن يُحل لغز هجرة اليهود من العراق ما دُمنا عاجزين عن الإجابة على جملة أسئلة منها: هل أخرج الصهاينة يهود العراق بشكل متعمد نظرًا لحاجة “إسرائيل” في حينه (كانت كيانًا غض الولادة) إلى كتلة بشرية استيطانية؟[6] أم هل كان خروج اليهود من بغداد واحدًا من نتائج استعار الخطاب القومي الكاره لليهود؟ ثم ما صلة هذا الخروج بالسياسات البريطانية؟ برأيها، قدم الخطاب القومي في المنطقة العربية هجرة اليهود كمؤشر على الخيانة اليهودية. أما الخطاب الإسرائيلي فقام على وضع الهجرة في سياق العداء للسامية.[7] وحديثًا، بدأ ربط قضية “النازحين اليهود من البلدان العربية والإسلامية” بالتهجير الجماعي للفلسطينيين عام 1948، كفعل مماثل أو كجزء من سردية “التبادل السكاني”. الربط، في هذا السياق، ينحو إلى التخفيف من المسؤولية الإسرائيلية عن التهجير الجماعي للفلسطينيين. وبعض أوجه هذا الخطاب يضمر افتراضًا بأن المسلمين كانوا على الدوام مضطهِدين لليهود، في سياق التاريخ الإبادي لليهود. وفي واحدة من أكثر صوره انحيازًا، يدمج هذا الخطاب المسألة العربية – اليهودية بالهولوكوست، ومثال ذلك الحملة التي أطلقت لإدخال أحداث الفرهود ضمن برامج متحف المحرقة التذكاري في الولايات المتحدة.
الخروج المستحيل
يُعتبر كتاب أوريت باشكين، “الخروج المستحيل: اليهود العراقيون في إسرائيل – Impossible Exodus: Iraqi Jews in Israel”، أحد أبرز الكتب تمحيصًا لتجارب اليهود العراقيين في “إسرائيل”. تلاحظ أوريت باشكين في كتابها، أن علاقة الوافدين الجدد من العراق بالنخبة السفاردية التي سبقتهم إلى فلسطين لم تكن على ما يُرام. وعلى الرغم من “المشرقية” المشتركة، والتصنيف المشترك باعتبارهم “آخرين” من قِبَل الأشكناز الحاكمين. إلا أن اليهود العراقيين ظلوا يستشعرون التمايز عن غيرهم من اليهود الشرقيين.
كان الأطفال العراقيون وأمهاتهم مشغولون في الفترة الأولى في معرفة كيفية البقاء على قيد الحياة فترة الشتاء القاسية، بعد أن سكنوا في خيام تشبه إلى حد كبير تلك التي يسكنها اللاجئون الفلسطينيون. وفي الوقت الذي سعى فيه اليهود العراقيون في “إسرائيل” لأن لا يكونوا ضحايا، بل أشخاصًا ساعين إلى إيجاد طرق لبناء حياة أفضل لأنفسهم وأسرهم، كانت العلاقة بينهم وبين الدولة عكسية على الدوام. ففي العراق، أرادتهم “إسرائيل” ولم يريدوها، وفي “إسرائيل” أرادوا أن يكونوا إسرائيليين ولم تتقبلهم “الدولة”. “الخروج المستحيل” ظهر في سياسات الدولة وفي مخاوفها من الاختلاف مع هؤلاء الناطقين باللغة العربية/ لغة العدو، و”الخروج المستحيل” لم يكن في خروج هؤلاء من بغداد والبصرة، بل وفي خروجهم من معسكرات العبور (معبروت) سيئة السمعة، ومن عزلتهم التي تمنعهم من الاندماج لغويًا واجتماعيًا في المجتمع الإسرائيلي المهيمن. تصف باشكين في كتابها صدى أصوات الأطفال العراقيين الذين غالبًا ما يتم القبض عليهم بتهمة السرقة من حقول الأشكيناز لأنهم أصغر سنًا من أن تصدق الشرطة أنهم عمال، والنساء المتعلمات المتعددات اللغات اللاتي افترضت الممرضات الأشكناز أنهن أميات وغير قادرات على القيام بدورهن في تربية أولادهن أطفالهن.
من هنا، لم يكن أمام هؤلاء غير المؤسسة الأمنية؛ المساحة الأخيرة لتقبل اختلافهم من قبل “دولة تحتاجهم لسبب واحد فقط”؛ شبههم بعدوها. لذا، ضمّن اليهود العراقيون في استراتيجياتهم للبقاء استخدام المعرفة باللغة والثقافة العربية للانضمام إلى أجهزة الأمن والاستخبارات، وبالتالي لإيجاد القبول في مجتمع مختلف عنهم كلية.
التحول الثقافي إلى العبرية
تأخر اندماج اليهود العراقيين في “إسرائيل” حتى منتصف الستينيات. وفي الحقيقة، قلة هم الكتاب العراقيون الذين نجحوا في التكيف مع اللغة العبرية. فلقد شعر غالب هؤلاء أن اللغة العبرية تملي عليهم تغييرًا في مفاهيمهم وتفضيلاتهم الذوقية. كان شمعون بلاص (1930 – 2019) من أوائل أولئك الذين حاولوا الكتابة باللغة العبرية، وإن التزم بتفضيلات الثقافة الأصلية باعتباره “يهوديًا عربيًا”. وكغيره من اليهود العراقيين، لم تكن حقيقة هجرته إلى “إسرائيل” عام 1951 مدفوعة بأي تفضيلات صهيونية. كما لم تكن الثقافة الإسرائيلية مصدر غنى ثقافته وقلمه، بل تجربته في المعبروت – معسكرات عبور المهاجرين – وأنشطته في الحزب الشيوعي هما اللذان أغنيا إنتاجه الأدبي.
لخصت روايته الأولى باللغة العبرية “مخيم المهاجرين العابرين” سنة 1964 (وكانت أول رواية عبرية يكتبها مهاجر عراقي) مأساة المهاجرين العرب من اليهود الذين اقتُلعوا من ديارهم وجيء بهم إلى “إسرائيل” فوقعوا في براثن الفقر والعوَز. الأخطر بالنسبة إلى بلاص، كان في الحرمان الثقافي للمهاجرين الجدد بعدما عملت “الدولة” على رفض أعز قيمهم الأخلاقية والثقافية. لقد أُلقي بهم في بيئة معادية، نظرت إلى ثقافتهم وتاريخهم بازدراء، وبالتالي أمسى هؤلاء ضحايا لعملية مُمأسسة هدفت إلى تكييفهم مع ثقافة اعتبرت اللغة والأدب والموسيقى العربية ثقافة أدنى، فضلًا عن كونها “سلاحًا للعدو”.
ظل بلاص ينظر للصهيونية على أنها أيديولوجيا مندكة في المفهوم الاستعماري الأوروبي للشرق، الأمر الذي جعل موقف الصهيونية من اليهود العرب “لا يختلف عن الموقف من العرب عامة”. بلاص أراد من خلال نشاطه الأدبي “إعادة تعريب إسرائيل” بأقلمة ذائقتها الأدبية وتحويلها إلى ذائقة عربية.
أما سامي ميخائيل،[8] فكانت كتاباته أكثر ميلًا لليسار والصهيونية، وبالرغم من ذلك، أحدثت روايته “شافيم فيشافيم يوتير” (متساوون ومتساوون أكثر) سنة 1974، انفجارًا ثقافيًا أثار عاصفة من الاحتجاج، بعدما كشفت الرواية عن الموقف المهين الذي اتخذته “إسرائيل” تجاه المهاجرين “اليهود – العرب”.
تبدأ الرواية سرد أحداثها من صبيحة الثاني من حزيران/ يونيو 1967، ومن مجنزرة يجلس فيها ديفيد بطل القصة مع أربعة محاربين، اثنان منهم أشكناز/ غربيون، ويمني و”شرقي مدجن”، وهم في طريقهم إلى الجبهة المصرية للمشاركة في الحرب. يحرك ديفيد إبرة الراديو ويتنقل بين المحطات العربية التي تبث أناشيد عسكرية تحثّ على المواجهة، الأمر الذي يثير الغضب بين المجموعة فيُطالب ديفيد بإخراس الراديو. يتطور الجدل داخل المجنزرة ويستمر ديفيد، المليء بمشاعر الغضب، في إثارة الجدل واستفزاز الجنود. ومن هذا المشهد ينطلق سامي ميخائيل في سرد حكاية اليهود الشرقيين بلسان حال ديفيد هذا.
في الرواية تتكشف للقارئ تدريجيًا حالة الغضب التي تعتري اليهود العراقيين على ضوء تجربة ديفيد الشخصية كيهودي شرقي. ديفيد يعيش مأساة عائلية منذ أن تركت عائلته العراق وانتقلت إلى “معبروت خيرية”[9] في “إسرائيل”. ديفيد رجل طلّقته زوجته فور وصولها إلى “إسرائيل”، ومذاك صارت تعيش مع رجل تنتهي كنية عائلته بـ”تس” (في إشارة إلى أصوله الأشكنازية). يبدأ ديفيد باستذكار أبيه الأعمى، وأمه، ومصائر باقي أفراد عائلته، فيأخذنا سامي ميخائيل عبر مصائر أفراد العائلة إلى أكثر الزوايا ظلمة في حياة الشرقيين في المعبروت.[10]
في رواياته اللاحقة، واصل ميخائيل التعامل مع الأدب انطلاقًا من ثقافة الهوامش في “المجتمع الإسرائيلي”. كانت روايته الأكثر مبيعاً “فيكتوريا” (1993)، وهي التي رسخت مكانة ميخائيل ككاتب معروف. سُميت الرواية على اسم بطلتها التي نجحت في التغلب على تحديات حياتها. تصف الرواية حياة اليهود العراقيين قبل وبعد هجرتهم. وقد زُعم أن اللهجة التي كتب بها ميخائيل هذه الرواية هي لهجة أقلية لم تجد مكانًا لها في النظام الجديد.
قلق السياسة يدق الأبواب مرة أخرى
ثمة لحظتان سياسيتان مبكرتان عبرتا عن انفجار الوعي السياسي لليهود الشرقيين عامة، والعراقيين بنحو خاص. اللحظة الأولى، كانت انتفاضة وادي الصليب (وهو حي عشوائي في حيفا سكنه مهاجرون يهود من شمال إفريقيا). بعد إطلاق الشرطة الإسرائيلية النار على يعقوب ألكاريف في 9 تموز/ يوليو 1950. لتندلع من بعدها مظاهرات غاضبة سرعان ما تحولت إلى أعمال شغب واسعة النطاق استهدفت ضواحي الأشكناز الأكثر ثراءً في حيفا، ومقر حزب العمل الإسرائيلي. ثم ما لبثت أن تحولت إلى انتفاضة غاضبة ضد الأشكناز في مختلف مجتمعات المزراحيم (اليهود الشرقيون) في جميع أنحاء “إسرائيل”. أما اللحظة الثانية، فتمثلت بانفجار الموجة الثانية من التمرد من خلال حركة الفهود السود. لقد نظمت حركة الفهود السود احتجاجات جماهيرية ضد السياسات العنصرية التمييزية للدولة بدءًا من عام 1971. ووفقًا لسامي شتريت (2000)، فإن الانتفاضة في وادي الصليب وحركة الفهود السود، كانتا اللحظتين الأكثر حساسية في ولادة مسألة السفاردية أولًا، ثم المسألة العراقية في الصهيونية. لقد كسرت هاتان اللحظتان سدّ الصمت، مما أطلق موجة لا رجعة فيها من تطرف الوعي السياسي المزراحي/ الشرقي، التي تبلورت سياسيًا مع ولادة حركتي الخيام (1976 – 1981)،[11] وشاس (1983).
المفارقة أنه وبالرغم من صعود اليمين في “إسرائيل”، إلا أن شبح نبذ العراقيين ظل حاضرًا في نظم خطاب “الدولة” وهوامشه. وفي سلوكيات السياسيين والمثقفين الإسرائيليين. وأخبار من مثل تلك التي نشرتها مرة “صنداي تايمز” سنة 1998، حول استخدام العراقيين اليهود في تجارب كيميائية كانت غالبًا ما تثير قلق هؤلاء الهوياتي في “إسرائيل”.[12] ثمة ما هو كامن خلف الأكمة كما يُقال. ولعل في شهادة آفي شلايم عن حديثه مع والدته ما يختصر الكثير. يقول شلايم: كانت والدتي التي توفيت عن عمر يناهز السادسة والتسعين في “إسرائيل”، عام 2021، كثيرًا ما تتحدث عن أصدقائها المسلمات. كانوا من المقربات اللواتي يرتدن بيتها في بغداد على الدوام. يقول ذات يوم، وبعد أن كانت قد تجاوزت التسعين من عمرها، سألتها إن كان لديها أي من الصديقات الإسرائيليات الشبيهات بصديقاتها في بغداد. يقول شلايم: رمقتني والدتي بنظرة تشير ضمنًا إلى أنني سألتها سؤالًا غريبًا، ثم ردت بشكل قاطع: “لا، الصهيونية شيء أشكنازي. لم يكن له علاقة بنا […] لقد كانت هجرتنا إلى صهيون ضرورة، وليست خيارًا استراتيجيًا”. يضيف شلايم: عادة ما توصف الهجرة إلى “إسرائيل” بالـ”عالياه” أو “الصعود”. في حالتنا كان الانتقال من العراق إلى “إسرائيل” نزولًا إلى أسفل السلم الاجتماعي والاقتصادي. لم نفقد ممتلكاتنا ومملكتنا فحسب، بل لقد فقدنا أيضًا إحساسنا القوي بهويتنا كيهود وعراقيين فخورين، حيث تم إبعادنا إلى هامش المجتمع الإسرائيلي.
[1] Avi Shlaim (2023), Three Worlds: Memoirs of an Arab-Jew, One world Publications.
[2] بحسب الدكتور أحمد سوسة، يعود تاريخ الوجود اليهودي في العراق إلى ما قبل ذلك التاريخ. فقد “مر تاريخ اليهود بالعراق القديم في ثلاث مراحل: تمثل المرحلة الأولى أقدم وجود لهم في شمال العراق حين جاء بهم الآشوريون إلى آشور، وهذه ترجع – برأيه – إلى القرن الثامن قبل الميلاد، ثم تلاها المرحلة الثانية حين جاء الكلدانيون بهم كأسرى أيضًا إلى بابل في أوائل القرن السادس قبل الميلاد. أما المرحلة الثالثة، فترجع إلى صدر الإسلام حين نزحت قبائل العرب المتهودة في عهد الخليفة عمر بن الخطاب من جزيرة العرب إلى العراق وسورية في القرن السابع الميلادي”. راجع: أحمد سوسة، حياتي في نصف قرن، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 1986، ص 80.
[3] كان العراق جسرًا بريًا مهمًا بين مصر والهند. وخوفًا من وجود رأس جسر مؤيد للنازية في الشرق الأوسط وفقدان السيطرة على حقول النفط العراقية، أمر تشرشل بعمل عسكري قوي. وبناءً على أوامره، هبطت وحدة من الجيش الهندي في البصرة بينما تم إرسال قوات الفيلق العربي بقيادة بريطانيا عبر ألف كيلومتر من الصحراء من الأردن. وتقاربت القوتان في زحفهما إلى بغداد بحركة الكماشة… وفي 31 أيار/ مايو، تفاوض السفير البريطاني في العراق، كيناهان كورنواليس، على هدنة مع القوات العراقية. الإشكالية أن القوات البريطانية استقرت على مسافة ثلاثة عشر كيلومترا على الجانب الغربي من نهر دجلة ولم تدخل بغداد تجنبًا لإعطاء انطباع بأن الوصي قد عاد إلى السلطة “على الدبابة البريطانية”. وقد سمحت الهدنة للجيش العراقي المندحر أمام البريطانيين من دخول الجانب الشرقي من دجلة، والذي يقطنه غالبية اليهود. وهكذا تم التخلي عن اليهود وتركهم تحت رحمة الجنود المهزومين، والساعين للانتقام. وخلال الفترة التي تلت، وقعت كارثة على شكل مذبحة عنيفة ضد الطائفة اليهودية في بغداد، وقد باتت تُعرف بمذبحة “الفرهود”. راجع آفي شلايم، ثلاث عوالم؛ مذكرات يهودي عربي. ص 77 – 79.
[4] ساسون سوميخ، بغداد أمس، دار المشرق للترجمة والطباعة والنشر، شفاعمرو 2011، ص 106.
[5] ساسون سوميخ، المرجع السابق، ص 216، 217.
[6] أقرّ آفي شلايم في كتابه ثلاث عوالم أن للموساد دخالة في تهجير اليهود العراقيين. راجع: https://www.middleeasteye.net/news/avi-shlaim-proof-israel-zionist-involvement-iraq-jews-attacks
[7] توجز إيلا شوحيط أسباب خروج اليهود من العراق بتسع نقاط: “1- الجهود التي بذلتها الحركة الصهيونية السرية في العراق لتشويه سمعة الزعامة التقليدية لليهود العراقيين ورؤساء الطائفة، كالحاخام ساسون خضوري الذي لم يكن مشاركاً في النسخة الجديدة من اليهودية. 2- محاولاتها لدق إسفين بين اليهود والمسلمين في هذا البلد. 3- مأسسة الممارسات العربية العنصرية تجاه اليهود. 4- الحملة الإعلامية الشعواء ضد اليهود خصوصاً من قبل حزب الاستقلال. 5- تحفّظ معظم النخب العربية المثقفة عن الجهر بالتمييز بين اليهود والصهاينة. 6- إخفاق القيادات العربية بالحفاظ على مكان لليهود في الدول العربية. 7- اعتقال الشيوعيين، وبينهم يهود، ممن كانوا مناهضين للفكرة الصهيونية. 8- الاتفاقات السرية بين بعض القيادات العراقية والإسرائيلية على إجلاء اليهود إلى “إسرائيل”. 9- الالتباس، لدى قسم معتبر من اليهود العرب، حول الفارق بين هويتهم الدينية وانتمائهم وعاطفتهم، وبين مشروع الدولة القومية للصهيونية الذي قُدم على أساس رؤية علمانية أورومركزية تتماهى في الوقت نفسه مع الخطاب المسيحاني”. راجع: إيلا شوحيط، سنة التسقيط: سبعون سنة على رحيل يهود العراق، 22 تشرين الأول/ أكتوبر 2020، https://orientxxi.info/magazine/article4231
[8] سامي ميخائيل (15 آب/ أغسطس 1926 – 1 نيسان/ أبريل 2024): كاتب يهودي إسرائيلي عربي، هاجر من العراق إلى “إسرائيل” عام 1949. ومنذ عام 2001، شغل منصب رئيس جمعية الحقوق المدنية في “إسرائيل”. وكان من أوائل المنادين في “إسرائيل” بإنشاء دولة فلسطينية مستقلة.
[9] معبروت خيرية، هو مخيم إسرائيلي أقيم فوق أطلال القرية العربية المدمرة خيرية، لاستيعاب المهاجرين من المستطونين الجدد في “إسرائيل”. والمعبروت عبارة عن مخيمات سكن مؤقتة أقيمت خصيصاً لاستيعاب أفواج المهاجرين في “إسرائيل” سنوات الخمسينيات، وتعود فكرة إقامة المعبروت إلى ليفي أشكول (ثاني رئيس حكومة في “إسرائيل”) حينما كان رئيساً للقسم الاستيطاني في الوكالة اليهودية، وغايتها توفير احتياجات المهاجرين للسكن قبل أن يتمكنوا من الانتقال إلى بيوت ثابتة. وعلى خلاف مخيمات المهاجرين الأولى، التي سبقتها، والتي وفرت فيها الوكالة اليهودية المبيت والمأكل للمهاجرين، فإن المهاجرين في المعبروت طولبوا بإعالة أنفسهم بقواهم الذاتية في ظل انعدام فرص عمل ملائمة، ومع شح الموارد، مما خلق حالات فقر وفاقة مدقعة بينهم وأسهم لاحقاً في تثبيت التراتبية الطائفية في “إسرائيل” وفي توسيع الفجوات الحياتية بين الشرقيين والأشكناز.
[10] Reuven Snir, “if I forget thee, O Baghdad: the desmise of arab-jewish identitiy and culture,” University of Haifa.
[11] بدأت حركة الخيام في عام 1976. قاد يامين سويسا اليهود الشرقيين للاحتجاج على ظروف السكن ونقصه في حي القطمون في القدس من خلال احتلال شقق شاغرة تم بناؤها للمهاجرين الروس الجدد. وبحلول عام 1981، نظموا مخيمًا كبيرًا من الخيام لرفع الوعي بشأن الإسكان والتعليم والأجور والثقافة، والتناقضات التي تترتب على بناء الحكومة الإسرائيلية لمستوطنات جديدة تحت الاحتلال بينما لا تقدم أي شيء للمجتمعات اليهودية الشرقية الفقيرة. و بالمجمل شكلت حركتا الخيم والفهود السود في سبعينيات القرن العشرين، وعلى الرغم من اختلاف مشاريعهما السياسية، المثالين الرئيسيين للنشاط الشعبي الشرقي. فحركة الخيام التي تم تعريفها على أنها “حركة اجتماعية حضرية”، كانت وقد وجّهت انتقادًا شاملًا للوضع الاجتماعي والسياسي الحضري المتعلق بالتعليم والإسكان والخدمات العامة. ولم تعالج هذه الحركة القضايا المحلية فحسب، بل حاولت في بعض الحالات توسيع نضالها إلى مستوى أكبر من خلال وجهات نظر عالمية. لقد لعبت حركة الخيام (أوهاليم) دور المظلة لمجموعات الأحياء المحلية في منطقة القدس خلال حرب تشرين 1973، وعلى عكس الفهود السود، تماهت حركة الخيام أكثر مع القضايا المحلية من خلال الرابط القوي بين الهوية والمحلية. وعلى الرغم من هذا الارتباط العميق بالمصالح المحددة لمجتمعاتهم المحلية، فقد ساروا على خطى الفهود السود. بعبارة أخرى، حاولوا توسيع نطاق الوضع المهمش للمزراحيم ليشمل المجتمع الإسرائيلي ككل. راجع: Giulia Daniele, Political and social protests from the margins: the role of Mizrahi Jews in Israeli grassroots activism, https://doi.org/10.4000/etnografica.6506 كذلك راجع: Jews from the Middle East Fact Sheet, JEWISH VOICE FOR PEACE FACT SHEET, https://www.jewishvoiceforpeace.org/wp-content/uploads/2015/07/JVP-Jews-of-the-middle-east-fact-sheet.pdf
[12] Stephanie Schwartz (2012), Double-Diaspora in the Literature and Film of Arab Jews, University of Ottawa, نقلاً عن:Shohat (1999: 1): cites an unconfirmed news report in the London Sunday Times that claimed the Institute for Biological Research in Israel was involving Iraqi Jews in research for an ethnic, gene based biological weapon that might be to be used against Saddam Hussain’s regime: Uzi Mahnaimi and Marie Colvin, “Israel Planning Ethnic Bomb as Saddam Caves In,” Sunday Times, 15 November.