من يتابع السياسة الدولية، في علاقتها بالحرب العدوانية البريّة والحرب الإبادية التي أوغلت بالقتل الجماعي للمدنيين في قطاع غزة، قد يصل في الحكم عليها إلى أنها سياسة دولية مقلوبة على رأسها. وذلك بمعنى خروجها عن ما يعتبر قوانين في فهم العلاقة الصهيونية بكل من أمريكا وأوروبا.
أولًا، أو مثلًا، من المعروف أن الكيان الصهيوني صنيعة غربية جيء به إلى فلسطين ليلعب دورًا محدّدًا في خدمة استراتيجية بريطانية تشكّلت في العام 1840، بعد التجربة المريرة التي مرت بها بريطانيا لعشر سنوات في الصراع مع محمد علي الكبير في مصر. فقررت بعد هزيمته، من خلال أوروبا التي توحدّت ضده، أن يُقام حاجز بشري غريب يحول دون وصول مصر، مرة ثانية، إلى المشرق العربي، وصولًا إلى الآستانة، عاصمة الدولة العثمانية في حينه.
ثانيًا، بعد قيام دولة الكيان الصهيوني (إسرائيل) تعهّدت أمريكا، والغرب كله، أن تجعل جيشه أقوى جيش في المنطقة. وذلك ليلعب دوره في خدمة الاستراتيجية الغربية، إزاء الدول العربية، وبخاصة مصر. وبالفعل، أدى تلك الوظيفة عمومًا، ولكن خصوصًا بإنزاله ضربة عسكرية قاصمة للظهر ضد حركة التحرّر العربي بقيادة مصر عبد الناصر عام 1967.
على أن الذي لم يكن ملاحظًا جيدًا من قِبَل كثير من المحللين، أن للكيان الصهيوني مشروعه الخاص أيضًا، وليس مجرد قاعدة للإمبريالية، أو جزء من المشروع الكولونيالي في المنطقة. وهذا ما تنبّه له الإمام الخميني مبكرًا، وذلك عندما اعتبره “غدّة سرطانية” في جسم الأمّة، ومن ثم يجب أن يُعامل كمشروع قائم بذاته، وذلك فضلًا عن علاقته بـ”الشيطان الأكبر” في أمريكا وخدمته لها.
أما اليوم، وخلال عشرة أشهر، بعد السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، فقد تبيّن أن نتنياهو والقرار الإسرائيلي المطبّق رسميًا، ذهبا إلى علاقة مزدوجة بأمريكا، من خلال التماهي والتباعد النسبي، في آن واحد، ولكن مع خضوع بايدن لرغبة نتنياهو، وذلك مع بروز درجة من الفتور بينهما.
وقد اختلف المحللون في قراءة هذا التباعد. فالبعض اعتبر هذا التباعد اختلافًا جادًّا ضمن العائلة الواحدة، واعتبره بعض آخر أقرب إلى “التمثيل” المسرحي، أو الخداع، من جانب بايدن الذي لم يتوقف، عمليًا، عن إمداد الجيش الصهيوني بالسلاح، وخاصة بالذخائر، بما فيها القذائف الأكثر تطورًا وتدميرًا، كما تغطيته سياسيًا.
ويمكن أن يضاف إلى دعم نظرية “التمثيل”، أو التقليل من أهمية التباعد وجدّيته، ما تبنته إدارة بايدن في مسار التفاوض لوقف إطلاق النار، أو لتبادل الأسرى، من انحياز لموقف نتنياهو، كما تجلى في زيادتها للمطالب التي تعرقل التوصل إلى اتفاق. وذلك بهدف الاستمرار بحرب الإبادة، والحرب البريّة، كما يريد نتنياهو. وإلّا كيف يفسّر استمرار حربٍ، اعتبرت عبثية من الناحية العسكرية، حيث ثبات غلبة المقاومة في الحرب البريّة، وحيث فقدان أي أمل بربحها، من جانب نتنياهو والجيش الإسرائيلي، كما اعترف غالانت بذلك علنًا؟ وكيف يفسّر الإمعان بحرب إبادة، مردودها سلبي على الكيان الصهيوني وأمريكا، وحتى على الحضارة الغربية ككل.
هاتان النتيجتان لاستمرار الحرب التي سعى إليها نتنياهو وفرضها، ما كان لقيادة صهيونية تراعي موازين القوى، أن تقبل بهما. وما كان لقيادة أمريكية تحكم على السياسة، وفقًا لنتائجها، خصوصًا حين تتفاقم الخسائر، بأن تقبل بهما، ولمدى عشرة أشهر تقريبًا. فهاتان النتيجتان (خسارة الحرب البريّة، والمردود المدمّر لحرب الإبادة) بل أن يقبل بهما، حتى نتنياهو الذي فقد صوابه وتوازنه، بسبب ما وقع من زلزال في الكيان الصهيوني، في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، كما بسبب خوفه، من الانتهاء بالسجن، في حال توقف الحربين: الحرب البريّة وحرب الإبادة.
أمّا جانب الرئيس الأمريكي جو بايدن، فما كان لرئيس أمريكي أن يكون، بمستوى الضعف الذي أبداه بايدن إزاء نتنياهو. علمًا أن موقف بايدن في هذا الخلاف، يعبّر عن موقف أمريكي، أكثر حرصًا على الكيان الصهيوني، في التوصل إلى اتفاق من خلال المفاوضات الجارية.
لو وضعنا نظرية التمثيل المسرحي جانبًا، وغلبنا جديّة الاختلاف في السياسة، لكان شبيهًا لما يحدث دائمًا داخل الجبهة الواحدة، وحتى القيادة الواحدة، وحتى في موقف القائد الواحد حين يواجه خيارين، يحار في ما يختار منهما.
على أن الأخذ بهذه النظرة، إلى ما ظهر من تباعد في سياسة كل من نتنياهو وبايدن، توجبان التوقف أمام خضوع بايدن، لما يريده نتنياهو. وقد وصل إلى حدّ يسمح بالتشكيك، بأن بايدن يتبنى سياسة نتنياهو. وهو ما مورس عمليًا طوال الأشهر العشرة الماضية.
هنا تكون السياسة الأمريكية في عهد جو بايدن، تقف على رأسها. لأن من المفترض، أو من الواقعي، أن يتبع نتنياهو والقيادة الإسرائيلية لإرادة أمريكا، وهي الحامية عسكريًا، والداعمة اقتصاديًا، والمغطية سياسيًا. وهو ما تكرّر، مرة بعد مرة، خلال إقامة الكيان الصهيوني، مثلًا في العام 1956، حين أجبر الرئيس الأمريكي أيزنهاور، الجيش الصهيوني على الانسحاب من سيناء، أو حين فرض الرئيس الأمريكي جورج بوش (الأب) على شامير المشاركة في مفاوضات مدريد 1991.
على أن في عهدَي جو بايدن رئيسًا للولايات المتحدة، ونتنياهو رئيساً لوزراء الكيان الصهيوني، انقلبت الآية، إذ أصبح نتنياهو هو الذي يفرض على بايدن سياسته. وقد رمى نتنياهو، في ما رمى إليه وراء اغتيال الشهيدين القائدين فؤاد شكر وإسماعيل هنية، بأن يردّ حزب الله وإيران على الجريمتين، بما يناسبهما، لكي يردّ بدوره على الردّ، وهكذا، وبهذا يجرّ أمريكا إلى التورّط معه، في حربٍ إقليمية كبرى. عندما يصل نتنياهو إلى هذا المستوى في توجيه الأحداث، وتسمح له أمريكا بذلك، أي تسمح بأن يجرّها، ويجرّ أوروبا، إلى حرب إقليمية، فهذا يعني أن السياسة بين الكيان الصهيوني وأمريكا والغرب، قد انقلبت، لتقف على رأسها.
أي: بأي منطق يقود نتنياهو أمريكا والغرب إلى الحرب، ويقبلان، بدلًا من أن يكون العكس، أي خضوعه لهما، هو الأصل.