يحاول الصهاينة، منذ النكبة حتى اليوم، تحويل عملية الإبادة والتطهير العرقي إلى حدث تاريخي انتهى، وكأنه كان شرًّا لا بدّ منه اكرهوا عليه. وهي محاولة للهروب إلى الأمام عن كون عملية الإبادة تنبت في صلب الأيديولوجيا الصهيونية، وما كان لـ”الدولة” أن تقوم وتستمر بدون استمرارها وصولًا إلى محو المجتمع الفلسطيني، وتحقيق النموذج الكامل لمشاريع الإبادة البيضاء الأمريكية والكندية والأسترالية وغيرها.
واقع الأمر أن مقاومة الفلسطينيين المستمرة والدؤوبة للمشروع الصهيوني جعلتهم يواجهون معضلة مستمرة؛ فهم غير قادرين على إبقاء “الدولة” بلا الاستمرار في عملية الإبادة، وبالتالي أصبح التطهير العرقي للفلسطينيين غير مرتبط حصرًا بجيل المؤسسين الصهاينة يبرّرونه كعادتهم بأن “عملية قيام الدول مسألة دموية“. فلكل جيل صهيوني في فلسطين حصة في الإبادة: من النكبة إلى غزة مرورًا بجميع المجازر والتهجير بينهما. وهو ما جعل الأدلة الموضوعية على دور الصهاينة اليهود كجزارين وقتلة تتحول إلى سمة مصاحبة لكل الأجيال داخل المجتمع الصهيوني نفسه، رغم محاولتهم إنكارها.
كان لفظ “الحيوانات البشرية” على لسان وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت، من أول الألفاظ التي استخدمت في إعلان الحرب على غزة في أكتوبر الماضي لتبرير الحرب والإبادة بشكل استباقي، وهو لفظ يعاد تدويره وصياغته في التجارب الاستعمارية عامة، ولنا في استعمار أفريقيا خير شاهد على ذلك. في حين يدافع المستعمَر دومًا عن نفسه لإثبات أن عنفه الثوري هو عنف شرعي وأخلاقي وهو نقيض لعنف المستعمِر اللاأخلاقي، يشرح الكاتب والشاعر الأفريقي إيميه سيزير في “خطاب عن الاستعمار” عن عملية تجريد المستعمِر من إنسانيته، حيث يقول إن تقبّل الفظائع التي يرتكبها الفرنسيون مثلًا في أفريقيا تحوِّل المستعمِر إلى قاتل يعتاش على إشباع غرائزه البدائية فيتلذذ في القتل والاغتصاب والتعذيب والسجن والاستعباد، أي أن الاستعمار يحول المستعمِر إلى كائن غير حضاري وبربري، وهو ما ينعكس اليوم بكل وضوح على الهوية الصهيونية.
فحين يدخل الصهيوني إلى مخيم جباليا ويقتل ويعذّب كبار السنّ بكل الأساليب، ويمعن في الإجرام، ويغتصب أسرى غزة، ويستمر في قتل الفلسطينيين بطرق تفوق التصور البشري، يتحول هو نفسه إلى حيوان بشري على عكس ما يدعيه عن الشعب الخاضع للاستعمار. وفي حين يحاول الصهاينة إيهام العالم أن القتل ضرورة أو وسيلة لمحاربة “أبناء الظلام”، يمكن أن نرى كيف أن الممارسات الصهيونية داخل غزة تنافي ما يدعونه في إعلامهم الرسمي وخطاباتهم، فالاحتفاء بالمجزرة، وتوثيقها، وأخذ صور تذكارية، والعبث بخصوصيات أهل غزة، هو دليل صارخ على تجرد الجندي الصهيوني من كل السمات الإنسانية ومن كل الأخلاقيات الأساسية التي تمنع تطبيع القتل واسترخاص الروح البشرية.
للمجازر أثر نفسي واضح على الشعب الفلسطيني، لكن ذلك الأثر النفسي يقابل بزيادة دافع الانتقام والمقاومة واستمرارية الصمود. لكن، ومن جهة أخرى، فإن الأثر النفسي الواقع على المجتمع الصهيوني وصل إلى حد عدم قدرة تبريره للذات، فالصور الدموية تلتصق بكل الأجيال منذ النكبة حتى اليوم. ووصلنا إلى مرحلة تاريخية أدرك فيها العقل الجمعي الصهيوني أكثر من أي وقت مضى، وأدرك فيها العالم كذلك، أنه لن يستطيع تحقيق أي هدف سياسي، قصير المدى أو طويل المدى، من دون العودة إلى الأساس الفكري والأيديولوجي الإبادي للصهيونية، التي ظنت أنه بإمكانها الوصول إلى مرحلة من الاستقرار في الأرض المحتلة إلى درجة نشوء تيارات تعبر عن حالها ”مابعد صهيونية” (وهي مختلفة عن المعادية للصهيونية).
وعليه، فإنّ حال الصهيونية اليوم، ومع العجز أمام الصمود الأسطوري للمقاومة وحاضنتها، تجد نفسها في وضع تكون فيه الحرب بذاتها هدفًا سياسيًا وغاية لا وسيلة، في ظل عجزهم عن إيجاد توليفة سياسية وفكرية للتصرف على أرض فلسطين ما بعد 7 أكتوبر. وهذا، حتى باعتراف الصهاينة أنفسهم، إذ يقول عامي أيالون، وهو رئيس سابق لـ“الشاباك“، في مقابلة على “سي أن أن” أن ”اليهود يفقدون هويتهم كبشر بسبب الحرب على غزة“، موضحًا وقع الحرب نفسيًا على المجتمع الصهيوني الذي يرسل جنوده وأبناءه للقتل والتعذيب داخل غزة وفي الضفة وداخل السجون، ويشير إلى أنه ومن عهد رابين فإن سياسة ”تكسير العظام“ الصهيونية لم تكن تمثل ظاهرة عسكرية لجيش نظامي حديث، بل كانت ظاهرة اجتماعية وسياسية وليست تصرفات دولة ومؤسسات، بمعنى آخر: إنها خارج الحضارة والحداثة.
ما أراد قوله أيالون أنه وكما مع سياسة ”تكسير العظام“، فإن القناع الحداثي الدولتي لـ”إسرائيل” قد انكشف، وأمست الصهيونية عارية تمارس توحّشها على مرأى الجميع منها واليهود الصهاينة أنفسهم. وبالتالي، يخسر اليهود الصهاينة كل السمات الإنسانية ويتحولون لمحض قتلة بدون أدنى أخلاقيات أو أدبيات عسكرية، وبلا هدف سياسي أو حضاري، أي أنه قتلٌ لأجل القتل. ويمكن أيضًا هنا فهم شهادات الجنود العائدين من غزة المصابين بصدمة، أو حتى من أقدم منهم على الانتحار في سياق كره الصهيوني لذاته، لأنه ثبت أنه قاتل على عكس ما يدّعيه من حضارة وتفوّق أخلاقي مقارنة بالمستعمَرين. ولعلّ ذلك تعريف أدق للفظ “الحيوانات البشرية“.
بالتالي، فإن تلك الصورة تترجم اليوم في خوف الصهاينة من قرارات المحكمة الدولية، أو التقارير الإعلامية التي تفضح فظاعة المجازر في غزة بعد خسارتهم لحرب الاعلام والصورة لصالح الفلسطينيين، لأن جوهر الأيديولوجيا الاستعمارية قائم على التفوق الحضاري والديمقراطية والإنسانية، وقد تم نسفها وفضحها تمامًا بعد السابع من أكتوبر، بعد سنوات من جهود الصهاينة في إخفاء آثار النكبة وتاريخ الإبادة. ويمكن فهم ما نقوله في أدبياتنا الفلسطينية أن كل ما زاد عنف الصهاينة وكلما أمعنوا في قتلنا اقتربت نهايتهم في سياق انهيار صورة المجتمع الصهيوني وأخلاقياته وعدم قدرته على تبرير ما يقوم به لذاته.
بالعودة إلى سيزير، هو يربط تقبّل الأوروبيين لفظائع الاستعمار بظهور الفاشية في صفوفهم داخل أوروبا، فيربط تحديدًا بين هتلر كظاهرة والنازية كأيديولوجيا وبين الاستعمار، منطلقًا من فكرته الأساسية أن تطبيع القتل والتعذيب والاغتصاب في ذهن المستعمِر يحوّله إلى قاتل مجبر على إشباع غرائزه. بالتالي، فإنّ تقبّله للفظائع خارج حدوده يتحوّل إلى هوية تنزع عنه كل معاني الحضارة وأخلاقياتها، فتتحول القارة الأوروبية مثلًا إلى قارة همجية ظلامية، مما يرتد على مجتمعاتها الداخلية ويطبُّع العنف والإبادة والقتل داخليًا. ولعل خوف الأوروبيين من عودة اليهود الى أوروبا يثبت نظريته، لأن نظرة العالم أجمع، ومن ضمنه الأوروبيين، لليهود الصهاينة، اليوم، أنهم قتلة سفّاحون، لا يمكنهم العودة والاستقرار بين الشعوب الأوروبية. ورغم أن أدبيات الإبادة هي من ركائز الفكر الصهيوني، إلا أن الاحتفاء بها وتبنيها وهم مغادرين أوروبا ليس كعودتهم إليها بنفس أدبيات وأيديولوجيا الإبادة. وإن تخيلنا نهاية المشروع الصهيوني وعودة الصهاينة إلى أوروبا، يمكن القول مرة أخرى أن السابع من أكتوبر لم يقلب الطاولة على العدو فقط، بل أنه استطاع تفكيك الأيديولوجيا الصهيونية وفضحها وإدخال الكيان الصهيوني ومجتمعه على امتداد أجياله وطوائفه السياسية، في أزمة وجودية، وأخلاقية، وإنسانية وحضارية.