هنالك فلسفة، ونظرة إلى العالم، تشكّك بوجود حقيقة يقينية في هذا العالم. وهي، ومعها فلسفة أخرى، تعتبر الحقيقة نسبية أو الحقيقة ونقيضها، توأمان لا يفترقان. ثم النظريات التي تدخل ضمن هذا الإطار.
والسؤال البدهي: هل ثمة حقيقة في فهم الظواهر الطبيعية والمناخية التي حولنا، مثلًا هل الصفات الخارجية تعيينية وحقيقية، مثلًا معرفة الفصول الأربعة الصيف والشتاء والربيع والخريف، بمعنى وجود الحرارة والبرودة، أو مثلًا وجود العطش أو الارتواء، أو الموت والحياة. هل هذه محدّدة بالحقيقة التي تمثلها، حتى لو كان ثمة جهلًا ولا معرفة، في ما يتعلق بما هو خارج ظاهرها، أو ما هو في داخلها. هنا ثمة إمكان للحديث عن حقيقة يقينية، ولو بحدود محددة، وغير مطلقة.
ما نراه أمامنا من طائرات وطيرانها، أو سيارات وقطارات وما شابه، حقائق يقينية، وإلّا كيف أمكن صناعتها واستخدامها. وكيف يمكن التشكك في الحقيقة المتعلقة بها إلى حدّ اليقين.
الخلاصة هنا، أن ثمة حقيقة أو حقائق يقينية لا يمكن أن تسمح بالقول أن “لا حقيقة يقينية” في هذا العالم. وذلك من دون القول أن ثمة ظواهر، لا سيما في عالم الإنسان، يدخل في الغموض والضبابية واللايقين. فما دام هذا البُعد لا يستطيع أن ينفي الحقيقة، في مئات وآلاف الظواهر التي تدخل في عالم الحقيقة واليقين، فهو بُعد قائم بذاته.
لنقل أن العالم المادي والطبيعي من حولنا، لا يمكن التشكيك في وجوده أو التشكيك في اعتباره حقيقة يقينية إلى حدّ إعادة تصنيع عناصره، واستخدامها كالطائرات والسيارات والقاطرات، وما شابه من العالم المادي الموضوعي، يعني أن هذا العالم يعج بالحقيقة، بل وبمعرفتها وإعادة إنتاجها، أو إنتاج ما لم يكن موجودًا عدا مادته. مثلًا كل مكوّنات الطائرة موجودة، بل مأخوذة ومصنعة من مواد وجودها حقيقة من جهة، ومن ثم استخدامها لتصبح طائرة أو سفينة، أي حقائق يقينية. بل أكثر يقينية من وضعها الأولي الطبيعي.
وإن من لا يعترف بالوجود المادي، والظواهر المادية، وعدم اعتبارها حقيقة يقينية، يجب أن يشك بعقله، قبل أن يُدحض.
الذين يعتبرون أن لا حقيقة هناك، أو معنى، أو هدف، ولعل جزءًا من هذه المواقف ينتمي إلى بعض فلسفات ما بعد الحداثة، وثمة جزء اعتبر الحياة عبثًا، أو بلا جدوى، وبلا معنى، هذه النظريات أو الفلسفات تساوي بين الخير والشر، بل لا تعتبر أن ثمة شرًا وخيرًا، وإنما كل الأعمال متساوية، أو مبررة، أو لا مبرّرة، ولا مجال في الحكم بينها، بل ترك الحكم بينها، لعدم إمكانه.
هذه النظريات لا ترى، ولا تقبل، أن يُقرأ العالم بأنه ينقسم إلى ظالمين، وعلى التحديد الغرب أو الرأسمالية الاستعمارية الغربية، وإلى شعوب مظلومة منهوبة مستضعفة. وهذه حقيقة يقينية معيشة، وتاريخية مثبتة منذ القرن السادس عشر. وتشهد عليها المذابح التي تعرض لها الهنود الحمر (120 مليونًا) في أمريكا الشمالية، والتي تعرض لمثلها السكان الأصليون في أمريكا اللاتينية، وفي كثير من الجزر، كما شعوب من آسيا وأفريقيا.
هذه الظاهرة لها تاريخ عمره خمسة قرون. وهي شاهدة قائمة حتى اليوم، ولا مجال لنكرانها، أو عدم الاعتراف بها، حقيقة يقينية. بل وليس ثمة بدّ من إنزال الحكم الأخلاقي والإنساني، على ما تمثله من ظلم، وجرائم، بحق مئات الملايين من البشر.
وإذا كان الموقف الصحيح والعادل، وما فيه مصلحة للإنسانية، أن يلتزم الإنسان في النضال لإنقاذ العالم من شرّها الدائم والمستقبلي والمستطير، فعلى الأقل يجب أن يلتزم الصمت، ولا يحاول تجاهلها، والذهاب إلى طرح رؤية تتنكر لوجود حقيقة يقينية، وبالخصوص حقيقة الظلم العالمي لغالبية شعوب العالم، تحت الدعوى عدم وجود حقيقة يقينية، من خلال نظرة عامة.
أما إذا جئنا إلى القضية الفلسطينية المتمثلة بوجود الكيان الصهيوني الذي راح يتشكل سنة 1917، بعد الحرب العالمية الأولى، واحتلال الاستعمار البريطاني لفلسطين، وما تم من هجرة يهودية تحت حماية الحراب البريطانية، والتي قادتها الحركة الصهيونية التي استهدفت بالتحالف مع الغرب عمومًا، وبريطانيا، خصوصًا، إقامة ما سمّته “الوطن القومي لليهود”، وذلك من خلال استيطان فلسطين واقتلاع شعبها (اقتلع ثلثا الشعب الفلسطيني في حرب 1948/1949) وتهجيره، والحلول مكانه في بيوته وأراضيه وقراه ومدنه، مما سمح بإقامة “دولة إسرائيل” المدججة بالسلاح والذاهبة إلى ارتكاب جرائم الاستيطان والاقتلاع والإحلال. ثم تمكين الغرب لهذه “الدولة” لتتفوّق في ميزان القوّة العسكرية على دول المنطقة. بل لتبلغ من القوّة العسكرية حدًّا، لتصل إلى الدرجة الخامسة، أو الرابعة، بين جيوش العالم.
فالكيان الصهيوني الذي شنّ حرب العدوان عام 1967، أتمّ احتلال كل فلسطين، حيث تركت حرب 1948/1949 حوالي 20% من فلسطين، خارج سيطرة الكيان الصهيوني.
هذا الظلم الصارخ الذي حلّ في فلسطين، ونكب شعبها، وأنزل فيه، على مدى أكثر من 75 عامًا، ما لا يحصى من جرائم المجازر والقتل والسجون والتعذيب والتشريد، (هذا الظلم) حقيقة موضوعية عيانية تاريخية، وحاضرة، ومستمرة، وصلت اليوم في حرب العدوان في قطاع غزة، إلى ارتكاب جريمة إبادة للشعب وتدمير للعمران، وعلى مشهد من العالم كله، ما لا مثيل له بين جرائم جرائم الإبادة (القتل الجماعي) في القرن العشرين والعشرية الثالثة من القرن 2021.
إذا كان من الممكن أن يشكك بالنكران، أو التمييع، أو الضبابية بما هو قائم من ظلم غربي لشعوب العالم، أو إذا كان من الممكن أن يشكك في وجود حقيقة يقينية، بالنسبة لأيّة قضية من قضايا العالم، فإن القضية الفلسطينية تنفرد بما تمثله من حقيقة يقينية لمظلومية لا جدال فيها. بل تصل حقًا إلى يقينية، لنقل شبه مطلقة، وليقينية بضرورة الانحياز لها على مستوى عالمي، ولا سيما العربي والإسلامي. فكيف بالفلسطيني الذي يعيش كل فرد فيه، بغض النظر عن وضعه ومكانه، موقفه، هذه الحقيقة (الشرّ المطلق الذي مثّله المشروع الصهيوني في فلسطين).
لقد وصل الأمر لهذا الشرّ المطلق بأن راح يرتكب جرائم إبادة في القتل الجماعي لشعب غزة، وبأغلبية من الأطفال والنساء، بل إبادة قائمة بذاتها ومقصودة، لذاتها. مما يفقده أيّ مسوّغ، ومما يجعل هذا الشر المطلق، لا يُعالَج إلاّ بوقفه، وفرض تحرير فلسطين، وإنهاء الوجود الصهيوني، بالرحيل إلى حيث شاء في بلاد الغرب.
أما نحن الفلسطينيين فلا مفرّ لنا من التمسّك بعدالة قضيتنا، والانحياز لها، ولا بطرح أيّة مساومة حولها. فنحن أمام حقيقة يقينية مطلقة لا تقبل التشكيك فيها، أو تمييعها، بأيّ فكر، أو موقف ضبابي، يربطها بما قد يكون عليه من ضبابية (تشكيك بوجود حقيقة) في أيّة قضية أخرى، أو بالنسبة إلى أيّة فلسفة تشكك بوجود حقيقة في هذا العالم.
وإذا خرجنا من إسار النظريات المغلوطة في رؤية العالم، ولا سيما رؤية الظلم العالمي الذي يمارسه الغرب بحق الشعوب التي كانت المستعمرات سابقًا، في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، فإن الموقف من قضية فلسطين: عدم شرعية الوجود الصهيوني، لا يقتصر على تثبيته شرًا مطلقًا، كحقيقة يقينية فحسب، وإنما أيضًا يمثل البُعد الأخلاقي والإنساني والعادل والحق. فهو يستحق كل التزام وشجاعة وشرف وتضحية. وناهيك عمن ينطلق من العقيدة والدين والإيمان.
إن التركيز هنا على الفلسطيني، وليس على الفلسطيني والعربي والإسلامي والحر، يرجع لما ظهر من بعض الفلسطينيين من مواقف يندى لها الجبين، فضلًا عن ميل البعض للهروب من الالتزام الفلسطيني، في عدم المساومة مع الوجود الصهيوني الذي آن الأوان، ولا سيما بعد جرائم الإبادة في غزة، أن يشدّد على لا شرعية هذا الوجود من حيث أتى.