نقلت “إسرائیل” الحرب في المنطقة إلى مستوى جديد، بعد عملیتي الاغتیال اللتین وقعتا يوم 30-7-2024 وفجر اليوم التالي،/ في ضاحیة بیروت الجنوبیة، وأدّت إلى استشھاد رئیس أركان حزب الله، فؤاد شكر، ورئیس المكتب السیاسي لحركة حماس، اسماعیل ھنیة في طھران.
العملیتان حصلتا بعدما خفّت وتیرة القتال في قطاع غزة، وانتقال العدّو – من دون إعلانه ذلك رسمیًا – إلى المرحلة الثالثة من الحرب، التي تتمركز حالیًا في محوري “نتساریم” (وسط القطاع) و”فیلادلفیا” (جنوب القطاع)، وتنطلق قوات العدّو منھما لشن عملیات عسكریة مُكثّفة لأیّام. ما جرى لیلة الاغتیالین، من تجرّؤ “إسرائیل”على خرق قواعد الإشتباك مع المقاومة الإسلامیة في لبنان بحجة الردّ على سقوط صاروخ في ملعب في مجدل شمس (الجولان السوري المُحتّل) وسقوط شھداء، فضلاً عن انتھاك سیادة إیران باغتیال ضیفھا إسماعیل ھنیة بصاروخ موجّه في مقر إقامته في طھران، نقل المواجھة إلى مرحلة جدیدة، قد یتبادل خلالها الأطراف الضربات العسكریة إلى حین تدخّل الدول الغربیة، المشغولة حالیًا بالانتخابات الأمریكیة والأولمبیاد وغیره من الأمور، لفكّ الاشتباك والسعي لوقف الحرب، خوفًا من تداعیات توسّعھا، لیس على الإقلیم حصراً ولكن دولیًا أیضًا. لماذا تجرأت “إسرائیل” على كسر القواعد؟ أحد الاحتمالات المطروحة أن العدّو یسعى إلى فكّ الارتباط بین جبھة قطاع غزّة وجبھة جنوب لبنان. فالمرحلة العسكریة في القطاع حالیًا، ھي عبارة عن عملیات عسكریة مُكثّفة تستمرّ لأیّام محدودة، أو یتم تنفیذ اغتیالات عند ورود معلومة استخباریة، وذلك بھدف تفكیك حماس سلطویًا وعسكریًا، كما یدّعي رئیس حكومة العدو، بنیامین نتنیاھو. السعي إلى فكّ الجبھتین سببه أنّ “تل أبیب” لم تعد قادرة على تحمّل بقاء الجبھة في شمال فلسطین المُحتلة مفتوحة والمستوطنین مُھجّرین لمدّة زمنیة أطول، إلى مدى یمتدّ أبعد من المرحلة الثالثة من الحرب في غزة (والتي قد تمتد لسنوات).
الخطوة التي اتّخذتھا “إسرائیل” تجاه إیران ولبنان، باستھدافھا بشكل مباشر رأس حركة حماس (ھنیة) والرجل الثاني في حزب الله (شكر)، تُرید من خلالھا أن تقول إنّھا قادرة على ضرب رأس الھرم التنظیمي لحماس، حین كان یحلّ ضیفًا على قیادة المحور الذي یدیر المعركة ضدّ كیان الاحتلال. أما بالنسبة لشكر فھي تُوجّه رسالة بأنّھا ضربت المسؤول العسكري الأول لدى حزب الله “ولم أعد أكتفي بضرب مسؤولي الوحدات أو المحاور وسأضرب أي ھدف مھما بلغت رتبته بمجرد أن أصل إلیه في أي مكان”. وقد أقدم كیان العدّو على ھذه الخطوة مدركًا أنّ ردّ فعل إیران وحزب الله لن یكون موازیا لردودھما السابقة، أو شبیھًا بما جرى یوم 14 أبریل الماضي (الرد الإیراني على قصف “إسرائیل” القنصلیة الإیرانیة في دمشق.) بعد الضربتین الإسرائیلیتین، تنتظر المنطقة ودول العالم رد فعل قوى محور المقاومة من طھران إلى غزة، التي قرّرت الرد على اعتداءات “إسرائیل” في الحدیدة (الیمن) وضاحیة بیروت الجنوبیة (لبنان) ومقر إقامة ھنیة (طھران) وجرف الصخر (العراق). ربّما یكون الردّ بشكل موحّد أو متزامن أو عبارة عن ردود فردیة. الأكید أنّ الردّ حتمي. فعدم الردّ بشكل قوي وموجع یعني الدخول في مرحلة جدیدة افتتحتھا “إسرائیل” وحوّلت المنطقة كلّھا إلى ساحة عملیات تستبیحھا.
ماذا ترید “إسرائیل”؟
بتنفیذھا ضربات خارج نطاق معادلة الردع تحاول استعادة الردع الذي فقدته صباح السابع من أكتوبر الماضي. أطلقت تسمیة “الذراع الطویلة” على عدوانھا ضد الیمن بھدف إظھار قدرتھا على وصول سلاح جوّھا إلى أي مكان. ونفّذت العملیة في قلب إیران، ثم سرّبت معلومات إلى كلّ من صحیفة “نیویورك تایمز” الأمریكیة (عبر مراسلھا رونین بیرغمان، المقرّب جدًّا من الموساد)، بأن العملیة نُفّذت بزرع عبوة في غرفة ھنیة؛ وإلى صحیفة “التلیغراف” البریطانیة عن تجنید العدّو لضباط في الحرس الثوري الإیراني لزرع ھذه العبوات. هذه التسريبات ھدفھا إعادة الھیبة للاستخبارات الإسرائیلیة التي لم تستطع معرفة ما یدور في غزة قبل السابع من أكتوبر. كذلك تھدف إلى محاولة القول لإیران إنّ العملیة نُفذّت بطریقة أمنیة وتقع ضمن نطاق “حرب الظل”، وبالتالي لا تستدعي ردًّا إیرانیًا عسكریًا واضحًا.
الیوم، تنتظر “إسرائیل” ردّ إیران وحزب الله. وتعیش حالة من الرعب شبیھة بما عاشته إبّان حرب الخلیج الثانیة، خاصة بعد تأكید أركان محور المقاومة أنّ الردّ آتٍ وسیكون قاسیًا. لذلك، اتّخذت “تل أبیب” إجراءات عدّة على طول المساحة الممتدة من وسط فلسطین حتى شمالھا. أوقفت العمل في المصانع التي تستخدم المواد المشتعلة مثل الأمونیا والغاز. وزّعت ھواتف تعمل عبر الأقمار الصناعیة على الضباط والوزراء والمدیرین العامین للوزارات خوفًا من انقطاع الاتصالات. حدّدت الجبھة الداخلیة الإسرائیلیة إذاعات رادیو مخصصة لبثّ تحذیراتھا. وجھّزت الأنفاق ومواقف السیارات التحت أرضیة لاستقبال النازحین. ما یعیشه كیان العدّو الیوم ھو ما جناه على نفسه، في محاولته تفكیك الجبھات المتلاحمة حوله، معتقدًا أنّه بذلك یُمكنه الاستفادة من الدعم الأمریكي والعربي (الذي یدور في فلك أمریكا)، ومن انشغال واشنطن بالانتخابات الرئاسیة، لتوجیه ضربات للمحور، والذھاب إلى حرب معه. مع الرھان دائمًا على أنّ الولایات المتحدة ستدعم كیان العدّو في ھذه الحرب، بالسلاح والمال والخبرات العسكریة.
وفي ھذا الإطار، قال البروفسور في العلوم السیاسیة في جامعة شیكاغو، وأحد أبرز المنظرین في مجال العلاقات الدولیة في العالم، جون میرشایمر إنّه “یُمكن لإسرائیل أن تغتال من ترید وتبدأ أي حرب تریدھا والولایات المتحدة سوف تحمیھا، بل ستقوم بتزویدھا بالسلاح ایضاً، وھذا أحد أوجه قوة اللوبي الإسرائيلي في أمريكا”. ویرى میرشایمر أنّ “السیاسة الأمریكیة الخارجیة یمكن وصفھا بالحماقة، فأمریكا لا ترید أن تتطور الحرب في الشرق الأوسط ومع ذلك خرج وزیر الدفاع لوید أوستن لیقول إنّ أمریكا ستدافع عن إسرائیل في حال حصول حرب مع حزب الله وھذا لیس شیئًا تقوله اذا أردت أن تُبرّد الرغبة الإسرائیلیة في الحرب”. ویعتقد میرشمایر أنّ “إسرائیل في مشكلة عمیقة الیوم، ولا تملك أي مخرج”. وفي رأيه، فإن اغتیال ھنیة ھروب إسرائیلي من التفاوض على صفقة تبادل للأسرى.
المتیقَّن أن رد محور المقاومة سیكون قویًا، وقاسیًا، وربّما یُجبر “إسرائیل” على “الردّ بشكل فوري ومباشر”، وھو ما قرّره المجلس الوزاري الأمني المصغر، في حال إصابة مدنیین صھاینة، مما یفتح المجال في المنطقة أمام كل الاحتمالات. ما تحاول “إسرائیل” فعله حالیًا، ھو تغییر الواقع الاستراتیجي المحیط بھا، لجھة فك “وحدة الساحات”، واستعادة ردعھا بتنفیذ عملیات جریئة تتجاوز بھا “الخطوط الحُمر”. لكنّھا مع ذلك، أثبتت بالتجربة أنّ محور المقاومة كلما تلقى ضربة خرج بعدھا أقوى، وھو ما سیحدث بعد الأیام القتالیة التي قد تشھدھا المنطقة ككلّ، ولیس لبنان وإیران حصرًا.
هذا الاستنتاج ليس حكرًا على المقاومة وأنصارها، فها هو ميرشايمر يقول بوضوح:
“إسرائيل في مأزق عميق ولا تملك أي مَخرج.
لم تستطع هزيمة حماس في غزة.
لا تستطيع أن تخرج من غزة اليوم.
ليس لديها أي حل عسكري أمام حزب الله ولا يمكنها هزيمته.
إيران، دولة العتبة النووية، ستبقى موجودة حتى لو قامت إسرائيل بشن هجمات جوية عليها”.
باختصار، مهما كان شكل المواجهة المقبلة، فإن كيان الاحتلال عالق في مأزق وضع نفسه فيه.