إن إحدى زوايا مقاربة وضع “إسرائيل” منذ السابع من أكتوبر، هي أن الهدف الأساس للعدو هو ليس فقط إعادة ترميم للردع، بل أيضاً إعادة بناء جديدة للمفهوم نفسه وما يقتضيه. بمعنى، أن المسألة بالنسبة للكيان ليست عودة إلى يوم السادس من أكتوبر، بل تشكيل بيئة إقليمية بنظام ردعي بموازين جديدة. وعليه، لا يمكن اليوم النظر إلى “إسرائيل” وفهم عقليتها بحزمة المعارف التي راكمناها في العقود الماضية، وأيضاً لا يمكن الفهم المباشر والآني لعقلية العدو وذهنيته فهذا الأمر هو بحد ذاته في طور التشكيل بالنسبة له كما بالنسبة لنا. هذا الفراغ في فهم عقلية “إسرائيل” هو ما نسمّيه حالياً بالجنون، وأن المستعمرة الصهيونية تعيش طوراً من الجنون.
إن هذا الجنون لا يقتضي حالة من الضياع الاستراتيجي الكلي بالضرورة، بل هو سمة المرحلة ومخاض طبيعي يتلو الأثر والهزة التي أنتجته عملية طوفان الأقصى. أي أن هذا الجنون هو في الكثير من جوانبه وسيلة تأقلم، واستغلال جريء لمجريات الأحداث. ولذلك، اليوم، وبعد 10 شهور على بدء الإبادة وحالة الانسعار الصهيونية، علينا التسليم بأن هذا الجنون لن يخبو، بل سيتصاعد، وبل أنه في بدايته.
من هنا لا يمكن قراءة ضربتَي الضاحية وطهران من خارج الجنون كاستراتيجية، مدفوعة بطبيعة الحال بعوامل داخلية صهيونية، وإسرائيلية – أمريكية، من السهل الغوص في تفاصيلها ونسيان أنها في الأخير السمة العامة والخيار الإستراتيجي. حيث يعلم الكل الجمعي للعدو أن مخاض بناء فحوى الردع الجديدة للمنطقة، “وتغيير الشرق الأوسط” يتطلب بالضرورة ككل التغييرات العسكرية الدراماتيكية والسياسية الكبرى، جنوناً واللعب بالنار. بينما في التفصيل فإن عملية هذا التغيير تأتي عبر العمل الجاد للعدو في استعادة زمام التصعيد، والبدء في الذهاب في المحظور واللامتوقع والمفاجئ. فالعملية التاريخية الراهنة باختصار، هو تحويل ما يعتقد أنه “جنون” إلى أمر واقع وفرضه بشكل ينفي جنونيته ويجعلها من الماضي.
في المقلب الآخر بعد تحويل 7 أكتوبر الجنون إلى ممكن، جهدت جبهة المقاومة على تثبيت أن ما يمكن حصل وهو ليس بجنون، وأن على العدو الإسرائيلي والأمريكيين والغرب كله تقبل ذلك. النقطة هنا، أن ردع جبهة المقاومة يكبل جنون العدو عن الذهاب إلى مواجهة مفتوحة تضر جبهته الداخلية الهشة. ولكن، وبما دون الجبهة الداخلية والعمق في “دولة تل أبيب”، تثبت ضربتا الضاحية – طهران أنه في مسعى جاد لاستعادة الهيمنة على التصعيد، وبالشكل الذي يسمح به قطبا قوته، أي ملعبا التكنولوجيا العسكرية والمعلومات الاستخبارية، في ظل ضعف نسبي في الميادين الأخرى، الصراع الداخلي والقوة البرية. وعليه، لا يزال مسعى استعادة الهيمنة على التصعيد محصوراً في تسديد ضربات ذات طابع أثر نفسي ومعنوي كبيرين وازنين، والأهم أن لهذه الضربات القدرة على النمو الذاتي لتتحول إلى أثر استراتيجي على المدى المستقبلي، إذا ما لم تقابل باحتواء وتدارك.
ومن جهة أخرى، تشكل هذه الضربات بداية مرحلة جديدة، مرحلة منع تحول الجنون إلى اعتيادية، بل إبقاء معنى لكلمة جنون من ناحية أنه فعل له عواقب من جبهة المقاومة. فبلسان كتائب القسّام أن جنون العظمة لنتنياهو وما يؤدي إلى عربدة صهيونية آن لها أن تتوقف عبر “لجمها” و”قطع يدها” وما مواصلتها سوى “دق لناقوس الخطر في مختلف الساحات”. وهذا ما ستعمل عليه جبهة المقاومة في المرحلة المقبلة، بكلمتها في الميدان وبسواعد مجاهديها في العراق ولبنان واليمن وطهران، تثبيت أن ما يقوم به العدو هو “جنون” لأنه بدوره يؤدي إلى جنون مقابل عليه الحذر الجدي منه، ففي الأخير نحن الجبهة الثورية لا هم، وأن مسّ العواصم لا يمر مرور الكرام.