قدّم رئيس وزراء الكيان الصهيوني بنيامين نتنياهو، يوم الأربعاء 24 تموز/ يوليو 2024، خطابًا سياسيًا أقل ما يمكن وصفه بأنه “حفلة أكاذيب واستخفاف بعقول العالم”، وذلك تحت قبة الكونغرس الأميركي في مدينة واشنطن، حيث توجد “مقبرة جماعية كانت في يوم من الأيام مدينة «هندية حمراء» تدعى نَكن شَتَنكِة (Naconchatanke). كانت مدينة نَكن شَتَنكِه مركزًا تجاريًا زاهرًا لشعب كونوي (Conoy)، هنا على ضفاف نهر بوتوماك قبل أن يبني جورج واشنطن عاصمته على أنقاضها. أما كونوي فكان اسمًا لهذا الشعب المدفون تحت مدينة واشنطن عندما مشى الموت نائمًا من بالوس إلى سواحل «الهند» ولم يستيقظ من نومه الزواحفي إلا على سواحل كنعان المستباحة. كونوي وأكثر من 400 ثقافة وأمة طوّحها هذا الموت النائم في هاوية كابوسه الهندي فتطايرت أسماؤها وأشلاؤها وكتبُ تاريخها إلى «هند» مزورة متعسفة ليس لها وجود إلا في خريطة المنتصر وخرافات المجاهل التي لا تسكنها إلا الوحوش؛ هند لم تعرف نفسها ولم يعرفها الهنود. فجأة تعرت كل هذه الأمم ونبت من رأسها الريش وراحت تعول في براري كنعان الجديدة بصوت طريدة وحشية واحدة اسمها «الهندي الأحمر». أكثر من 112 مليون إنسان ينتمون إلى أكثر من 400 ثقافة وأمة ــ مطرودون من اللغات والألسنة والذكريات ورفوف المكتبات، محرومين من فردوس الموت الإنساني، مسلوخين من أسمائهم وأرواحهم وتوابيتهم وأرحام أمهاتهم ــ يرقدون الآن بسلام دائم كما يرقد شعب كونوي مع عضويات الوحول والطمي والغضار تحت المدن والمزارع والحقول الآمنة التي كانت ذات يوم مدنهم ومزراعهم وحقولهم وملاعب وجودهم”. ([1])
وقف نتنياهو فوق جثث آلاف “الهنود الحمر” (شعب الكونوي)، لا رئيسًا للحكومة الصهيونية فحسب، ولكن ــ وفق تصوره لذاته ودوره ــ ملك ملوك إسرائيل، وسليل ملوك روايات “الكتاب المقدس”، لتبرير إبادة آلاف الفلسطينيين في قطاع غزة [خاطب نتنياهو جنوده، يوم الجمعة 27 تشرين الأول/ أكتوبر 2023: “اذكر ما فعله بك عماليق”، وبذا استخدم مصطلح “عماليق” ليدلل به على الشعوب والمجموعات الأخرى التي يُزعم أنها تتهدد وجود الشعب اليهودي، وهكذا فإن عماليق هو الآخر المغاير الرئيس], وبذلك مد جسر الإبادة من نَكن شَتَنكِه (واشنطن) إلى فلسطين (كنعان).
تاريخ أمريكا الدموي
كتب لاري بورتيز: “يتضمن فهم الولايات المتحدة ــ في جزء كبير منه ــ للصراع الإسرائيلي الفلسطيني انعكاسًا لصورة الولايات المتحدة نفسها، وهي الصورة التي أُسقطت أولًا على المستوطنات الصهيونية، ثم على دولة إسرائيل”، وهذه المتوازيات تستحضر الأساطير المقدسة ــ المتجذرة في روايات الفتح التوراتية ــ والتي استمدت منها كلتا المؤسستين الاحتلاليتين الموافقة الإلهية والإلهام. ([2])
اعتقد المستعمرون أن أمريكا صارت، بعد تماهيها مع الفردوس الأرضي([3])، أفضل مكان لاستكمال الإصلاح الديني، بعد فشله في أوروبا. فاتّجه هؤلاء، على شكل مجموعاتٍ، مسافرةٍ على ظهر السُّفن، إلى أمريكا، وفي ذهنهم تصوُّر، مفاده أنّهم النُّخبة التي اختارها الرب، من بين البشر، لإقامة مملكته (مملكة الرب)، على الأرض، التي اختارها لهم، ألا وهي “أرض الميعاد” (أمريكا). فحين كتب زعيم الطهوريين، جون كوتون، مقالته، التي وسمها بـ”وعد الله لمستوطنته”، زيَّن صفحة الغلاف بالنص التالي من سِفر صموئيل الثاني (7: 10): “وَعَيَّنْتُ مَكَانًا لِشَعْبِي إِسْرَائِيلَ، وَغَرَسْتُهُ، فَسَكَنَ فِي مَكَانِهِ، وَلاَ يَضْطَرِبُ بَعْدُ”. وقد بيَّن كوتون هذا المفهوم، بوضوح، حين خاطب المستوطنين، قائلًا: “كان اختيار موقع المستوطنة الأولى هو أول بركة من الله…”. وكانت كل خطوة، بعد ذلك، من “انتقاء المهاجرين، إلى انتقال هذا الشعب، أو ذاك، إلى موطن، أو آخر، كل ذلك كان قرارًا إلهيًا”.([4])
لقد خضع الهنادِرة (الهنود الحمر) لأسوأ انتهاكات الإمبريالية الاستعمارية، على أيدي المستوطنين الأوروبيين، الذين استمدوا سلطتهم من ذلك المركب من السلطة العلمانية، والشرعنة الدينية، اللذيْن ميّزا مسيحية القرون الوسطى. ففي مجتمع (ثيوقراطي) تمتلك النقاشات الدينية قوة نافذة فيه، وفي ما يخص بعض علماء اللاهوت المسيحي، على الأقل (مثلًا: سيبولفيداي)، فإن كفر الهنادِرة، وتصرفاتهم البغيضة، والجرائم المرتكبة ضد الطبيعة، سوَّغت احتلال أراضيهم، وغزو بني إسرئيل أرض كنعان، شرعن استخدام الأسلحة ضدهم (انظر سفر التثنية 9: 5 ــ 18: 9- 14 وسفر اللاويين 18: 24- 25). ([5])
لم يتوان الصهاينة أبدًا عن لفت الانتباه ــ بشكل متكرر ــ إلى تاريخ المستعمرات الأمريكية، فكتب الصهاينة الأوائل ــ خلال عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي ـــ مقالات عديدة للصحف الأمريكية الكبرى تصف “الرواد” الصهاينة بأنهم النسخة اليهودية من “المستوطنين الشجعان والمتدينين” في أمريكا، وفي مقال ظهر في نيويورك تايمز في يونيو/ حزيران 1922، كتب برنارد روزنيلات (Bernard Rosenblatt) ــ الممثل الأمريكي في اللجنة التنفيذية الصهيونية ــ أن “الحجاج اليهود… يبنون يهودا الجديدة؛ تمامًا مثلما بنى البيوريتان «إنجلترا الجديدة» قبل ثلاثمائة عام؛ هؤلاء المهاجرون إلى فلسطين كانوا في الواقع من اليهود البيوريتان: فما يهودا والمستعمرات الأخرى سوى رموز النهضة العبرية؛ إنها بمثابة ولايات جيمس تاون وبليموث في بيت إسرائيل الجديد”. إن المستوطنين اليهود هم مثل “أتباع دانيال بون (Daniel Boone) الذي فتح الغرب للمستوطنين الأمريكيين”، حين كانوا “يواجهون مخاطر الحرب الهندية”.([6])
أثار عالم الآثار الأمريكي وليم أولبرايت، في أعماله، مسألة حقوق السكان الأصليين في الأرض، بل حاول بشكل مخيف تبرير إبادة الشعب الفلسطيني، فالشعب الأمريكي يتماهى في التنميط البروتستانتي مع “بني إسرائيل”، وبالتالي يربط مصير “الهنود الحمر” بـ”الفلسطينيين القدامى”. يقول أولبرايت: “… ونحن الأمريكيين قد يكون لنا حقوق أقل من باقي الدول المتمدنة، على الرغم من إنسانيتنا الحقيقة، في أن نصدر أحكامًا على الإسرائيليين، فى القرن الثالث عشر قبل الميلاد، حيث إننا قمنا، عن قصد أو غير قصد، بإبادة آلاف السكان الأصليين فى كل بقعة من أمتنا العظيمة، ووضعنا البقية الباقية منهم في معسكرات الاعتقال. والقول إن هذا كان أمرًا لا مفر منه لا يجعله أكثر قبولًا، أو تهذيبًا، من الناحية الأخلاقية، لدى الأمريكي اليوم… ومن وجهة النظر غير المنحازة لفلسفة التاريخ، يبدو من الضروري في أحيان كثيرة اختفاء شعب ذي مستوى متدن إلى حد بعيد، ليحل محل شعب ذو صفات متفوقة، حيث يتحتم الوصول إلى مرحلة لا يمكن فيها للاندماج العرقي أن يستمر دون حصول كارثة. عندما تحدث مثل هذه العملية، كما هو جار الآن في أستراليا، فإن الدوافع الإنسانية لا يمكنها فعل الكثير، علمًا بأن كل عمل همجي، وكل ظلم، سوف ينعكس بكل تأكيد على المعتدي”.([7])
نتنياهو ممثل الحضارة
في هذا الجو المسكون بالتماهي مع “الكتاب المقدس”، يتحول نتنياهو إلى ممثل “الحضارة الغربية” في مواجهة “البربرية”، فيقول: “نحن على مفترق طريق تاريخي والشرق الأوسط يغلي والصراع ليس بين حضارات وإنما بين البربرية والتحضر”. لا يخلو هذا الخطاب من قناعات نتنياهو في بداية التسعينيات في كتابه “مكان تحت الشمس”([8])، بموازاة التنظير الذي قام به صامويل هنتنجتون عن صدام الحضارات. ([9])
لقد “ظهر تأطير الصراع الحضاريّ ظهورًا مكثفًا في كتابه «مكان تحت الشمس». فكتابه هذا ــ بنسخته الإنجليزية (Netanyahu B., 1993) ــ سبق مقال صامويل هنتنجتون عن صدام الحضارات الذي نشره في صيف عام 1993، في دورية علاقات خارجية (Huntington, 1993)، وكتابه الذي أعقب مقاله وتناول الموضوع نفسه الذي نشره عام 1996 تحت اسم «صدام الحضارات» (Huntington, 1996)، ومن خلالهما قام بصكّ «برادايم» ــ نموذج فكريّ للتحليل والمعرفة (Paradigm) ــ جديد لتفسير وتحليل العلاقات الدوليّة بعد الحرب الباردة، أطلق عليه نموذج صدام الحضارات. لم يكن هنتنجتون الوحيد بين الباحثين والمنظّرين الذي نظر وكتب بشأن صراع الحضارات، لكنه كان أشهرهم. فنتنياهو ليس منظرًا سياسيًا، بل يقوم بقراءة أحداث سياسية وتاريخيّة وعرضها في كتبه، ولكن لا تصلح لتأطير كتاباته نظريًا إلا مقاربة صدام الحضارات”.([10]) فنتنياهو في هذا الشأن “ليس مقطوعًا عن الصهيونية وتصوُّرها لذاتها كحركة تحديث وممثلة للحضارة الغربية في الشرق. ويحاول المضيّ بذلك بخطوات أخرى إلى الأمام باعتبار المشروع الصهيونيّ جزءًا من صراع حضاريّ أكبر لا وكيلاً فحسب”.([11])
لقد كان الهدف الرئيسي لأطروحة نتنياهو آنّها حرب “الحضارة” على “البربريّة” و”الهمجيّة”، من خلال تركيز الانتباه على الصراع المباشر والأبدي بين الحضارة [الغرب] والبربرية [الإسلام ــ العرب ــ فلسطين] تبرئة إسرائيل من إبادة الشعب الفلسطيني، وهذا يفسر ــ إلى حد كبير ــ الرواج الهائل الذي حققته هذه الأطروحة في الغرب.
فوق كل هذا الإسراف في الأساطير الصهيونية، يقول نتنياهو: “معاداة السامية هي أقدم نوع من الكراهية، وأدت إلى قتل اليهود عبر القرون، وإلى الهولوكوست” ، وذلك للنأي بـ”إسرائيل” عن أي لوم أو انتقاد، وقد نجح في المطالبة بأن يلعب المستوطنون الصهاينة “دور الضحية”. لقد سارع لتصوير ضحاياه الفلسطينيين على أنهم جلادوهم الجدد، فالآن صار الفلسطينيون ــ وحلفاؤهم المسلمون ــ هم أعداء السامية الجدد.
لقد “نجحت إسرائيل في عزل نفسها عن النقد؛ بتكرار القول بأنها دولة ضحايا الهولوكوست؛ كما استخدمت شعار «لن يتكرر مرة أخرى» لإسكات منتقديها، ومن ثم فإن انتقاد إسرائيل هو معاداة مقنَّعة للسامية «وإن لم يكن عن قصد»، لذا يجب منع انتقاد إسرائيل؛ وإلا سيؤدى هذا إلى هولوكوست جديد”. ([12])
باختصار، إن نجاح نتنياهو في جذب دعم الأمريكيين يدين بالكثير لتاريخهم المماثل لحركات الاحتلال الاستيطاني، في اعتباره “إسرائيل” جزءًا من الصراع الحضاري بين الحضارة [الغرب] والبربرية [الإسلام ــ العرب ــ فلسطين]، وفي الاختباء خلف ستار الهولوكوست، واستخدامه لتبرير حرب الإبادة في قطاع غزة.
[1] () منير العُكش، تلمود العم سام: الأساطير العبرية التى تأسست عليها أميركا، ط1، رياض الريس للكتب والنشر، بيروت، 2004، ص (19- 20).
[2] () محمد شهيد عَلَم، الاستثنائية الإسرائيلية: منطق الصهيونية الهدام، ترجمة: مصطفي هندي، ط1،
مؤسسة دراسات تكوين للنشر والتوزيع، السعودية ـ الدمام، 2021، ص 88.
[3] () لمزيد من التفاصيل حول تشكيل الكتاب المقدس، العمود الفقري للعقل السياسي في نسخته الأمريكية يُراجع: أحمد الدبش، فلسطين في العقل الأمريكي (1492- 1948)، ط1، صفحات للنشر والتوزيع، دمشق، 2021.
[4]() د. فؤاد شعبان، من أجل صهيون التراث اليهودي المسيحي في الثقافة الأمريكية، ط1، دمشق، دار
الفكر، 2003، ص 70.
[5]() القس مايكل برير، الكتاب المقدس والاستعمار الاستيطاني: أمريكا اللاتينية، جنوب افريقية، فلسطين، ط2، ترجمة: أحمد الجمل وزياد منى، دمشق، قدموس للنشر والتوزيع، 2004، ص (102- 103).
[6] () عَلَم، مرجع سبق ذكره، ص (88- 89).
[7]() كيث وايتلام، اختلاق إسرائيل القديمة إسكات التاريخ الفلسطيني، ترجمة: سحر الهنيدي،
سلسلة “عالم المعرفة”، الكويت، 1999، ص 128.
[8] () بنيامين نتنياهو، مكان تحت الشمس، م ط4، ترجمة: محمد الدويري، دار الجليل للنشر والدراسات والأبحاث الفلسطينية، عمان، 1999.
[9] () صامويل هنتنجتون، صدام الحضارات.. إعادة صنع النظام العالمي، ط2، ترجمة: طلعت الشايب، سطور، القاهرة، 1999.
[10] () د. مهند مصطفي، بنيامين نتنياهو: إعادة إنتاج المشروع الصهيوني ضمن منظومة صراع الحضارات، مركز رؤية للتنمية السياسية، أسطنبول، 2019، ص (101- 102).
[11] () المرجع نفسه، ص 16.
[12] () عَلَم، مرجع سبق ذكره، ص (88- 89).