واجه الكيان الصهيوني منذ تأسيسه عدة ورطات، أو تناقضات، تتعلق بمبدأ وجوده في فلسطين، وبناء “دولته” أو كيانه فيها. بداية من خلال مخالفته للقانون الدولي، الذي يحصر تقرير المصير في فلسطين بالشعب الذي كان يسكنها يوم احتلال الاستعمار البريطاني لها في العام 1917.
وواجه الورطة نفسها، في عدم سماح القانون الدولي للاستعمار البريطاني، في أثناء احتلاله فلسطين ما بين 1917 و1948، بإحداث أيّ تغيير جغرافي أو سكاني في فلسطين. وهو ما ينطبق على كل ما حدث من هجرة يهودية إلى فلسطين، باعتبارها غير شرعية، من وجهة نظر القانون الدولي.
وواجه الورطة في توصية (قرار) التقسيم، رقم 181، لعام 1947. وقد استند إليه، بإعلان قيام “دولة إسرائيل”، بلسان بن غوريون عام 1948. لأن صدور هذا القرار من الجمعية العامة لهيئة الأمم المتحدة، يُعتبر غير شرعي، من وجهة نظر القانون الدولي، كما من وجهة نظر ميثاق هيئة الأمم المتحدة نفسها. وذلك بعدم امتلاك مثل هذه الصلاحية. فالجمعية العامة لا تمتلك صلاحية تقرير مصير أي دولة في العالم، مثل القرار\التوصية بتقسيم فلسطين إلى دولتين.
ويواجه الكيان الصهيوني عدم شرعية عضويته في هيئة الأمم المتحدة. لأن قرار مجلس الأمن لقبول عضويته كان مشروطًا بعودة اللاجئين، والانسحاب من الأراضي المحتلة في حرب 1948، زيادة على ما حدّد من حدود في قرار التقسيم لعام 1947. وهو شرط لم ينفذ برغم التعهد بتنفيذه.
ثم هنالك الاعتبارات الأهم: لعدم شرعية الهجرة اليهودية إلى فلسطين، وعدم شرعية السيطرة عليها بالقوة والمجازر، ثم اقتلاع ثلثي شعبها في حرب 1948. وذلك من وجهة نظر الحق التاريخي والوطني، والعربي والإسلامي، والفلسطيني، في فلسطين.
الآن، لو وضعنا كل ذلك جانبًا، لنركز على ورطة أخرى تواجه الكيان الصهيوني، من حيث وجوده وبقائه في فلسطين. أي التجربة العملية، وما أتبعه قادة الكيان الصهيوني، من مخالفات وتناقضات وجرائم، تجعل وجوده غير قابل للاستمرار، وغير ممكن البقاء والاستمرار. كيف؟
كان من بين الحجج، أو الأكاذيب، التي انتشرت منذ مباشرة الهجرة الصهيونية، في محاولة لتبرير السيطرة على فلسطين، وإقامة الكيان الصهيوني فيها، بأن فلسطين كانت أرضاً بلا شعب، وجاء المهاجرون اليهود لتصبح أرضاً لهم: “أرضٌ بلا شعب، لشعبٍ بلا أرض”.
طبعًا، هذه الأكذوبة متناقضة مع الحقيقة، باعتبار فلسطين لها شعب تاريخي، لا مجال لنكرانه. وقد انقلب السحر على الساحر، لا سيما بعد إقامة “دولة إسرائيل”، وقد تزايدت الورطة طوال 75 سنة، منذ ذلك، حيث استمرت نسبة تعاظم الوجود الفلسطيني، فوق أرض فلسطين، سواء أكان في المناطق المحتلة عام 1948، أم كان في قطاع غزة، والقدس والضفة الغربية.
فعلى سبيل المثال، إن عدد الفلسطينيين على أرض فلسطين، يربو على سبعة ملايين، يعني أكثر من الحضور اليهودي بمليونين، في الأقل، ثم هنالك سبعة ملايين فلسطيني خارج فلسطين ممن اقتلعوا من فلسطين، ويتأهبون للعودة. وقد شكلوا، بصورة دائمة، ورطة مستفحلة للكيان الصهيوني، ووجوده في فلسطين.
بكلمة: استمرار وجود الشعب الفلسطيني، في الداخل الفلسطيني وفي الخارج، ورطة حقيقية للمشروع الصهيوني. وقد تبين أنه عاجز كل العجز، حتى وهو في عنفوان قوته وسيطرته، عن حل هذه “الورطة” الناجمة عن أصل وجود الكيان الصهيوني، غير الشرعي في فلسطين.
ظهر هذا العجز، من خلال تمنع الكيان الصهيوني طوال 75 عامًا، عن قبول أيّ حلّ من الحلول، أو أيّ قرار من قرارات هيئة الأمم المتحدة، لإيجاد حلّ مؤقت أو دائم.
كانت استراتيجية الكيان الصهيوني، ولم تزل، أنه يريد كل فلسطين، وتهجير كل الفلسطينيين، وجعل فلسطين وطنًا قوميًا خالصًا، لكل يهود العالم، وبالطبع لمن استوطنوها، بالدرجة الأولى.
وكان تكتيك الكيان الصهيوني طوال عشرات السنين، حتى اتفاق أوسلو، وما بعده، هو عدم الكشف عن تلك الاستراتيجية، والظهور بمظهر الحريص على “السلم”، وتشجيع طرح الحلول، من دون أن يعلن موافقته على أيّ حلّ أو قرار.
وكان هدفه الأساسي، وراء هذا التكتيك، هو استدراج الاعتراف بشرعية الوجود الإسرائيلي، لا سيما من قِبَل الدول العربية وم.ت.ف (من الفلسطينيين)، طبعًا ومن بقية دول العالم. لأنه كان يعرف دائمًا، أن لا شرعية حقيقية لوجوده، أو قل، ظلّ يخشى، ولم يزل، الطعن بهذه الشرعية القائمة على باطل، كما تبيّن أعلاه.
لهذا، لم يعترف الكيان الصهيوني بأيّ حلّ طرح، مثل حلّ الدولتين، أو الدولة الواحدة، ولم يظهر من جانبه، ولو بالممارسة، أنه مستعد للتعايش، وبأيّ مستوى من التعايش، مع الشعب الفلسطيني، مثلًا: مراجعة تعامله مع فلسطينيي الـ48، الذين بقوا تحت “دولته” بعد العام 1949. وكذلك كان الحال بعد احتلال كل فلسطين في حرب 1967. وقد طبّق سياسات شبيهة الأبارتايد، بهدف التهجير، وليس من أجل التعايش ضمن نظام عنصري.
هنا يمكن قراءة ورطته التي لم يستطع حلها، ولن يستطيع أبدًا، لسببين:
الأول، أنه يريد فلسطين خالصة كلها، مع إفراغها من الشعب الفلسطيني. ولا يريد أيّة مشاركة، أو أي تعايش. وهو ما أثبتته تجربة ما بعد اتفاق أوسلو، كما أثبتته التجربة التاريخية منذ قيام “دولة إسرائيل”.
والثاني، أن وجود الشعب الفلسطيني، هو الوجود الشرعي والأصيل، والضارب جذوره في أرض الواقع، كما طوال التاريخ.
ومن ثم هو غير قابل للاقتلاع الكامل، وغير قابل للرحيل من فلسطين. ناهيك عن مزايا أخرى، كشفتها “طوفان الأقصى” في السابع من تشرين الأول/أكتوبر وما بعده حتى اليوم. وجاءت حرب الإبادة بحق الشعب في غزة، لتجعل وجود الكيان الصهيوني في فلسطين، من بعدها، محالًا. فقد ارتكب جريمة إبادة بشرية مهولة، ولا مثيل لها، ولا تغتفر، ولا يخفف منها قانون دولي أو إنساني أو ديني أو ضميري.
وما ينبغي لأحد أن ينسى أن فلسطين عربية وإسلامية، وحقٌ لا مراءَ فيه، وأيّة زعزعة له، تزعزع كل حق إنساني.
المهم هنا، أن فشل الكيان الصهيوني، بالرغم من دعم عالمي لا نظير له، في أن يحلّ مشكلة وجوده في فلسطين، بوجود شعب فلسطين، أو تفريغه منها، سوف يفرض عليه، بعد حروبٍ وحروب، وعيش على صفيح ساخن، بأن يلجأ إلى الحلّ الذي سيفرضه على نفسه لا محالة، وهو الرحيل إلى الغرب، حيث العواصم المزدهرة التي تؤمن لأفراده مستقبلًا، وعيشًا آمنًا رغيدًا، لا يمكن أن يتوفر له مثله في فلسطين.
إنها ورطة الاستيلاء على وطن له شعب تاريخي. وإنها ورطة رفض أيّ تعايش غير اقتلاعه كليًا، مما لا يبقى للكيان الصهيوني غير العيش على صفيح ساخن، ومتزايد السخونة أبدًا، أو الرحيل الذي يصبح أهون “الشرين”، أو الخيار الأفضل.
إنه الخيار الذي يستأصل الغدّة السرطانية، ويلبي الهدف الفلسطيني بتحرير كل فلسطين من النهر الى البحر.