ثمة تيار لدى بعض المعلقين الصحفيين، والمثقفين الفلسطينيين، لم يصلوا إلى قناعة، بالرغم من تجربة الثمانية أشهر الماضية، بأن ثمة قيادة للمقاومة خاضت، وتخوض حرباً فلسطينية وإقليمية، وذات أبعاد عالمية. وقد توحّد الشعب الفلسطيني، موضوعياً، من خلال الالتفاف حولها وتأييدها. ولم يصلوا إلى قناعة، بأنها هي التي يتم التفاوض غير المباشر معها، على شروط وقف إطلاق النار، والانسحاب الكامل لقوات العدوان من قطاع غزة.
ولهذا برزت مقالات راحت تطالب، بحجة تعداد إيجابيات تلك القيادة (حماس) وسلبياتها، لتخلص إلى القول أن الوضع بحاجة لتشكّل قيادة موحدة فلسطينية تقوم بمهمة مواجهة تحديّات المرحلة التالية لوقف إطلاق النار.
وقد التقت هذه المطالبة، بتقدير موقف عبّرت عنه بعض الأقلام، وبعض النخب، قام على أساس أن أمريكا اقتنعت، بعد تجربة حرب غزة، بأن من الضروري إعطاء شيء للشعب الفلسطيني، بالاستناد إلى “حلّ الدولتين” (التصفوي). ولهذا يجب أن تتشكل قيادة فلسطينية موحدة، لتفاوض باسم الفلسطينيين، لئلا تتقدم أمريكا، لإعطاء ذلك الشيء، فلا تجد أمامها قيادة فلسطينية تأخذه.
وبالمناسبة وللتذكير، في التجربة الفلسطينية المعاصرة ما بين الثلاثينيات والأربعينيات، كان هناك قيادة سياسية مثلها الحاج أمين الحسيني، سارت جنبًا إلى جنب مع قيادات عسكرية صعدت إلى الجبل، لتبدأ ثورة مسلحة، كما حدث مع ثورة الشيخ عز الدين القسّام 1935، ثم تشكل الجهاد المقدس 1948، لمواجهة النكبة.
غابت بعد حرب 1948/1949، كل من القيادات السياسية والعسكرية إلى العام 1964، بسبب ما نشأ من عوامل جيوسياسية (التقسيمات التي توزع خلالها الشعب الفلسطيني)، وغلبة بروز النضال التحرّري القومي العربي حتى عام 1964. وذلك عندما قررت القمة العربية تشكيل منظمة التحرير الفلسطينية، لتكون ممثلة للفلسطينيين في المؤسسات الدولية، مع بناء لجيش تحرير فلسطين.
وقد تغيّرت هذه المعادلة بعد حرب العدوان 1967، واحتلال الكيان الصهيوني، لكل من قطاع غزة والقدس والضفة الغربية، وسيناء ومرتفعات الجولان السورية. ومن ثم تعاظمت الحاجة العربية إلى إطلاق مقاومة فلسطينية مسلحة، لتحمل كتفًا في “معركة إزالة آثار العدوان”.
وهنا تشكلت قيادة سياسية-عسكرية فلسطينية، مثلتها حركة فتح وفصائل المقاومة الفلسطينية، التي اتّسمت قيادتها بوحدة القيادة السياسية والعسكرية في آن واحد، مثلها ياسر عرفات. وامتدّ هذا الوضع إلى عقد اتفاق أوسلو الكارثي لعام 1993، حيث تضمن التخلي عن العمل العسكري، والاحتفاظ بقيادة م.ت.ف التي غلب عليها الطابع السياسي. ولكن، ومن دون “استئذان”، راحت تبرز قيادة مقاومة عسكرية موازية، مثلتها كل من حركة حماس، وحركة الجهاد الإسلامي.
وبهذا أصبحت هنالك قيادتان، إحداهما قيادة سياسية مثلتها قيادة م.ت.ف. وقد جمعت في آن واحد القيادة السياسية (م.ت.ف) وقيادة السلطة الفلسطينية، بموجب اتفاق أوسلو. وراح يقابلها مقاومة نامية باستمرار، إلى أن تحوّلت إلى قاعدة مقاومة، تسيطر على قطاع غزة، لا سيما بعد حرب 2008/2009.
وهنالك بالطبع مطالبة بإنشاء قيادة موحدة تقوم على أسباب وحجج أخرى. ولكنها بحاجة إلى حلّ إشكال، كيف يمكن إنشاء هذه القيادة، لتكون وصلًا مشتركًا بين قيادة م.ت.ف (محمود عباس)، وقيادة المقاومة (حماس والجهاد والفصائل)، مع الحذر الشديد من التطرق إلى إشراك قيادة المقاومة في قطاع غزة، وهي المعتبرة إرهابًا، والمطلوب رأسها صهيونيًا وأمريكيًا (وغيرهما).
المشكلة الأولى هنا بأن هذه المطالبة، وبغض النظر عن الحيثيات والأهداف، لكل طرف من القائلين بها، ليس لأصحابها من دور في الحرب المستعرة في قطاع غزة، ولا أحد يستشيرهم في موضوع وقف العدوان، أو في أي تفصيل من تفصيلاته. لأن الذي يهمهم، ويشعرون بأن دورهم المنتظر فيه، ليس الآن، وإنما لاحقًا. ولكن الذي يقرر مصير المرحلة اللاحقة، هو ما يتقرر الآن من تحديد مصير الحرب المتصاعدة.
المشكلة الثانية أننا الآن نواجه قيادة مقاومة عسكرية تخوض الحرب، وقيادة سياسية ستشكل بعد الحرب. طبعًا إلى هنا يمكن التعايش مع حالة وجود قيادتين: عسكرية قائمة، ومشروع قيادة سياسية. ولكن كيف التعايش مع حالة وجود هاتين القيادتين بعد انتهاء المرحلة، أو في اليوم التالي وما بعده. وذلك لأن انتصار المقاومة حتمي، بإذن الله، مهما طالت الحرب في الأسابيع والأشهر القادمة. أما أيّة فرضية أخرى، والعياذ بالله، فالحل سيكون بإغلاق ملف القيادة السياسية التي تتهيّأ لقيادة مرحلة سلام قادم، وليس مرحلة استمرار المقاومة في الضفة الغربية، والدخول في مرحلة حرب ثانية.
والسؤال بعد الانتصار المحتوم بإذن الله، كيف يمكن للقيادة الموحدة أن تعمل، بوجود قيادة مقاومة انتصرت في الحرب.
هذا التيار لم يركز على هذه الأبعاد في حرب مستعرة، يعتبرها العدو بالنسبة إليه حرب حياة أو موت، وتشكل بالنسبة إلى المقاومة والشعب الفلسطيني تقريرًا لمصير قد يطول عشر أو عشرين سنة قادمة. وذلك إن لم تختتم بانتصار عسكري فلسطيني، أصبح في متناول اليد. أما في المقابل، فقد راح يركز على “سلبيات حماس وإيجابياتها” مع رجحان السلبيات. فهي تارة غامرت، ولم تحسب موازين القوى جيدًا، وذلك بالرغم من أن ثمانية أشهر مضت قد أثبتت أنها حسبت موازين القوى جيدًا، وكانت نتيجتها حتى الآن انتصاراً متعدّد الأوجه، خصوصًا في مواجهة الحرب البريّة.
يخطئ من يجعل معياره مدى ما خسرنا من ضحايا في حرب إبادة، وهو ما لا يجوز أن يحسب في ميزان القوى من جهة، ولا يعدّ، من جهة ثانية، معيارًا لحساب من المنتصر، ومن الذي هزم، لأنه إذا أخذ معيارًا، تكون ثورة فيتنام هي التي خسرت، وكذلك ثورة الجزائر، بل كل ثورات التحرّر. بل حتى الحرب العالمية الثانية، يكون السوفيات والحلفاء هم الذين خسروها، لأن ما قدموه من الضحايا المدنيين كان بعشرات الملايين.
وبعض هذا التيار، اعتبر أن من نواقص حماس عدم إجماع الشعب الفلسطيني حولها، ولا سيما كتلة النخب، التي يمكنها أن تتولى قيادة المرحلة في اليوم التالي، لأهليتها السياسية، بينما حماس، في أحسن الأحوال، ولو بعد انتصارها الميداني، ومعها سرايا القدس والفصائل المقاومة الأخرى، تظل عسكرية فحسب. إذن ماذا، في رأيهم، على قيادة المقاومة في قطاع غزة، أن تفعل، حتى تتجاوز ما تعانيه من “نقص”؟
الجواب المبطن ببساطة، تسليم السياسة للنخب السياسية القادرة على مواجهة تحديات المرحلة القادمة. ولكن كيف يمكن أن يتحقق أحد، أن المرحلة القادمة ستكون مرحلة سياسية، وبحثًا عن توافقات وحلول، ودولة فلسطينية من جهة، فيما تجربة الـ75 سنة طوال تاريخها، عدا عن مرحلة أوسلو الفاشلة، كانت هدنًا فحروباً، فهدناً فحروباً. وكان القول الفصل بيد الكيان الصهيوني في فرض الأمر الواقع والحرب. وكان الردّ الفصل من جانب الشعب الفلسطيني: الانتفاضات والمقاومة.
وهنا يبرز السؤال: متى استطاعت قيادة سياسية موحدة، أو حكومة مؤقتة أن تقود صراعًا، إذا لم تستند إلى قيادة القوّة الشعبية المسلحة للمقاومة، أو جيش التحرير من ورائها، وبحيث تأخذ منها التعليمات.
يا ليت الذين يخوضون في الموضوع الفلسطيني، يستندون إلى التجربة التاريخية القديمة والمعاصرة، أو ليتهم يقدمون تقديرًا للموقف الفلسطيني في ميزان القوى للصراع، يصمد شهرًا واحدًا من دون مفاجآت ومتغيرات وخيبات أمل، أو ليتهم يقدمون لنا دروسًا صحيحة من تجارب الثورات، وحركات التحرير في العالم، سلّمت قرارها لأهل السياسة.