ثمّة اهتمام دولي متزايد عبر الدوائر الضيقة ثم الأوسع بالثقافة الفلسطينية في كل جوانبها، لا سيما “جامعة برلين الحرة” التي قدّمت خلال السنوات الماضية، بدعم من “اللجنة الأوروبية للأبحاث”، إسهامات عديدة في التعريف بالثقافة الفلسطينية وتحديدًا الأدب الفلسطيني، كما دعمت عدة مشروعات في السياق نفسه سوف نقف على واحدٍ منها.
كما أقام “المعهد العربي” في باريس السنة الفائتة، بعد أشهر قليلة على مجازر الإبادة التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي في غزة، معرضًا بعنوان “ما تقدمه فلسطين للعالم”، لإطلاعه (أي العالم) على الإرث الثقافي والفني للفلسطينيين. وكان المعهد قد أصدر كتابًا جماعيًا بإسهام خمسين مثقفًا وكاتبًا وفنانًا قبل ذلك بعنوان “ما تقدمه فلسطين للعالم”، باللغة الفرنسية ضمن السلسلة الدورية “عربوراما” بالاشتراك مع دار النشر الفرنسية “سوي” (Seuil).
مع ذلك، فبالتأكيد ليست هذه آلية الاستقبال للثقافة الفلسطينية في العالم كله، فنظرة أخرى على ما حدث في معرض فرانكفورت للكتاب ضد عدنية شبلي، في تماهٍ مع السردية الإسرائيلية التي تبنتها عدة مؤسسات ثقافية وأكاديميات حول العالم، لم يكن معرض فرانكفورت أولها ولا آخرها.
بلد من كلمات
انطلق مشروع “بال ريد: بلد من كلام” PalREAD – Country of Words، قبل سنوات، في ألمانيا. وهدفه سرد تاريخ ومسيرة الأدب الفلسطيني كنتاج فكري وتراث ثقافي، وذلك عن طريق جمع وتحليل وترسيم خرائط تطور الأعمال الأدبية والثقافية الفلسطينية وارتقائها وانتشارها منذ ١٩٤٨ حتى الحاضر في البلدان العربية والأوروبية والأمريكية الشمالية واللاتينية. كما يقوم المشروع على أساس نهج شمولي في البحث عن الكُتاب والكاتبات والنصوص الأدبية ومتابعة مساراتها وطرق إنتاجها ومواقع قراءتها واستقبالها وتداولها. بالسعي إلى جمع مواد متعلقة بالأدب الفلسطيني حول: كُتاب وكاتبات وأعمالهم الأدبية (وخاصة الطبعات الأولى)، المنشورات الأدبية والثقافية (صحف، مجلات، ودوريات)، مذكرات وسير ذاتية، أغلفة الأعمال الأدبية ورسوماتها، كتيبات ومنشورات أدبية، صور، رسائل، خطب ومحاضرات أدبية، منشورات وملصقات أدبية لأحزاب سياسية، بث إذاعي وتلفزيوني لبرامج أدبية وثقافية، احتفالات أدبية ومناسبات ومؤتمرات وندوات واجتماعات، جوائز أدبية، مقاهي وندوات وصالونات أدبية وأماكن ثقافية، ناشرون ودور نشر، موزعون، مكتبات، أفلام متعلقة بالأدب، فنون ومتاحف ومعارض فنية متعلقة بالأدب، مواد أرشيفية أخرى.
ضمّ المشروع الباحثات والباحثين: رفقة أبو رميلة، وروث أبو راشد، ومارسيل كايدا، وإبراهيم عبده، وآخرين. انطلق عام ٢٠١٨ بتمويل من “مجلس البحوث الأوروبي” ودعم “جامعة برلين الحرّة” بشكل متواصل حتى ٢٠٢٣. وانتهى المشروع إلى منصّة افتراضية تتضمّن جداول ومسارد زمنية وخرائط تفاعلية ومقالات أكاديمية، وسيرًا ذاتية للكُتاب والكاتبات الفلسطينيين وأعمالهم الأدبية، والعديد من المصادر والمواد الرقمية التي يصعب الوصول إليها، ومدونات صوتية (بودكاست) ومقابلات مع مؤلفين وشخصيات ثقافية معروفة.
يبيّن المشروع ما للثقافة الفلسطينية (في كافة أنواعها)، أو النضال الثقافي الفلسطيني، من أهمية في تقديم أو تصدير السردية الفلسطينية إلى الخارج.
كانت مجلة Yeni e التركية قد سلّطت الضوء أيضًا هذه السنة على النضال الثقافي الفلسطيني، عبر عدد خاص قدّمته لشهرَي شباط وآذار، مؤلَّف من ١١٣ صفحة من القطع الكبير بعنوان “النضال الثقافي لفلسطين”، احتوى العدد على مجموعة نصوص كتبتها نخبة من المثقّفين الأتراك، مثل آيدن تشابوكتشو وإمرة تانسو كتن، زكي جوشكون، ومحمد حقي صوتشين الذي عرّج على الأدب الفلسطيني في الشارع التركي، وعلي تشاكماك الذي تحدث عن غسان كنفاني وأدب النضال، ورضا أويلوم الذي تحدث عن السينما الفلسطينية، وكبرى يتر التي تحدثت عن المسرح الفلسطيني من الماضي حتى اليوم، فيما تحدث خليل أبو عرفة وإيزيل روزنتال عن كاريكاتير ناجي العلي، وتحدثت نازلي توبراك عن فناني الجاز الفلسطيني، فيما تحدث خليل بوروج عن الرياضة الفلسطينية. كما اشترك في المجلة بعض الكتّاب الفلسطينيّين عبر ترجمة مقالاتهم إلى التركية.
استقبال الأدب الفلسطيني في ألمانيا
أشارت الباحثة صوفيا براون في مؤتمر في “جامعة برلين الحرة” إلى طُرق استقبال بعض أنواع الأدب الفلسطيني من قِبَل الجمهور الغربي، إذ أشارت إلى كتابات رجا شحادة، وكيف يتم اختزالها وتحويرها في الجرائد والمجلّات الغربية بصور تتناسب والأيديولوجية الغربية الصامتة، بل المتواطئة مع الاحتلال الإسرائيلي، بحيث كثيرًا ما تُفرّغ الكتابات المذكورة من محتواها السياسي، ويُستبدل ذلك بالتركيز على السلام والعاطفة الإنسانية وإلى ما هنالك من عبارات بعيدة كثيرًا عن التفاعل مع القضية الفلسطينية والمطالب العادلة للشعب الفلسطيني، كما يقول عاطف الشاعر.
دراسة “استقبال” الأدب الفلسطيني في أوروبا ليست بالقضية الجديدة، فقد أصدر د. عادل الأسطة عام ٢٠٠٠ عن دار الأسوار في عكا كتابه “في مرآة الآخر، استقبال الأدب الفلسطيني في ألمانيا”، وفيه ثلاث دراسات كان قد أنجزها عام ١٩٩٦ إثر زيارة علمية قام بها لجامعة بون.
يتتبع الأسطة الدراسات العلمية التي كتبها أساتذة لغتهم الأم هي الألمانية، حول الأدب الفلسطيني، بما فيها الدراسات التي نشروها بالإنجليزية، ويقف عند بداياتها وتطورها وموقف الدارسين من الأدباء المدروسين ونظرتهم إلى القضية الفلسطينية ومدى دقة معلوماتهم وصحة أحكامهم وجدة دراساتهم ووجهتها.
ومن الدراسات التي يتناولها الأسطة أولًا دراسات “اشتيفان فيلد”، الرائد في التعريف بالأدباء الفلسطينيين، وهي: “غسان كنفاني، حياة فلسطيني” ١٩٧٥، “الفلسطيني في أعمال غسان كنفاني” ١٩٧٦، “اليهودية والمسيحية والإسلام في الشعر الفلسطيني” ١٩٨٤، “الضمير المعذب للثوري، مساهمة لتفسير مجموعة قصص كنفاني أم سعد” ١٩٩٥.
ويتناول الأسطة أيضًا دراسات أنجليكا نويفرت: “القصيدة من حيث هي منديل مطرز: قصيدة محمود درويش عاشق من فلسطين” ١٩٨٧، “حواجز لغوية ثقافية بين جيران: قصيدة درويش (عابرون في كلام عابر) كما يستنطقها الإسرائيلي” ١٩٨٨، “الخسارة وتأسيس المعنى، نحو صورة الوطن في أشعار محمود درويش” ١٩٩١.
ودراسات هارتموت فيندرش، وهو سويسري: “حضور إسلامي قليل في أعمال نثرية فلسطينية، كنفاني وخليفة نموذجًا” ١٩٨٤، “وليم فولكنر في الأدب العربي الحديث: غسان كنفاني مثالًا” ١٩٩٥. ودراسة “وولف ديترش فيشير” بعنوان “غسان كنفاني ونجيب محفوظ” ١٩٩٥، ودراسة أولريكا شتيلي – فيربك بعنوان “الواقعية وتصور الحقيقة في أعمال كنفاني السردية” ١٩٩٥، ودراسات فيرينا كليم: “الخيال والواقع: الكتاب الفلسطينيون يتفاعلون مع الانتفاضة” ١٩٩١، “سحر خليفة وروايتها (باب الساحة): نقد نسوي للانتفاضة” ١٩٩٤.
يعرّج الأسطة بعد ذلك على الدراسات التي كتبها طلبة للحصول على شهادة الماجستير، والدراسات التي أنجزها دارسون عرب بالألمانية.
يكتب اشتيفان فيلد، الواعي لما هو عليه مشهد الصراع العربي الإسرائيلي في الغرب، وهو ما حدا به إلى الكتابة عن كنفاني:
“إنّ الجانب الإسرائيلي من الحالة مقدم غالبًا وجيدًا في أوروبا، وليست هذه حقيقة بالنسبة للفلسطينيين. أرى أنه من خلال دراسة حياة كنفاني وموته وأفعاله باعتباره شخصية محورية في حركة المقاومة الفلسطينية، يمكن أن يتوصل إلى فهم أفضل لمشهد الشرق الأوسط، حتى وإن كان هذا الفهم الأفضل هو مجرد خطوة متواضعة للأمام، مع التأكيد بأنّ هذا الأفضل وحده غير كاف”.
مع ذلك، يقول الأسطة، فإنّ نظرة عامة على الدراسات توضح أنها سارت في غير اتجاه، فأولًا: ثمة دراسات ركز كاتبوها فيها على أشخاص بعينهم وسارت في اتجاهين؛ التعريف بحياة الشخص والإتيان على أبرز أعماله، أو تحليل نصوص أدبية لهذا الكاتب أو ذاك تحليلًا يتناول فكرة معينة يقرأها الدارس من خلال النص نفسه. ثانيًا، ثمة دراسات تناول كاتبوها فيها موضوعات محددة وتتبعوها من بدايات الأدب الفلسطيني حتى مرحلة زمنية محددة، وأتوا فيها على تتبع الأدب الفلسطيني وتطوره، وبذلك أطلعوا قارئ الألمانية على قطاع عريض من المشهد الأدبي الفلسطيني. وثالثًا: ثمة دراسات تناول أصحابها فيها ظاهرة أدبية محددة أو جنسًا أدبيًا محددًا، وطرقوه من جوانبه جميعها: الموضوعات والاتجاهات والشكل.
على أنّ أكثر الدراسات تركزت على أسماء أدبية معينة هي غسان كنفاني ومحمود درويش وسحر خليفة، وفيما بعد إميل حبيبي وفدوى طوقان، إلا أنّ الشهيد كنفاني تصدر المشهد.
يقف الأسطة بعد ذلك على موقف الدارسين الألمان من الكتّاب والشعراء المدروسين، وعلى نظر الدارسين للمسألة الفلسطينية، إذ يقول إنهم اتفقوا على أنّ معظم الأدب الفلسطيني أدبٌ سياسي، ودرسوه من هذا المنطلق إلا ما ندر، لكن تغير الأمر في فترة متأخرة. ويقرأ موقف اشتيفان فيلد الذي يساوي بين الجلاد والضحية، وكذلك تتبنى أنجليكا نويفرت وجهة النظر الإسرائيلية في اعتبارها حرب ١٩٤٨ “حرب استقلال”، هذا غير المعلومات غير الدقيقة الموجودة عند معظم الدارسين.
وعلى الرغم من هذه الاتجاهات في قراءة الأدب الفلسطيني، والمآخذ، فثمة أحكام جمالية وقِيمية أخرى عند الدارسين، وقلما أدرجوا رأيهم السياسي في متون دراساتهم.
أين فلسطين من العالم؟
الإشكالية السابقة، والتي يتوسع بها عادل الأسطة في كتابه، شغلت الفيلسوف والمؤرخ الإيراني حميد دباشي، صاحب “هل يستطيع غير الأوروبي التفكير؟” في مقالة له عام ٢٠٢١ تحمل عنوان “أين فلسطين من العالم؟”، لا العالم الفيزيائي، بل العوالم الأخلاقية والخيالية، العوالم القوية سياسيًا التي اعتدنا على تمييزها بالعوالم الاستعمارية، أو ما بعد الاستعمارية، أو حتى العوالم التي فككت الاستعمار. ويسأل: عندما نتحدث عن الأدب العالمي والسينما العالمية، فهل في هذه العوالم التي تحظى بتنظيرات عالية مكان للأدب الفلسطيني أو السينما الفلسطينية من دون أن تناقض نفسها أو تتعامى عن حقيقة فلسطين؟
مقال دباشي، كما يقول هو، تدقيق في عالم مثل هذا، يتناول من قصص الشهيد كنفاني قصة قصيرة واحدة يريد من خلالها أن يكشف كيف يُكوّن أولئك الذين قرؤوها ومثلوها ومسرحوها وحرسوا قيمتها الخالدة لَبِنات عالم حقيقي يفكك جميع تلك العوالم الوهمية التي لم يكن لها من شغل غير إنكارهم والتقليل من قيمتهم ومحوهم.
يناقش دباشي القضية الفلسطينية بوصفها قضية إبستمولوجية (معرفية) بالتوازي مع كونها قضية سياسية. إذ تثير فلسطين بالنسبة له، من بين ما تثير، مشكلةً معرفية تتعلق بطريقة إنتاج أوروبا وأميركا الشمالية للمعرفة. فلنُمعن النظر، يقول دباشي، في مفاهيم من قبيل “الأدب العالمي” أو “السينما العالمية” أو “الموسيقى العالمية” أو أي مفهوم يضمّ كلمة العالم. هل للفلسطينيين، وفلسطين بوصفها وطنًا، مكان في هذا العالم؟
يتحدث دباشي عن فيلم الإيطالي ماريو ريزي عن آني كنفاني وقصة القنديل الصغير لغسان، ويخلص إلى القول: “إنّ قضية فلسطين، بوصفها مسألة معرفية، لا تجد لها حلاً لدى سخاء الخيال الليبرالي الذي يتمتع به أولئك الذين يفكرون بـ (الأدب العالمي) والسينما العالمية في الولايات المتحدة وأوروبا، بل حلها الحقيقي موجود هنا في قلب مخيم للاجئين الفلسطينيين حيث تبذر أرملة كنفاني جماليات موقفه المقاوم”.
ليست القضية الفلسطينية مجرد نضال شعب واحد من أجل وطنه، ففي هذا النضال صنع الفلسطينيون “عالمًا” خاصًا بهم، ننخرط فيه جميعًا لنعيد تخيّل جميع النضالات التي شهدتها العصور وصولًا إلى عالمنا المعاصر المتشكل، إلى حد أنّ المناضلين من أجل العدالة في جميع أنحاء العالم، صار العالم لهم كله فلسطينيًا. إنّ المكان الوحيد لفلسطين في العالم (قبل الصهيونية وبعدها)، يختم دباشي: هو بإعادة صياغة العالم بأسره على أنه لا يمكن معرفته إبستمولوجيًا إلى أن (أو ما لم) يكون للفلسطينيين أيضًا مكان في العالم.