ويننغر: لحظة ارتباك
لم يكن أوتو ويننغر (Otto Weininger) شخصية عادية البتة. الشاب النمساوي الذي سيعود له الكثير من الفضل في ولادة علم النفس العيادي أواخر القرن التاسع عشر، كان قد أرخى بظلال كتاباته على كثير من الحقول والميادين؛ في الفنون مع أوغست ستريندبرغ (أحد الأعمدة الثلاثة – مع هنريك إبسن وأنطون تشيخوف – لمسرح الدراما الواقعية)، في الفلسفة مع نيكولا بيرديائيف (فيلسوف الوجودية المسيحية)، وفي الألسنيات مع لودفيغ فيتغنشتاين (للانصاف كان تأثيره على شخصية فيتغنشتاين أكبر منه على ألسنية فتغنشتاين). وبالرغم من عبقرية الرجل، وإجادته اليونانية واللاتينية والفرنسية والإنكليزية والاسبانية والإيطالية، فضلاً عن دراسته للطب والعلوم الطبيعية، إلا أنه لم ينل الكثير من الشهرة لأسباب سياسية، ولعمره القصير. فقد انتحر ويننغر عام 1903 عن عمر ناهز ثلاثة وعشرين عامًا.
لم يترك ويننغر الكثير من الأعمال المكتوبة غير أطروحة الدكتوراه اليتيمة وذائعة الصيت حول “الغريزة الجنسية والروح”، والتي نشرها قبل وفاته تحت عنوان: “الشخصية والجنس”. استولدت تلك الأطروحة الكثير من الجدال. انطلق ويننغر في كتابه من فكرة مركزية في منهج تحليله النفسي. اعتبر الرجل أن كل الأشخاص مكونون من مزيج ذكوري وآخر أنثوي. الذكورة فعّالة، منتجة، واعية، وأخلاقية بطبيعتها. أما الأنوثة فخاملة، غير منتجة ولا واعية. سريعًا، أسقط ويننغر رؤيته تلك على اليهود في أوروبا. وإن كان قد أوضح أن ما يعنيه باليهودية ليس العرق ولا الشعب ولا العقيدة. بل اتجاه فكري وبنية سيكولوجية متوافرة للجنس البشري كله (وإن كانت ملموسة بنحو أكبر بين اليهود). بالنسبة لويننغر كانت اليهودية أنثوية بطبيعتها، لذا، هي شكلت تقليدًا غير ديني يفتقر إلى روح حقيقية. أما اليهودي، فهو أعجز من أن يميز بين الخير والشر. يصف ويننغر المسيحية بـ”المظهر الأسمى للإيمان”، فيما يسم اليهودية بـ”الجبن الأقصى”، ويرى أن البشرية ستدخل بفضل اليهود العصر الأكثر خنوثة من بين كل العصور.
أفكار ويننغر – في صعودها وهبوطها – لم تكن معزولة عن صراع يهود فيينا وبراغ. أو صراع اليهودي العالمي واليهودي المحلي. رفض غالبية يهود فيينا أفكار ويننغر لصالح فرويد، وقبل كثير من يهود براغ أفكار ويننغر. يعود السبب في ذلك إلى أن المأزق اليهودي في براغ كان مختلفًا بشدّة عمّا هو الحال في فيينا. أواخر القرن التاسع عشر، كان يهود براغ ناطقون بالألمانية وقد شكلوا ركيزة الثقافة الألمانية المحلية مقابل التشيكيين. أدّى هذا بدوره إلى امتناع الألمان المسيحيين عن معاداة السامية مقارنة بنظرائهم في فيينا. ونتيجة لذلك، حظيت الصهيونية السياسية بشعبية أقل بكثير بين يهود براغ عمّا هو الحال في فيينا. الصهاينة يكرهون ويننغر، هم غير متحمسين لفرويد بالتأكيد، لكنهم أكثر ميلًا للأخير عند مقارنته بأوتو. “فرويد يطلب منا أن نبقى في الشتات، أما أوتو فيطلب منا الانتحار” يقولون. ويننغر ممنوع من الكلام في “إسرائيل”. لا أحد يأتي على ذكره، أفكاره ممنوعة من التداول، ولو بالنقد. المرة الوحيدة التي جيء بها على ذكر الرجل كانت عام 1977. لحظة الانقلاب التاريخي في “إسرائيل” على الأشكيناز. أعيد تمثيل رواية “الارتباك” لستيفان زفايغ على المسرح. زفايغ كان بارعًا في تصويره حال اليهود في أوروبا أواخر القرن التاسع عشر. بيوت مشوهة ومزدحمة في شوارع ضيقة، وحالة اجتماعية شوهتهم جسديًا وعقليًا، والهروب خيارهم الوحيد. المقاومة غير واردة لأنهم ليسوا في زمن المكابيين الذين حرروا يهودا القديمة من حكم الحشمونائيم. حتى “اليهودي العضلي” أو المحارب (صاغ ماكس نورداو مصطلح “اليهودي العضلي” عام 1898 في المؤتمر الصهيوني الثاني في بازل، وطالب بأن يحل محل يهودي الغيتو المخزي)، الذي يظهر بشكل عابر في شخصية يسوع في الرواية، محكوم عليه بالتضحية بالنفس دون جدوى في ظل حالة الضعف التي يعيشها اليهود. يسوع شخصية فريدة، ومع ذلك، هو يفشل في التخلص من طبيعة الغيتو المخنثة فيموت في الثلج مع اليهود الآخرين. كانت تلك مسرحية لاذعة ولم تتكرر في تل أبيب. اختُلف عليها كثيرًا؛ هل كانت نقداً للأشكيناز أم لأصل مشروع الدولة الصهيونية؟
فرويد ورُهاب القطار
في فيينا، كان حلم سيغموند فرويد هو حلم اليهودي العالمي القلِق بشأن هويته. وفي فيينا، ارتبط “رهاب السفر بالقطار” لديه بـ”الانتقال من الشرق إلى الغرب”. كان في الثالثة من عمره عندما رأى ألسنة لهب الغاز في محطة سكك حديد بريسلاو تحترق مثل “أرواح في الجحيم”. يسافر يهود شرق أوروبا بشكل غير قانوني على متن قطار نحو الغرب. وهناك يتم الاعتداء عليهم وضربهم في كل محطة. يواصل المرتحلون السفر إذا ما كان جسدهم قادرًا على تحمل الضرب. كانت رحلة اليهودي إلى كارلسباد عبر باريس أو روما، هي أبرز ما يميز اليهودي العالمي، ذاك الذي يريد الخروج من الشرق. ومع ذلك لا يلبث اليهودي فور وصوله إلى باريس أن يُدعى برجل السكري (كان عالم النسل البريطاني جورج بيت ريفرز يُطلق على مرض السكري في عشرينيات القرن الماضي مسمى “المرض اليهودي”). كطبيب، عرف فرويد معنى تلك السمة؛ اليهودي غير قادر على العمل في المجتمع العالمي دون ظهور أمراض بيولوجيا اليهود الفطرية.[1]
في أحاديثه، كثيرًا ما كان فرويد يردد نكتة قديمة في أوروبا. وكانت تقول: صعد مرة يهودي معدم من دون تذكرة في القطار السريع المتجه إلى كارلسباد، واختبأ في مقصورته مرتاحًا وفك أزرار معطفه ووضع قدميه على المقعد. وفي لحظة ما، دخل رجل يرتدي ملابس عصرية إلى مقصورته. استجمع اليهودي قواه على الفور واتخذ وضع الجلوس المناسب. قام الغريب بتمرير أصابعه بين صفحات دفتر الملاحظات وأجرى بعض الحسابات، وفكر للحظة، ثم سأل اليهودي فجأة: “المعذرة، متى يكون يوم الغفران؟ – آه، قال اليهودي، ووضع قدميه على المقعد مرة أخرى قبل أن يجيب.
كان فرويد يريد من تكرار تلك النكتة القديمة التأكيد على أن اليهودي العالمي الجديد سيظل مجرد خائف مرتحل. ومع ذلك، كان قلق فرويد طوال حياته من أن يفوت القطار اليهود بدلًا من التواجد فيه. ماذا لو فات قطار الغرب فرويد عندما كان في الثالثة من عمره؟ ما كان ليأتي إلى فيينا ويصبح عالميًا، وكان سيبقى إلى الأبد يهوديًا بدويًا خائفًا. فرويد تجسيد للانقسام الذي يشعر به اليهود في أن يكونوا عالميين وإقليميين في نفس الوقت، وفي أن يكونوا مرئيين وغير مرئيين أيضًا. الترحال شرط عالمية اليهودي. لذا، هو لم يقتنع بالقدر الكافي بالمشروع الصهيوني في فلسطين.
رد فرويد على رئيس بعثة “صندوق جمع التبرعات الصهيوني في فلسطين” في فيينا حاييم كوفلر، في 26 شباط/ فبراير سنة 1930.[2]
“إسرائيل” وبيت الدمية
يتشارك أوغست ستريندبرغ وهنريك إبسن في أنهما سبقا أوتو ويننغر وسيغموند فرويد في تناولهما المسائل النفسية في المسرح. وإن كان الأول أكثر انشدادًا لفرويد، والثاني أكثر ميلًا لويننغر. كان ستريندبرغ يعتمد المسارح الصغيرة وقليلة العدد. بالنسبة له، المسرح غرفة يدخل إليها عدد قليل من المشاهدين لتكون أشبه بعيادة نفسية يتشارك فيها الممثلون والمشاهدون قضية نفسية. بالنسبة لإبسن، المسرح غرفة هُدم جدارها الرابع، والمشاهدون يطلون على الغرفة من خلال معاينة التجربة الوجودية للممثلين بصمت. والرجلان ظلا سواء في نظرتهم الملتبسة للمرأة. الأول يقرعها، والآخر يعطيها الحكمة والقدرة، والاثنان يحاكيان من خلالها النفس الإنسانية.
في مسرحيته “بيت الدمية” (1879)،[3] يعرض إبسن لنورا؛ زوجة السيد تورفالد هيلمر التي تنشد المساواة مع زوجها وتتحمل معه كل أعباء البيت المالية. تستدين نورا، تتورط في الدين، وتزوّر إمضاء أبيها إنقاذًا لبيت الزوجية. لكنها وفي لحظة ما، تدرك أن كل ما قاتلت من أجله لم يكن غير بيت دمية. فتغادر البيت غاضبة وتصفق من خلفها الباب. نورا كانت اليهودية بمنظار ويننغر التي أهانت نفسها (زوّرت وسرقت) للحفاظ على البيت الأوروبي، لكنها لوهلة اكتشفت المشكلة. هذا البيت ليس سوى دمية قذرة شوهت روحها. تتخلى نورا عن كل مسؤولياتها تجاه أولادها، وتعلن انسحابها من البيت. وتقفل بابًا أثار الرأي العام في أوروبا كلها حينها.
كـ”إسرائيل” تمامًا، يبدو بيت الدمية هذا اليوم. ولقد أهانت النفس اليهودية روحها مرارًا بالتزوير والسرقة لإنقاذ البيت الأوروبي/ الغربي. ثمة شعور في “إسرائيل” بضرورة الخروج من البيت، كما فعلت نورا تمامًا، نحو الشرق هذه المرة – كما يحاول نتنياهو السير منذ عام 2011 -، أو خارج فلسطين، وهو ما قد تظهر علائمه في التالي من هذه الحرب.
[1] Cathy S. Gelbin and Sander L. Gilman, Cosmopolitanisms and the jews, University of Michigan press, America, 2017.
[2] يرفض فرويد في الرسالة طلب حاييم كوفلر بدعم المشروع الصهيوني قائلاً: ليس بإمكاني الاستجابة لطلبك، ومن يريد التأثير على الجماهير يتوجب عليه منحهم أمراً ما يحفزهم، وموقفي من الصهيونية لا يسمح لي بذلك ]…[ أنا لا أعتقد أن فلسطين ستتحول إلى دولة يهودية، فالعالم المسيحي والإسلامي لن يكونوا يوماً مستعدين لتسليم الأماكن المقدسة لتكون تحت إشراف اليهود. أنا أعتقد أن الفطنة تقتضي تأسيس الوطن اليهودي في بلاد لا يثقلها التاريخ، وأعلم أن وجهة نظر عقلانية كهذه ليس بإمكانها إثارة الحماسة في صفوف الجماهير ولن تحظى بدعم مالي من الأغنياء. المصدر: “المكتبة الوطنية الإسرائيلية” https://blog.nli.org.il/en/freud_on_zionism/
[3] هنريك إبسن، بيت الدمية، دار المدى للثقافة والنشر، 2007، الناشر جريدة الحياة.