لا بدّ من التوقف بتأنٍ، ومن البحث في تعمّق، أمام قراءة ماذا فعلت حرب غزة في الرأي العام فلسطينيًا وعربيًا وإسلاميًا، ورأيًا عامًا عالميًا، ولا سيما أوروبيًا وأمريكيًا. وذلك ابتداءً من الانتصارات العسكرية التي حققتها المقاومة في الحرب البريّة، ومرورًا بالصمود الشعبي في مواجهة حرب إبادة للبشر، وتدمير شبه شامل للدور والمستشفيات، وانتهاءً بالفعل السحري الذي تركته كوفية أبي عبيدة، وخطاباته في حرب الإعلام، وتحريك إصبعه متوعدًا، وتحوّله قدوة للأطفال.
وإذا أُجّل، لمقالة أخرى، تناول هذا التأثير بالنسبة إلى تأثيره في الجماهير الفلسطينية، والعربية والإسلامية، والعالم-ثالثية، لما يمثله المتلقي هنا من خصوصية معبأة، أصلاً، ضد الكيان الصهيوني وأمريكا، أو معبأة بالانحياز العام للمقاومة والقضية الفلسطينية، فإن ما سيفتح موضوعه، إنما الرأي العام الأمريكي – الأوروبي، وما حدث فيه من انقلاب، أو ما يشبه الانقلاب، ضدّ الكيان الصهيوني، من جهة، وتعاطف مع القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني، وحتى مع شعار التحرير “من النهر إلى البحر”، من جهة ثانية.
وهنا أيضًا ثمة بُعدان، لا بدّ من الفصل بينهما: الأول تأثيره في الجاليات الفلسطينية والعربية والإسلامية المهاجرة في بلدان الغرب، ولا سيما تأثيره في الأطفال، والأجيال الشابة الصاعدة. والثاني تأثيره في الشباب الغربي، لا سيما ابتداءً من عمر 18-24، ثم 25-40 فأعلى، بزخمٍ أقل.
الأمر المُدهش يتجلى، أول ما يتجلى، بالأحاديث التي يرويها أهل الأطفال والشباب الذين لم يبلغوا حتى 19 أو العشرين من أعمارهم، وما أحدثته حرب غزة في وعيهم ومشاعرهم، سواء أكان بالنسبة إلى انتمائهم الفلسطيني، أو التصاقهم كعرب ومسلمين بالقضية الفلسطينية، والمقاومة، والمقاطعة، والتجرؤ في النشاطات والتظاهرات التي تحدث في بلاد اللجوء. وذلك بالرغم من شدة الضغوط التي تمارسها الحكومات الغربية عليهم، حتى في أماكن عملهم، أو جامعاتهم ومدارسهم.
كثيرون من الأهل يروون قصصًا كيف لابنة في مقتبل العمر انقلبت من إنسان غير مهتم بالسياسة إلى نشطة ومناضلة ومستعدة للتضحية. بعضهم حاولوا أن يهدئوهم أو يهدئوهن، أو يطلبوا منهم الاعتدال، وعدم التهور.
هذه الصورة المتكررة في آلاف الحالات تحتاج إلى قراءة مدققة في تفسير ما أحدثته حرب غزة في هذا الشباب المغترب، الذي لم يعد يعاني مما يعانيه شباب المخيمات الفلسطينية، أو زملاؤهم من مواطني البلاد العربية والإسلامية من صعوبات الحياة في بلدانهم. وقد انتقلوا في الغرب إلى وضع يفتح أمامهم آفاقًا وفرصًا لمستقبل أصبح أكثر سهولة ويسرًا.
كيف يمكن أن يُفسّر ما فعلته حرب غزة بأبعادها المختلفة، وهي تتجمع في قلوب الملايين من الفلسطينيين والعرب والمسلمين، وعقولهم، في بلاد “الغربة” و “الهجرة”.
هنا لا بدّ من أن تُعطى أهمية استثنائية لكل من عملية “طوفان الأقصى”، ثم الحرب البريّة، وما أبدته المقاومة من قدرة، وتدبير وإعداد مسبق، ومهارات في القتال. وقد واجهت الجيش الصهيوني ندّاً لندّ، وكانت يدها هي العليا في كل المواجهات الصفرية، وعلى مدى ثمانية أشهر. مما أدخلها في علم الحرب لتكون نموذجًا سوف يُفرد له فصل بذاته. ثم ليتجلى في الصمود الشعبي في وجه حرب إبادة، تفردت، ما بين المجازر وحروب الإبادة، في التاريخ المعاصر، كونها شكلت حربًا ضد المدنيين والمعمار، قائمة بذاتها ولذاتها، وعلى مدى ثمانية أشهر، يومًا بعد يوم، بلا توقف ليلًا نهارًا، وتحت الصورة والصوت، وعلى مشهد العالم بأسره، وفي الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، الأمر الذي هزّ ضمائر ومشاعر كل الشعوب التي تنتسب لفلسطين والعرب والمسلمين، وشعوب العالم.
وهنا لا بدّ من التوقف عند مشاهد فردية لبطولة الإنسان، وتحمّله فوق ما يتحمّل البشر. وهو ما يجب أن يدخل في تفسير ظاهرة الانقلاب الذي حدث في أجيال الشباب المقبلين على الحياة والمستقبل، فتصدمهم حرب غزة لينتقلوا من حال إلى حال أدهش الأهل، قبل أن يدهشوا في ما عرفته تظاهرات التحدي، بما فيها انتفاضات الجامعات.
أما البُعد الثاني، فهو تأثير حرب غزة في الرأي العام الغربي، ولا سيما الشباب بين 18-24، عندما وصل، طبقًا لاستطلاعات أمريكية، إلى نسب عالية تعدّت الـ52%، بما في ذلك حتى في أوساط شبيبة يهودية، فقد وصل الأمر بالبعض أن يعلن عدم الحاجة لبقاء “دولة إسرائيل” من حيث أتى.
إن التفسير على مستوى الرأي العام الشعبي في أمريكا والغرب عمومًا، لا بدّ من أن يُحسب لفعل الضمير العالمي في وجه جريمة إبادة بشرية، وقتل جماعي، وتدمير شبه شامل حتى للمستشفيات. ولا شك، من زاوية أخرى، في أن ما أبدته قيادة الكيان الصهيوني من تحدٍّ للقوانين الدولية، والقانون الدولي الإنساني، فضلًا عن الاستهتار بالقِيَم الإنسانية، والأخلاق المتفق عليها عالميًا، وقد لعب دورًا مهمًا في تدمير سمعة “إسرائيل”، وأظهرها على حقيقتها.
إن انقلاب الرأي العام “ضد إسرائيل” بعد رسوخ التعاطف معها على مدى 75 سنة، يشكل مصيرًا استراتيجيًا سلبيًا لمستقبل الكيان الصهيوني، لا سيما إذا ما ترسّخ مستقبلًا، وتمكنت القوى الحرّة في العالم من مواصلة المقاطعة، ومواصلة الحملة في مواجهة ما يمكن أن يدبّر من مؤامرات أمريكية وغربية على القضية الفلسطينية، ومحاولة إعادة الاعتبار للكيان الصهيوني، وأمريكا والغرب عمومًا.
وبالمناسبة، في الخامس من شهر حزيران/يونيو 2020، نشر موقع Unherd Daily (آنهرد ديلي) استطلاعًا أشرفت عليه “فوكلداتا” Focaldata، بأن 54% من الشباب الناخبين للبرلمان البريطاني، أعمارهم ما بين 18-24 سنة، وافقوا على شعار “إسرائيل يجب ألاّ تبقى”. وكانت النسبة 35% لمن بين 25-34. وأما بالنسبة إلى 25-64 سنة، فبلغت حوالى 16%.
وأعلن المصدر نفسه، أن مراجعة وسائل التواصل الاجتماعي تفيد بأن 44 مليون أظهروا على “إنستجرام” تعاطفًا مع الفلسطينيين.
إن هذه النتائج تشكل خسارة استراتيجية كبرى للكيان الصهيوني، نتيجة للمحصلة العامة لحرب غزة، طوال الأشهر الثمانية الماضية. ويبدو أن نتنياهو سيواصل، إذا استطاع، مسيرة الهدم الاستراتيجي للكيان الصهيوني.
وذلك لينطبق على قادة الكيان الصهيوني: {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِين} (الحشر:2)