إلى الشهيد الجزائري سمير حمداوي الذي قتلته الشرطة الفرنسية منذ أيام بعد اعتقاله متظاهرًا لأجل فلسطين
ليل الإثنين المصادف للأول من نوفمبر من عام 1954، شنّ 1200 مجاهد جزائري هجومًا متزامنًا في مختلف المناطق العسكرية على امتداد خريطة الجزائر. كان عتاد المجاهدين أقل من عددهم، حيث تقدّر قطع السلاح المتوفرة بأربعمائة، إلا أنّ عدد عمليات المقاومة وصل إلى الثلاثين عملية، مسفرة عن مقتل 30 مستوطن أوروبي وجرح 24، وخسائر مادية بملايين الفرنكات الفرنسية. كان نداء الثورة قد أعلن قبلها بيوم، 31 أكتوبر، حيث تمّت طباعة وتوزيع ما عرف ببيان الأول من نوفمبر بين ليل الأحد وصباح ذلك الإثنين، بإشراف من القائد محمد بوضياف، ومن ثم لتبدأ العمليات مع حلول الظلام. يرجع اختيار هذا اليوم لاعتبارات سياسية وعسكرية، وهي مصادفته لعيد La Toussaint المسيحي، وعطلة نهاية الأسبوع، حيث يذهب ضباط العدو الفرنسي للإجازة.
بعدها بسبعين سنة، وبذات العدد من المقاومين، في صباح السابع من أكتوبر، المصادف لعيد العرش اليهودي، وخلال عطلة نهاية الأسبوع، تكرّر الحدث في فلسطين، ولكن بشكله التاريخي الخاص، وتزامنت العمليات العسكرية وبث بيان “طوفان الأقصى” على لسان القائد محمد الضيف.
يرى الدكتور محمد العربي الزبيري في كتابه “الثورة الجزائرية في عامها الأول”، أن أهمية السنين التي تلت بيان نوفمبر لم تكن في أن الثورة كانت مسلحة، فالشعب الجزائري لم يلقِ السلاح منذ أن داست أرضه أقدام أول جندي فرنسي، ولكن الأهمية بالنسبة للزبيري “ترجع إلى عدد من النتائج الإيجابية التي حققتها في ظرف قصير جداً بالنسبة إلى تاريخ الشعوب”. وإذا ما نظرنا بلغة الأرقام لما قاله الدكتور فقد استمر استعمار الجزائر 132 عامًا، بينما احتاجت حرب التحرير والثورة بعد إعلان الفاتح من نوفمبر إلى 7 سنوات، أي قرابة 6% فقط من مجمل تاريخ الاحتلال الفرنسي.
بعبارة أخرى، إن الأحداث تغيرت بشكل ثوري ومتسارع، وكأنما تم تخصيب التاريخ في جهاز طرد مركزي. ونحن اليوم بعد 8 شهور على بيان “طوفان الأقصى”، يستطيع أي مراقب فينا الحسم بأن النتائج الإيجابية للقضية الفلسطينية من حرب السردية وخسائر للعدو في بنيته ومجتمعه وشرعيته ومشروعيته، مما لم يحدث منذ 76 عامًا. إلا أن هذا وبالتأكيد لا يكفي، والأهم هو أنه لم تكن هذه النتائج لتكون لولا تضحيات كبرى. وفي إطار حرب المصطلحات، لا يجوز هنا، معرفيًا قبل عاطفيًا، الحديث عن خسائر، كما يحاول مثقفو الأنظمة العربية تمريره. وذلك عبر تلفيق حسابات ربح وخسارة وكأننا في بزنيس لا حركة اجتماعية وتاريخية. فما نقدمه اليوم هي تضحيات، أي ذلك البذل الذي لا مقابل مادي مباشر له. وهي أكبر الدروس التي يعلّمها أهل غزة للبشرية، فأهل الشهيد أو المصاب المنتشل من تحت الركام، لا يتحدث كما يفكر مادي ومترف عربي في الخليج، بأن هنالك خسارة للمنزل والممتلكات بحسابات مالية. بل والشواهد كثيرة، تراهم مباشرة يتحدثون عن الصمود لحماية مكسب مجتمعي (وهو ذات المنطق لحاضنة المقاومة في لبنان واليمن)، والإشارة مباشرة إلى سردية تاريخية كبرى عنوانها المقاومة والأقصى وفلسطين والتحرير، وهذه الأمور لا تحسب بحساب رياضيات الربح والخسارة بل هي في نطاق أخلاقي ومعرفي مختلف.
يمكننا الاستدلال أيضًا بأن الأثر النفسي للتضحية الثورية على المرء مختلف عن أثر الخسارة المادية المجرّدة. وهذا ما لا تفهمه ذهنية الحداثة الأوروبية، ويتم إسقاط حساباتهم النفسية لوقع الخسارة في الأرواح والممتلكات علينا، بل حتى إسقاط إطار علم النفس وآثاره. وإذ لا يمكن نكران الأثر النفسي المتراكم لأجيال وللأطفال في غزة على وقع جرائم الصهيونية، إلا أنه لا يمكن إغفال أننا نتكلم عن نموذج لا يستوعبه علم النفس الحديث، فالصمود والتضحية والانتماء لقضية تتسامى على الفرد والفردية تولّد أثرًا نفسيًا مختلفًا لا يتقارن مع صدمات من كوارث بيئية أو بشرية، شتّان. وهذه هي الخلاصة التي توصل لها فرانز فانون في الذكرى الخامسة لبيان الفاتح من نوفمبر، في كتابه: الثورة الجزائرية في عامها الخامس. فوفقًا له، رغم كل العنف الاستعماري الفرنسي على الجزائريين، فإن الألم لم يؤد، بتعبيره، سوى إلى قيام “جماعة روحية تكوّن أقوى دعامة لحصن الثورة الجزائرية”، وليس لخسارة وتفكك للشعب والمجتمع. وهنا نفهم قول القائد الثوري عماد مغنية عن الروحية بأنها أصل، وكما يشير الدكتور سيف دعنا إن في هذه الحركة الاجتماعية والتاريخية من ينتصر هو من يستطيع تحمّل الأذى والصمود أكثر، أي من يستطيع التضحية، في مقابل أن الحسابات المالية للربح والخسارة هي منطق جبهة العدو.
المسألة المختلفة اليوم هي تسارع الزمن، ويعود ذلك لسرعة وسائل التواصل والنقل في عصرنا الحالي، ومن الممكن مقاربة ذلك بأن ما احتاج إلى يومين من أول البيان إلى العمليات ضد العدو في الجزائر أنجز في ساعات معدودة في فلسطين. وكذلك عملية الانقلاب في السردية، والتي احتاجت لسنوات في الجزائر، أنجزت في شهور في حالة “طوفان الأقصى”.
إلا أنّ ما يجعل فلسطين تعيش اليوم “لحظة جزائرية” ليست هذه المحددات والمقارنات الأقرب للرمزية. بل إن اللحظة الجزائرية لفلسطين منطلقة من مقارنة الركائز المادية التي أدّت إلى الثورة فانتصارها وتحرير الجزائر، وحقيقة أن النموذجين الاستيطانيين الإحلاليين، الصهيوني والفرنسي، يتشابهان بشكل قلّما تم التطرق له.
ككل المشاريع الاستيطانية، ينقسم مجتمع المستوطنين والمستعمرين إلى فئات عدة، وتحت مظلة التقسيم السياسي لليمين واليسار الاستعماريين. وفي تاريخ الاستعمار الفرنسي، فإن التقسيم يتخذ شكل: الكتلة السياسية في باريس الأكثر براغماتية (تقرأ الأكثر خبثًا) والكتلة السياسية الأكثر راديكالية للمستوطنين في الجزائر المحتلة أو ما يسمى حينها “الجزائر الفرنسية”، كحركة “الأقدام السوداء” المكوّنة من المستوطنين الذين ولدوا في الجزائر المحتلة.
تنعكس هذه البنية على النموذج الصهيوني بشكل أعقد، ولكن للتبسيط، فإن الكتلة السياسية للمستوطنين في الضفة الغربية واليمين الديني الصهيوني كحركة “فتيان التلال” تمثّل نظير المستوطنين الأوروبيين في الجزائر، بينما تمثل “تل أبيب” والنخبة الليبرالية فيها وصولًا للكتلة السياسية الصهيونية في الولايات المتحدة نظير العقلانية النسبية لحكم باريس.
المسألة هنا، أن هذا التقسيم، اليمين واليسار، لا يجعل الطرفين، من ناحية المبدأ، مختلفين، فهم ليسوا مختلفين لكنهم على خلاف. ففي الجزائر يتفق المركز الفرنسي والمستوطنين على مقولة أن “البحر الأبيض المتوسط يشق فرنسا مثلما يشق نهر السين مدينة باريس”، أي إن الأرض الجزائرية جزء لا يتجزأ من الأرض الفرنسية. وكذلك لا يختلفان في نفي الوجود التاريخي للشعب الجزائري وهي نقطة أساسية لتبرير أصل المشروع الاستيطاني مهما اختلفوا تحت سقفه. أظهر المخرج الإيطالي جيلو بونتيكورفو ذلك ببراعة في فيلم “معركة الجزائر” في مشهد سؤال ونقد الصحافة اليسارية للكولونيل فيلبي الذي قدم لقمع الثورة بدموية متخذًا سياسة تعذيب المقاومين حتى الموت، حيث وقف أمام الصحفيين الذين ذرفوا دموع التماسيح على شهادة العربي بن مهيدي تحت التعذيب، ليقول: حان دوري لسؤالكم هل تقبلون التخلي عن الجزائر الفرنسية والرحيل؟ فصمت الجميع، يمينًا ويسارًا، ليبراليين واشتراكيين. ذات الأمر صهيونيًا؛ فمسألة الضفة الغربية وطريقة احتلالها والحفاظ على ديمومة الكيان مسائل تنفي الاختلاف، ولكنها أيضًا أبرز دوافع الخلاف داخل المعسكر الاستعماري. كان اللعب على هذا الخلاف أحد مفاتيح النصر الجزائري وهو ما تمارسه قيادة المقاومة الفلسطينية ببراعة اليوم.
في الثلاثينيات، حدث خلاف شديد بين المستعمرين في باريس والمستوطنين في الجزائر، ففي حين كان الإنجليز يقتلون الشيخ القسّام ومن ثم يقمعون الثورة الكبرى في فلسطين، كانت الاحتجاجات الجزائرية في أوجها وإن بمطالب متدنية قائمة على المساواة في الحقوق السياسية مع المستوطنين. ليأتي ما عرف بـ”مشروع بلوم-فيوليت”، وهو مشروع يرأسه رئيس حكومة الجبهة الشعبية اليسارية، والذي يقضي بإعطاء نخبة من الجزائريين، قرابة العشرين ألفًا، حق التصويت. بتعبير آخر، هو صنع نخبة ذات امتياز على شعبها متعاونة مع المستعمِر، إلا أن المستوطنين في الجزائر أفشلوا المشروع، رفضًا لأي شكل من أشكال المساواة مع أي من الجزائريين.
يصف الدكتور الزبيري هذا الإفشال بأنه “من حسن حظ الجزائريين”، فقد كان مشروع اليسار وبلوم “مخططًا جهنميًا يهدف إلى حرمان الشعب الجزائري من حقوقه السياسية وبما يمنع الحركة الوطنية من التطور” بينما أدى إفشال المشروع إلى فضح مشاريع حكومة اليسار؛ أنها لا تسيطر على الوضع وكلامها مجرّد شعارات للاستهلاك، ليعود مشروع الانفصال النهائي عن فرنسا محورًا أساسيًا للحركة الوطنية الجزائرية، وبشكل تحوّل ليكون خيارًا شعبيًا واسعًا، وصلت أصداؤه إلى باريس. عليه، يسارع شارل ديغول لإلقاء خطاب في قسنطينة في ديسمبر من عام 1943، معلنًا عن رفع نسبة المسلمين في المجالس المحلية، وثانيًا منح الجنسية إلى 40 ألف جزائري، في محاولة امتصاص الغضب ودمج الجزائر وابتلاعها كليًا عبر أبنائها.
في حقيقة الأمر، كان ديغول يقول للجزائريين اقبلوا بهذا المشروع، والأربعين ألف جنسية فرنسية، أو سيكون المصير أربعين ألف جثة جزائري، وهذا ما حصل. فقد فات الأوان على مشروع ديغول مع تحوّل الحركة الوطنية الجزائرية رغم اختلافاتها، إلى سيل جارف لم توقفها سوى مذابح مايو 1945، وارتكاب الفرنسيين للإبادة عبر قتل 45 ألف جزائري في غضون أسبوع.
كانت هذه المذبحة هي الفيصل بين مختلف التيارات الجزائرية، فأيضًا وكما في كل المشاريع الاستعمارية، انقسم الجزائريون سياسياً بين خط آمن بالكفاح المسلّح والعنف الثوري، وخط الخيار السلمي الهادف للاندماج مع فرنسا، بقيادة المتذبذب فرحات عباس، وما يسمى تيار “العباسيين”، وهو الذي وسم عمليات الثورة بالإرهاب في سنتها الأولى. بينما كانت حصة الأسد للتواطؤ مع الاحتلال من نصيب مصالي الحاج وما يسمى بحركة الانتصار للحريات، وهي النموذج الجزائري لتيار ياسر عرفات وأوسلو ومحمود عباس والسلطة اليوم. كانت هذه التيارات المساومة والمتواطئة مع المستعمر بوابة محاولة جديدة بقيادة ديغول إلى إعادة ترتيب التشكيل السياسي للجزائر الفرنسية عبر دمج هذه النخبة وإعطائها امتيازات ووجود في المجالس المحلية بوزن أن أصوات تسعة جزائريين تساوي صوت مستوطن فرنسي واحد. هذه الخلفية التاريخية هي مشترك جزائري وفلسطيني، والممهدة لانفجارين: في بيان نوفمبر 1954 وبيان “طوفان الأقصى” 2023. وكل أزمة دخلت فيها السلطة الفلسطينية ومشروع أوسلو، كانت قد واجهت حركة انتصار الحريات ومشروع المصاليين. ومن جهة أخرى، كان الخلاف بين شكل فرنسا الجزائرية بين المستوطنين والمستعمرين في باريس، وصل إلى مرحلة غير مسبوقة، كما الصراع على شكل الدولة الصهيونية اليوم، بين اليمين واليسار.
لا تتوقف اللحظة الجزائرية فلسطينيًا في الظروف التي أدت إلى حرب التحرير، بل في ظروف الحرب ذاتها عربيًا وعالميًا. فعلى المستوى المشاريع الاستعمارية عالمًيا، كانت هزيمة فرنسا في معركة “ديان بيان فو” بفيتنام مايو 1954، وأزمة الهند-الصينية قد أدخلت الإمدادات العسكرية الفرنسية في أزمة كما أثبتت أن هزيمة الجيوش الاستعمارية ممكنة. قبلها شكّلت ثورة 23 يوليو في مصر، بقيادة جمال عبدالناصر، ظهيرًا للحركة الوطنية الجزائرية تمويلًا وإعلاما وعسكريًا. فقد شكلت إمدادات السلاح للجزائر من كل من تونس والمغرب، أزمة لفرنسا لتبني ما سمي “خط موريس” عام 1957 وهو عبارة عن جدارين وأسلاك على طول الحدود التونسية والمغربية لمنع تدفق المقاتلين والسلاح.
مثلت سنين الثورة الجزائرية مزيجًا بين التضحيات الكبرى والبطولات العسكرية الكبرى والمكاسب الكبرى، فالعمل العسكري أدخل الفرنسيين في حالة جنون، وحملات اعتقال وتعذيب غير مسبوقة، أدخلت الجزائريين في مرحلة مصيرية من الصمود، وأنهت أي مجال من التسويات والمناورات الاستعمارية. كما أنها أدخلت الجيش الفرنسي والحكومة الفرنسية وسلطة المستوطنين وباقي الأحزاب في أزمة اتهام بعضهم البعض حول تحمل مسؤولية الإخفاقات. في الوقت نفسه، بدأ سيل الاعتراف الدولي بشرعية الحكومة الجزائرية المستقلة.
اليوم، وفي العام الأول من بعد “طوفان الأقصى”، منذ البدء الفعلي للثورة الفلسطينية، تعيش فلسطين وضعًا مصيريًا، شرطها الصمود والاستمرار في المقاومة، أسوة بسنين الثورة الجزائرية. فصهيونيًا، تعيش المستعمرة أزمة داخلية بين أطرافها، والداعم الإمبريالي في الولايات المتحدة يعيش أزمة عالمية من الحرب الروسية-الأوكرانية إلى تهديد تايوان، ومشروع عرفات وعباس انتهى ولا مجال إلى إعادة تأهيله. وللمقاومة الفلسطينية ظهير وداعم حقيقي في طهران الإسلامية، وجبهات الإسناد المتوثبة من العراق ولبنان واليمن. والشرعية الفلسطينية واللاشرعية الإسرائيلية تسدلان بأزمة الأيديولوجيا الصهيونية حول العالم، والاعتراف بالدولة الفلسطينية.
بدون شك إن فلسطين تعيش لحظة جزائرية، ولكن ذلك لا يقتضي بالضرورة أن يكون المصير جزائريًا، فالمسألة تستدعي العمل، ولم تنجح الثورة الجزائرية وهي حبيسة الأرياف وجبال الأورال، بل حين وصولها المدن. لا يمكننا اليوم وفي الشهر التاسع من السنة الأولى من “طوفان الأقصى”، سوى نقل الثورة إلى مدن الضفة، وإلى القدس. أمّا خيار أن تنتصر فلسطين وهنالك كتلة جغرافية وبشرية من البلاد معفية نسبيًا من التضحية تنتظر الخلاص من السماء، فالجزائر تخبرنا العكس: لم تكن أعوام الثورة بعد بيان نوفمبر في أبرز عناوينها سوى إنهاء الركون والإقصاء والحرب على المتعاونين مع المستعمر.