من غير المعتاد بدء مقال سياسي بقصتين بعيدتين نسبيًا عن صلب الموضوع، خاصة أن القصة الأولى منهما مرتبطة بالانتحار. ومع ذلك، نرى القصتين ضروريتين لفهم مآرب المقال، الذي يركز على تحولات الهوية لدى اليهود الأمريكيين ودورهم السياسي والثقافي في الولايات المتحدة.
القصة الأولى
لم يكن انتحار إستي فاينشطاين عام 2016 حدثًا عاديًا في “إسرائيل”. إستي كانت إحدى ناشطات “حسيدية غور” حتى عام 2008 قبل أن تتخلى عن تدينها كليًا. نتيجة لذلك، حكم حاخام غور بقطع العلاقة بينها وبين بناتها الست. خمس من بناتها استجابوا للحكم. عانت فاينشطاين بسبب ذلك، وحاولت المرأة الانتحار مرارًا قبل دخولها مستشفى للأمراض العقلية. إستي التي صارت ناشطة نسوية تلقي المحاضرات في المعاهد والجامعات، وُجدت جثة هامدة في مدينة أسدود أواخر حزيران 2016 وبيدها قصاصة من ورق كتبت عليها:
“في هذه المدينة أنجبت بناتي، وفي هذه المدينة متّ بسبب بناتي”.
كان انتحار فاينشطاين فعل اعتراض على مجتمع “غور” الغارق في شريعة لا تأبه بالمشاعر الإنسانية. تحرّم غور اللذة وتزدريها، ثم تزيد على الشريعة اليهودية بعضًا من الحواشي التي تحد إباحة اللذة حتى بين الرجل وزوجته. بالخلاصة، كان انتحار فاينشطاين الكوة التي تسلل منها الضوء إلى هذه الجماعة.
في تقرير للقناة الثانية بعيد الحادثة ظهرت أرقام مرعبة؛ 5.4% من الشباب الحسيديم تعاطوا الهيروين والكوكايين والإكستازي مرة واحدة على الأقل، و24% منهم تعاطوا مواد خطرة، مثل غاز الضحك، مرة واحدة على الأقل أيضًا. في التقرير، شهادات أشخاص تخلوا عن تدينهم نهائيًا. ثمة تلازم بين التدين الحسيدي والحبوب المهدئة للأعصاب، يقول أحدهم: “الكآبة منتشرة في حسيدية غور[1] وأي شخص يعبّر عن شكوك في مواضيع الإيمان، أو الممارسات، يجد نفسه عند طبيب نفسي وبجيبه عبوة سيبرالكس لعلاج الكآبة. الحاخام هو من يدفع المال مقابل الدواء، ومن هناك تصبح الطريق إلى الحزن والوحدة قصيرة جدًا”.[2]
القصة الثانية
وُلد موشيه كوبل عام 1956 لعائلة يهودية أمريكية (تنتمي إلى حسيدية غور)، في مقاطعة مانهاتن بمدينة نيويورك. أظهر الفتى طوال سنوات دراسته شغفًا بالرياضيات والبرمجة. تخرج موشيه من جامعة يشيفا في نيويورك، ونال الدكتوراه من جامعة نيويورك. ثم عكف على دراسة التلمود وألّف كتابين عنه. عام 1980، انتقل كوبل إلى “إسرائيل” وعاش في مستوطنة “إفرات” جنوب القدس، وبدأ بتسلق السلم الأكاديمي في جامعة “بار إيلان”، إلى أن دخل السياسة عام 2004 كعضوٍ في اللجنة المركزية لحزب الليكود. ومنذ دخوله “الليكود” بدأ كوبل بالانخراط في مجموعة ضغط تدعو إلى إعادة صياغة الدستور بشكل يُكرِّس الهوية اليهودية لـ”إسرائيل”، وتقليص وصاية القضاء والمحكمة العليا. ولتحقيق هذه الغاية، أسس كوبل عام 2012، منتدى كوهيليت للسياسات، في حي “جفعات شاؤول” بالقرب من مقر الكنيست بالقدس.
استندت رؤى “كوهيليت” السياسية إلى القومية اليهودية سياسيًا، وإلى مبادئ السوق الحرة اقتصاديًا، ودعا إلى تعزيز الهيمنة الشعبوية. يعمل “كوهيليت” اليوم بوصفه وكالة أكثر منه مركز أبحاث، وقد استطاع تحقيق عدد من الإنجازات أبرزها قانون الدولة القومية عام 2018.[3] كما قدّم المنتدى الاستشارات القانونية لإدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب لتأييد الاستيطان في الضفة الغربية وتجريم حملات المقاطعة، كما موَّل أوراقًا بحثية بقيمة 1.3 مليون شيكل لمساعدة وزير الاقتصاد الإسرائيلي السابق نير بركات، ليتبنى خطة لزيادة المستوطنات في الضفة.
الأهم من ذلك كله، هو أن المنتدى كان وراء قانون الإصلاح الجذري الذي قدمه وزير العدل ياريف ليفين، ورئيس لجنة الدستور والقانون والقضاء بالكنيست سيمحا روثمان، في يناير/كانون الثاني 2023، بهدف إضعاف المحكمة العليا، وتقويض الرقابة القضائية على الحكومة. أموال “كوهيليت” لا تأتي من رجال المال في تل أبيب فحسب، بل من خلال مجموعة من المانحين الأمريكيين، كالمليارديرَين الأمريكيين جيفري ياس[4] (تبرّع ياس لـ”كوهيليت” عام 2020 وحده بـ22 مليون دولار) وآرثر دانتشيك.[5]
من الكلب ومن الذيل؟
قبل نحو عقدين، طرح عضو الكنيست السابق أوري أفنيري، سؤاله الشهير عن طبيعة العلاقة بين الولايات المتحدة و”إسرائيل”: من الكلب ومن الذيل في هذه العلاقة؟[6] يقر أفنيري بفرادة العلاقة بين واشنطن وتل أبيب، وبأنه لم يسبق لها مثيل في التاريخ. “لا يمكن تفسير هذه العلاقة من زاوية المصلحة الاقتصادية فقط”، يقول أفنيري. ويجب على كل ماركسي الاعتراف بوجود بعد روحاني في هذه العلاقة أيضًا. رأي أفينري هو بالتحديد ما عاد وقدمه من بعده والتر راسيل ميد في مقال له في “الفورين أفيرز” عام 2008.[7] يقول ميد: منذ 12 أيار/ مايو 1948، منذ انتصار كلارك كليفورد، المستشار الأوّل للبيت الأبيض، مقابل جورج مارشال، وزير الخارجيّة الأمريكية آنذاك، ومساعده الأوّل روبرت ليفيت، كان المحمول الأسطوري حاضرًا في العلاقة. حاجج كليفورد أمام الرئيس هاري ترومان بكتاب التثنية: “انظر قد جعلت أمامكم الأرض. ادخلوا وتملّكوا الأرض التي أقسم الربّ لآبائكم إبراهيم وإسحاق ويعقوب أن يعطيها لهم ولنسلهم من بعدهم”، فأسقط مارشال اعتراضه. وبعد يومين، أعطت الولايات المتحدة “إسرائيل” الاعتراف الرسميّ بعد 11 دقيقة من إعلان “إسرائيل” وجودها كدولة. كان قرار ترومان ذاك نابع من إيمان خلاصي، وأكثر، كان قرار ترومان ذاك نابع من قناعته بنفوذ المجتمع اليهودي وقدراته التصويتية في التنافس الرئاسي غير المحسوم النتائج لعام 1948. وكما دوّن دايفيد ماك كالو، كاتب سيرة ترومان، فإنّ دعم ترومان للدولة اليهوديّة “لاقى شعبيّة كبيرة” في الولايات المتحدة.
لم يكن هذا الدعم مرحليًا فقط، كما أنه لم يكن بسبب الجهود اليهودية وحدها. الدعم المسيحي الواسع لـ”إسرائيل” هو أحد أقوى العوامل في السياسة الخارجية للولايات المتحدة. ولقد ازداد هذا الدعم حتى مع تقلص الأهمية الديمغرافية لليهود. عام 1948، شكل اليهود 3.8% من الأمريكيين. عام 2007، شكل اليهود 1.8% من الشعب الأمريكي، ومع ذلك، ظل الدعم الأمريكي لـ”إسرائيل” مفتوحًا على مصراعيه. يتقاطع هاهنا ميد وأفنيري في أن انحياز السياسة الخارجية للولايات المتحدة لـ”إسرائيل”، لم يكن انتصارًا للوبي صغير على إرادة شعبيّة. بل هو تمثّل لمجمل قوة الرأي العام في تشكيل السياسة الخارجية. هذا لا يعني أن “اللوبي الإسرائيلي” غير موجود، أو أنّه لا يساعد في تشكيل السياسة الأمريكيّة في الشرق الأوسط. ولكنه يعني أن المصادر المطلقة لسياسة الولايات المتحدة الشرق أوسطية لا تزال تدور في رحى الجماعة اليهودية ومقارباتها. يختصر أفنيري الأمر بالقول “الكلب يلوّح بالذيل، والذيل يلوّح بالكلب (…) أحدهما يلوّح بالآخر”.
تاريخ العلاقة: القصة الرسمية
ثمة رواية مشتركة عند تناول اللوبي اليهودي في أمريكا. تبتدئ هذه الرواية حكايتها من آذار/ أبريل 1954، عندما اقتراح مساعد وزير الخارجية الأمريكية، هنري بايرود، على ناحوم غولدمان، رئيس المؤتمر اليهودي العالمي، ضرورة أن يتحدث اليهود الأمريكيون بصوت واحد مع البيت الأبيض ووزارة الخارجية. الأمر الذي دفع الثلاثي ناحوم غولدمان، وإيبا إيبان (سفير “إسرائيل” لدى الولايات المتحدة حينها)، وفيليب كلوتزنيك (رئيس جمعية “بناي بريث – أبناء العهد”)، إلى تنظيم تجمع ضم زعماء جميع المنظمات اليهودية الأمريكية. وقد أفضى هذا التجمع إلى تأسيس مؤتمر الرؤساء، الذي عُهد إليه العمل على رفع صوت اليهود في كل ما يتعلق بـ”إسرائيل”. وبالتوازي، كانت لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية تباشر عملها على يد إشعيا ليو سي كينن (Isaiah Leo Si Kenen) في العام نفسه. شكل سي كينن لجنة الشؤون العامة الأمريكية الصهيونية بصفتها جماعة ضغط محلية مستقلة بغية المشاركة في عدد غير محدود من حملات الضغط في أروقة الكونجرس. عام 1963، غيّر كينن اسم المنظمة إلى “لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية” (الـ AIPAC آيباك) من أجل استقطاب مزيد من الزعماء اليهود الأمريكيين من غير الصهاينة. فيما تمثلت مهمة “الآيباك” منذ تأسيسها في تعزيز العلاقة بين الولايات المتحدة و”إسرائيل” وتوطيد دعائمها.[8]
لا تلحظ غالبية الروايات إنجازات كبرى للوبي اليهودي في أمريكا قبل مرحلة الثمانينيات (حتى التحول في المنظور الأمريكي لـ”إسرائيل” عام 1967، لم يحصل بموجب ضغط اللوبي ونجاحه، بقدر ما حصل بفضل إعجاب الإدارة الأمريكية بإنجازات الجيش الإسرائيلي). وتشترك جميع الروايات في تسجيل الاختلاف بين الولايات المتحدة و”إسرائيل” في عدة محطات، منها:
الموقف من حرب عام 1956 على مصر؛ أزمة بيع طائرات الأواكس للسعودية 1981؛ منع “إسرائيل” من الرد خلال حرب الخليج الثانية؛ إجبار “إسرائيل” على التخلي عن اتفاق التعاون التكنولوجي مع الصين عام 2005.
تحولات اللوبي اليهودي: القصة غير الرسمية لصعود اليمين
نحن لن نفهم العلاقات اليهودية الأمريكية منذ العشرينيات ما لم نفهم العلاقة الصراعية بين ألمانيا وأميركا لقيادة العالم. في كتابه “صعود وسقوط القوى العظمى”، يعتبر بول كينيدي أن الحربين العالميتين كانتا في حقيقتهما صراعًا بين ألمانيا والولايات المتحدة على قيادة العالم. إنه صراع على من يقود العالم البروتستانتي. موقف ألمانيا من اليهود، ثم من بعد ذلك المحرقة اليهودية، كان له وقعه الخاص على البروتستانتيّة الأمريكية. معظم الكنائس البروتستانتية الألمانية كانت قد استقبلت الحكم النازي بالترحيب، بينما كان اليهود المحاربون للنازية أبطالًا لدى البروتستانتية الأمريكية. هكذا، أمست معارضة “معاداة الساميّة” الاختبار الرئيسي الذي يقيس بواسطته الأمريكيون البروتستانت أنفسهم وقادتهم.
أما العامل الآخر غير الرسمي، فتجلى في دعم الأمريكيين السود واللاتينيين (بنسبة أقل) للصهاينة منذ مطلع القرن المنصرم حتى نهاية عهد الرئيس ترومان. يعود الأمر هاهنا إلى عام 1909، عندما أسس اليهود الألمان “الجمعية الوطنية للنهوض بالملوَنين” (NAACP) من أجل الدفاع عن حركة السود. فطوال عقود خلت كانت “NAACP” تحظى بمساعدة “بناي بريث – B’nai B’rith”[9] ولجنة اليهود الأمريكيين، واللجنة اليهودية الأمريكية (AJCommittee)، ومنظمة نقابة المحامين الوطنية ذات الهوى الشيوعي.
كان همّ اليهود الألمان من تقديم العون للسود خلق جو من التعددية الثقافية في الولايات المتحدة. كمثال، موّلت لجنة اليهود الأمريكيين (AJCommittee) أبحاث فرانز بواس الأنثروبولوجية الرامية للقضاء على فكرة التفوق العرقي. كانت الأنثروبولوجيا البواسية حركة فكرية يهودية هيمنت على الأكاديميا الأمريكية أوائل العشرينيات من القرن الماضي. كذلك دعمت اللجنة جهود علماء الاجتماع الذين فروا من ألمانيا في ثلاثينيات القرن العشرين، وعلى وجه الخصوص أكاديميي مدرسة فرانكفورت (ماكس هوركهايمر، وإريك فروم، وثيودور أدورنو، وهربرت ماركوز). كانت مجموعة فرانكفورت قد جمعت بين الماركسية والتحليل النفسي في رؤاها إلى الحد الذي جعل الأمريكيين ينظرون إلى علم النفس والماركسية باعتبارهما حركات فكرية يهودية.[10]
ساعد على الأمر يهود الييديش المتحدرين من شرق أوروبا، وكانت غالبيتهم من الشيوعيين والاشتراكيين (البوند).[11] في لوس أنجلوس اجتمع الاشتراكيون اليهود، وأسسوا حلقة العمال ولجنة العمل اليهودية (JLC). تمتعت هذه المجموعات بعضوية متداخلة مع عمال الملابس، واتحاد الخبازين اليهود، والاتحاد العالمي لعمال الملابس للسيدات (ILGWU)، والصهاينة العماليين. كانت شبكة المؤسسات اليهودية تنشط في فلك الحزب الشيوعي. دعم اليساريون اليهود صحيفتي “Morgn Freiheit” اليديشية، و”Daily Worker” اليسارية.[12]
من جانبها، كانت الطبقة الوسطى السوداء في حي هارلم في نيويورك،[13] كمثال أيضًا، تتابع عن كثب فرض هتلر للسياسات العنصرية فترة الثلاثينيات، في وقت بدأ السود لعب دور أكبر في السياسات الانتخابية الأمريكية. كان التشابه بين معاملة هتلر لليهود وقوانين جيم كرو جنوب الولايات المتحدة باديًا للعيان.[14] زوّد اضطهاد هتلر لليهودِ السودَ الأميركيين بمحاججات تُقنع البيض بأن التمييز العنصري مخالف للمبادئ الأمريكية. كما أسس لعلاقة متينة بين اليهود الأمريكيين وحركة الحقوق المدنيّة (التي تزعهما مارتن لوثر كينغ). لوحة الرسام الأمريكي الأفريقي آرون دوغلاس “دع شعبي يذهب” عام 1935 كانت تفسر الكثير.[15] لقد استعاد السود في حي هارلم السردية اليهودية عن الخروج من مصر للمطالبة بحقوقهم في أمريكا.[16] حتى أن آدم كلايتون باول الابن (Adam Clayton Powell Jr)، النائب “الأسود” عن الحزب الديمقراطي في حينها، جمع مطلع الأربعينيات 150 ألف دولار لمليشيا الإرغون الصهيونيّة (المنظمة العسكرية القومية في “إسرائيل”). باختصار، كان الكثير من الليبراليين الأمريكيين ومناصري “الجماعات الهامشية” يقدمون دعمهم لـ”إسرائيل” كجزء من التزامهم بالحرية ومعاداة الاستعمار والصراع العالمي ضد التمييز العرقي والديني، وكجزء من التقليد التقدمي في السياسات الأمريكية.
ما الذي تغيّر بعد كل هذه السنوات؟
في نكتة أمريكية قديمة، يجلس يهودي علماني على مقعد في حديقة بجوار رجل يعتمر قبعة سوداء كبيرة ومعطفًا طويلًا أسود. يلتفت اليهودي العلماني إلى الرجل ويقول: “ما خطبكم أيها الحسيديين؟ نحن لا نعيش في بلد قديم، لقد صار العالم حديثًا، وأنتم تشكلون حرجًا لبقية اليهود”. يستدير الرجل ويقول: “حاسيديم؟ لا، أنا الأميش”. يجيب اليهودي العلماني على الفور: “رائعة جدًا الطريقة التي تمسكت بها بتقاليدك!”.
تمثل هذه النكتة مدخلًا لفهم تصورات اليهود الهوياتية في الولايات المتحدة حتى سبعينيات القرن الماضي. طالب اليهود بالتعددية الثقافية واشمأزّوا من المتدينين. كان التحول نحو التدين بالنسبة لهم خروجًا عن المألوف. لكن المكارثية[17] وحرص جون إدغار هوفر (رئيس مكتب التحقيقات الفيدرالي آنذاك) على كسب قلوب وعقول عمال الأقليات، خوفًا من الشيوعية، كانت قد أعادت هندسة المجتمع اليهودي بنحو كبير.
في كتابه “لماذا فشلت الليبرالية؟”، يشير باتريك دينين إلى أهمية قراءة السياسة “من أسفل”؛ يجب أن تتسرب السياسة من القاعدة إلى القمة، من الخبرة والممارسة الشخصية إلى الفضاء الأوسع. وهذا بالضبط ما حاولت الرأسمالية فعله من خلال إذكاء النزعة المحلية الرعوية المتواضعة ضد اليسار الكوزموبوليتاني.[18] كانت استفادة المجتمعات المنغلقة من الانفتاح الليبرالي جزءًا من خيارات متاحة داخل الإطار الليبرالي، وعلى الرغم من أن مثل هذه الجماعات قد تكون مشبوهة في الثقافة الأوسع، إلا أنه يُسمح بوجودها إلى حد كبير طالما أنها لا تهدد عمل النظام الليبرالي بحد ذاته.
بإمكاننا قراءة صعود الجماعات الهوياتية لدى يهود أمريكا (بالخصوص جماعة حباد، وغور) من منظور “ما بعد الحرب من الضواحي” التي أرادها إدغار هوفر بغية تعزيز درجة عالية من خطوط الفصل السكني والعرقي والاقتصادي، تلك كانت واحدة من الخصائص المميزة للديمغرافيا الأمريكية.[19] وبامكاننا قراءتها بنحو نقدي على طريقة ألاسدير ماكنتاير، الذي شجب ثقافة “الغني، المعالج، والمدير” التي تسيطر على مثل هذه الجماعات.
عودة لإستي فاينشطاين (المرأة التي انتحرت في أسدود سنة 2016)، وموشيه كوبل (مؤسس منتدى كوهيليت): في كلتا الحالتين، وما بينهما، نحن إزاء سياسة أمريكية المركز، جماعاتية النموذج، وحدها تحدد دور اللوبي وشكله، ووحدها تحدد مخرجات النموذج وضحاياه.
[1] حسيدية غور، واحدة من حسيديات عدة لها تأثيرها الكبير في المجتمع الحريدي الإسرائيلي (مجتمع المتقين الصوفي). وبالمجمل ينقسم “مجتمع المتقين” ذوي الأصول الغربية في “إسرائيل” إلى ستة اتجاهات. الليتوانيون من غير الحسيديم، وهم التيار المركزي (لهم واحدة من أهم مؤسسات الييشيفوت في عالم الحريديم “ييشيفاة فولوجين”)، يتزعمهم ثلاثة “كبار”: الحاخام يوسف شالوم إلياشيف، الحاخام أهارون يهودا لييف شطاينمان، والحاخام حاييم كنييفسكي. والحسيديم: وهم الأكثر اندماجًا بالحياة المعاصرة، (نسبة الطلاب المتفرغين لدراسة التوراة بينهم أقل مما هي عليه بين الليتوانيين) بسبب تقديسهم الحياة بحد ذاتها. وأبرز الجاليات الحسيدية حسيدية غور، حسيدية فيجنيتس، حسيدية ساتمار، وحسيدية بعلز، وحسيدية حباد، ويعتبر أتباع حباد الأكثر انفتاحاً قياساً بباقي المجموعات الحسيدية، فهم يخدمون في الجيش وضالعون في الحياة العامة.
[3] https://www.haaretz.com/israel-news/2023-01-15/ty-article/.highlight/the-american-billionaires-behind-the-far-right-attempt-to-destroy-liberal-israel/00000185-b4db-de56-a5b5-f4ffe0860000
[4] جيفري ياس: مؤسس مجموعة Susquehanna International Group، وهي شركة تجارية وتكنولوجية، وصاحب المرتبة 45 عالميًا و23 أمريكيًا في قائمة فوربس لأثرياء العالم، بثروة تقترب من 30 مليار دولار. احتل ياس المرتبة السادسة في قائمة المانحين لجميع المرشحين الجمهوريين للرئاسة عام 2020، وأيّد “نادي النمو – Club of growth” الذي تكفل بتحويل الأموال إلى السياسيين الذين يدعمون الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، وكان من أبرز المحرضين على اقتحام الكونغرس عام 2021. أما اليوم فيُعد أكبر مانح سياسي للحزب الجمهوري في دورة 2024 الانتخابية، بمساهمة وصلت إلى أكثر من 46 مليون دولار حتى الآن. راجع: https://www.theguardian.com/us-news/2024/apr/24/jeff-yass-anti-muslim-pro-israel-donations
[5] آرثر دانتشيك: هو أحد مؤسسي Susquehanna International Group. ويحتل المرتبة 104 في قائمة مجلة “فوربس” لأغنى الأشخاص في الولايات المتحدة بثروة تقدر بنحو 7.5 مليار دولار. يتبرع دانتشيك لصالح جماعات اليمين الأمريكي، من مثل “مركز السياسة الأمنية”، الذي أسسه فرانك جافني (أحد أكثر كارهي الإسلام شهرة في أمريكا) الذي لعب دورًا رئيسيًا في نظرية “اختراق الإخوان المسلمين للحكومة الأمريكية” عام 2011. وهو يموّل اليوم لجنة عمل سياسي جديدة تستهدف تقويض فرص المرشحين الذين ينتقدون الدعم الأمريكي غير المشروط لـ”إسرائيل”. راجع: المصدر السابق، أيضًا: https://jstreet.org/shushan-street-meet-the-israeli-organization-behind-the-legislation-to-subvert-israeli-democracy-and-the-american-billionaires-that-fund-it/
[6] https://mailman.gush-shalom.org/zope/sites/gush/home/ar/avnery/arabic_archive_228
[7] Walter Russell Mead, The New Israel and the Old, Why Gentile Americans Back the Jewish State, Foreign Affairs, July/August 2008. https://www.foreignaffairs.com/articles/israel/2008-06-01/new-israel-and-old
[8] https://al-khandak.com/posts/twfan-alaqsa-wmftrqat-allwby-alyhwdy-fy-amyrka
[9] بناي بريث الدولية، هي أقدم منظمة خدمات يهودية في العالم. تقول بناي بريث أنها ملتزمة بأمن واستمرارية الشعب اليهودي ودولة إسرائيل ومكافحة معاداة السامية والتعصب الأعمى.
[10] يقدم المفكر الأسود “هارولد كروس – Harold Cruse”، تحليلًا محددًا لمصلحة اليهود في التحالف مع السود بالقول: “يعرف اليهود ما يريدون في أمريكا بشكل محدد. يريد اليهود التعددية الثقافية”. ويلاحظ كروز “أن المنظمات اليهودية تنظر إلى القومية البيضاء باعتبارها التهديد الأكبر لها وأن اليهود يميلون إلى دعم السياسات الموالية لاندماج السود في أمريكا، لأن مثل هذه السياسات تضعف قوة البيض وتقلل من احتمال وجود أغلبية بيضاء متماسكة وقومية معادية لليهود”. راجع: كيفين ماكدونالد، اليهود والسود والعرق، ترجمة تقي الدين بن فيفي، 12 جزيران/ يونيو 2020. https://rb.gy/sxpdq2
[11] الجبهة اليهودية العامة أو “الاتحاد العام للعمال اليهود في ليتوانيا وبولندا وروسيا”، كان حزبًا يهوديًا اشتراكيًا مستقلًا، تأسس في روسيا القيصرية في سنة 1897، وكانت له فروع في ليتوانيا وبولندا، وقد دعم الحزب بقاء اليهود في أوروبا وعدم الهجرة إلى “إسرائيل”، وكان يُعرف أعضاء هذا الحزب بالبونديين.
[12] Kenneth C. Burt, Yiddish Los Angeles and the Birth of Latino Politics, The Polyglot Ferment of Boyle Heights, http://www.kennethburt.com/jewishcurrents508.pdf
[13] Jeffrey S. Gurock, The Jews of Harlem: The Rise, Decline, and Revival of a Jewish Community, New York: New York University Press, 2016.
[14] Samantha M. Bryant, “We long for a home”: American discourses on Jewishness after the Second World War (1945-49), James Madison University, Spring 2013, p 26, 27. https://commons.lib.jmu.edu/cgi/viewcontent.cgi?article=1175&context=master201019
[15] https://customprints.metmuseum.org/detail/488791/douglas-let-my-people-go
[16] ‘The White Negress: Literature, Minstrelsy, and the Black-Jewish Imaginary’ by Lori Harrison-Kahan, Rutgers University Press; None edition (December 1, 2010).
[17] المكارثية : سلوك يقوم بتوجيه الاتهامات بالتآمر والخيانة دون الاهتمام بالأدلة. ينسب هذا الاتجاه إلى عضو بمجلس الشيوخ الأميركي جوزيف مكارثي. فقد كان رئيسًا لإحدى اللجان الفرعية بالمجلس واتهم عددًا من موظفي الحكومة وبخاصة وزارة الخارجية بتهمة انتمائهم للشيوعية والعمل لمصلحة الاتحاد السوفييتي.
[18] Patrick J. Deneen, Why Liberalism Failed, Institute for Advanced Studies in Culture, University of Virginia, 2018.
[19] جدعون لويس كراوس، قراءة في كتاب: “American Shtetl, charts how a group of ultra-Orthodox Jews created a separatist territory in upstate New York”، شباط 2022 https://www.newyorker.com/books/under-review/an-extraordinary-account-of-a-hasidic-enclave