أبدت ألمانيا حرصًا لافتًا على تأكيد دعمها المطلق لـ”إسرائيل” في أعقاب عملية “طوفان الأقصى”. فقد أكد المستشار الألماني أولاف شولتس (الثامن من أكتوبر/ تشرين الأول 2023) تضامن بلاده الكامل مع “إسرائيل”، وقال في تصريحات في ديوان المستشارية إنه أجرى اتصالًا هاتفيًا مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وأكد له أن “ألمانيا تقف بقوة وثبات إلى جانب إسرائيل”. وأضاف السياسي المنتمي إلى الحزب الاشتراكي الديمقراطي أن “أمن إسرائيل هو من المصالح الوطنية الألمانية. هذا ينطبق بالذات في الساعات الصعبة مثل هذه الساعات. ونحن سنتصرف وفقًا لهذا”.([1])
ورفضت الحكومة الألمانية (13 كانون الثاني/ يناير 2024)، تهمة ارتكاب “أعمال إبادة” والتي وجهتها جنوب إفريقيا لـ”إسرائيل” أمام محكمة العدل الدولية، محذرة من “الاستغلال السياسي” لهذه التهمة. وقال المتحدث باسم الحكومة ستيفن هيبستريت، في بيان، إن “إسرائيل” “تدافع عن نفسها” بعد الهجوم “اللاإنساني” الذي شنته “حماس” في 7 أكتوبر. وقال إن ألمانيا ستتدخل كطرف ثالث أمام محكمة العدل الدولية بموجب مادة تسمح للدول بطلب توضيحات بشأن استخدام اتفاقية متعددة الأطراف. ([2])
السؤال الذي يطرح نفسه: ما سر دعم ألمانيا للكيان الصهيوني؟
أحد أهم الدوافع الألمانية لدعم الكيان الصهيوني، أنها بحثت عن موطئ قدم في الشرق بعد هزيمة محمد علي باشا، والدعوة إلى إنشاء مملكة مسيحية-ألمانية في القدس، والعمل على إنشاء مستعمرات مسيحية من مستوطنين ألمان في فلسطين. منذ أن أخذ الإعياء يدبّ في كيان السلطنة العثمانية في نهاية القرن السابع عشر، ويظهر بوضوح في القرنين التاليين، ظهر في التاريخ والأدب السياسي ما يسمى اصطلاحًا “المسألة الشرقية” (The Eastern Question)، التي شملت، باختصار، جميع المشكلات التي ارتبطت بانهيار السلطنة داخليًا وثورات الشعوب التي حكمتها، وتضارب المصالح الأوروبية وتشابكها في الدولة العثمانية، وتدخّل الدول الكبرى في عمليّة الانهيار العثمانيّ.
تحت هذه الظروف نمت الاهتمامات الألمانية في سوريا وفلسطين. ففي أحد المؤلفات الألمانية عام 1895 حول التبشير الإنجيلي في القدس، ذكر المؤلف، عطفًا على أحداث الأزمة المصرية عام 1840، ما يلي:
“ولقد تمت هزيمة محمد علي عن طريق التحالف الرباعي وأعيدت سوريا وفلسطين إلى السلطان. لقد أيقظت هذه الأحداث في العالم المسيحي ذكرى الحروب الصليبية، والحق أن أصواتًا علت في ألمانيا ترى أن الوقت قد حان لانتزاع الأرض المقدسة من سيطرة المحمديين وإعادتها إلى السيطرة المسيحية”.([3])
من المملكة إلى التدويل!
في الفترة بين عامي 1835- 1839 نشر مولتكه (Moltke)، الضابط في الحرس الملكي البروسي*، سلسلة من الدراسات بعنوان “ألمانيا وفلسطين”، دعا فيها إلى إنشاء “مملكة القدس” بهدف تحويل فلسطين إلى “مركز متقدّم للحضارة الأوروبية” كي تصبح نموذجًا اقتصاديًا متطورًا يحتذى به في المنطقة بأسرها. وأشار مولتكه في مشروعه أيضًا إلى أهمية قيام هذا المركز الاستيطاني في فلسطين، كي يشكل منطقة واقية تفصل بين مصر وسورية ويحمي المصالح الغربية من أي خطر يتهددها. كما دعا إلى أن يتولى عرش المملكة أمير ألماني يتعهّد بعث القيم “الصليبية المسيحية” من جديد ويشجع المسيحيين واليهود على الاستيطان في المملكة متهمًا المسلمين بالتعصب الأعمى. ([4])
قبل نهاية حكمه عام 1839، رفض ملك بروسيا فريدريك وليم الثالث، دعوة مستشاره إرنست أوغست كازيمير درشاو (Ernst August Kasimir Derchau) للتدخل في فلسطين بهدف حماية المسيحيين. فالمسألة، كما اعتقد الملك، كانت على جانب كبير من الأهمية بالنسبة للعالم المسيحي وتستحق عناية خاصة منه وأن بروسيا ليست في وضع سياسي دولي يمكنها من تنفيذ مثل هذه الخطوة منفردة. ([5])
لكن هذه السياسة تجاه فلسطين سرعان ما تبددت باعتلاء فريدريك وليم الرابع عرش بروسيا، في حزيران/ يونيو 1840، مع المراحل الأخيرة للأزمة الشرقية، وكانت بروسيا مقتنعة بأن إنقاذ الدولة العثمانية من قبل أوروبا بتحجيم محمد علي يجب ألا يمر دون حصول الدول الأوروبية على مكاسب سياسية ودينية في السلطنة. بلغ به الحماس الديني أن يفكر في إنشاء وطن مسيحي في الأراضي المقدسة تتولى الدول الأوروبية الكبرى حمايته. وعرض مشروعه هذا على إمبراطور النمسا وقيصر روسيا فلم يبديا اهتمامًا به. ([6])
وأول إشارة في هذا الاتجاه حدثت في 6 آب/ أغسطس 1840، عندما قدمت الحكومة البروسية مذكرة إلى الحكومة النمساوية حول “إمكانية وضرورة ضمان ممارسة المسيحيين لعباداتهم في الأماكن المقدسة عند قبر المسيح، صاغها هاينريش فون بولوف، المبعوث البروسي في لندن، ويوهان ألبرشت فريدريك إيشهون، وزير الثقافة، إلا أن الحكومة النمساوية لم تعر المذكرة أي اهتمام”.
وقد أتيحت الفرصة للحكومة البروسية بعد انسحاب المصريين من سوريا وفلسطين عند نهاية عام 1840. فعادت لها حيويتها السابقة فيما يتعلق بسياستها “الفلسطينية”. ففي شباط/ فبراير 1841، توجهت بمذكرة إلى الحكومة البريطانية تتعلق بـ”حماية دينية على الأماكن المقدسة وبحث المسألة الفلسطينية وتحرير المسيحيين بشكل عام عن طريق المفاوضات”. وبدورها، لم تحظ هذه المذكرة بعناية تامة من قبل الدوائر الحكومية البريطانية.
وبالرغم من خيبة الأمل هذه عاودت الحكومة البروسية بعد أسبوع اتصالاتها بعواصم الدول الأوروبية الكبرى: لندن، بطرسبرغ، فيينا، وباريس. ففي مذكرتين منفصلتين لبولوف ورادوفيتز حول تصورات ملك بروسيا، جرى الحديث عن مشروع لتدويل القدس وضواحيها بطرق سلمية ووضعها تحت الحماية المشتركة للدول الخمس الكبرى. ([7])
هناك اعتقاد بأن المشروع البروسيّ الأول لتدويل القدس قد حاك خيوطه في لندن كريستيان بونسن، أحد أكثر المقرّبين من الملك البروسي والجماعات اليهودية هناك. وبعبارة أخرى، “إن الجماعات اليهودية البريطانية المهتمة بقضايا الاستيطان في فلسطين، أردت أن تستغل بونسن ومن ورائه السياسة البروسية في سبيل تنفيذ مشاريعها الاستعمارية. ويستدل على ذلك من رسالة بعث بها مك كول (McCaul)، أحد زعماء “جمعية يهود لندن” إلى بونسن في أيلول/ سبتمبر 1839، أي قبل عام تقريبًا على طرح المشروع البروسيّ لتدويل القدس. توضح هذه العلاقة بين المشروع البروسيّ لتدويل القدس والجهود الاستيطانية لليهود في فلسطين. يقول مك كول في رسالته إلى بونسن: “أنا لا أعرف ما يمكن عمله من أجل القدس. كما لا أحب التدخل في المسائل السياسية، ولكن ألا يمكن تحويلها (القدس) إلى (مدينة حرة) مثل فرانكفورت أو كراكو (Cracow) تحت حماية الدول الكبرى؟… ألا يستطيع الملوك المسيحيون أن يقدموا شيئًا قليلًا من الحرية إلى يهودي مسكين ظل سجينًا لفترة طويلة؟”.([8])
كتب بونسن إلى وليم غلادستون، وزير المستعمرات البريطاني ورئيس الحكومة لاحقًا، يقول: “… ألا ترى مشيئة الله في إنشاء كنيسة إنكليزية وجماعة مسيحية من المرتدين (اليهود) على جبل صهيون”. أضاف بونسن: “ألا تريد أن نفعل شيئًا لاستغلال الأحداث السياسية التي تتحكّم بها مشيئة الله والتي يشكّل تصادفُهُا إشارات على انبعاث صهيون”.([9])
رفضت حكومات الدول الأوروبية العروض البروسية جملة وتفصيلًا، فقد رأت في المشاريع البروسية تهديدًا للتوازن الذي ضمن لكل منها حقوقًا وامتيازات في فلسطين.
مشروع بروسيّ جديد: مطرانية القدس البروسية الإنجليزية المشتركة
على الرغم من المعارضة البريطانية لمشروع تدويل القدس وفرض الحماية الأوروبية عليها، ظلّ الملك فريدريك وليم الرابع متمسكًا بموقفه بأن بريطانيا هي الحليف الطبيعي لبروسيا البروتستانتية. وكان يشد عزيمته في ذلك نظرته الدينية حول وحدة الكنائس البروتستانتية في العالم.
“أولًا: لقد اعتادت حكومة هذه البلاد (فلسطين) وشعبها، منذ عهد بعيد، على أن يربا جميع المؤمنين بأية ديانة ملتئمين في تنظيم واحد، ومجتمعين في هيئة واحدة، وخاضعين للقوانين نفسها. وبهذه الصيغة قدمت نفسها طوائف اليهود واللاتين واليونان والأرمن. وإذا أراد المسيحيون الإنجيليون اليوم المطالبة بالاعتراف بكنائسهم المختلفة بصورة منفردة (أي الكنيسة الإنجليكانية، والكنيسة الكهنوتية العلمانية الاسكتلندية، والكنيسة الانجيلية الموحدة، والكنيسة اللوثرية، والكنيسة الإصلاحية، والكنيسة المعمدانية، والكنيسة الميثودية، وكنيسة المستقلين،… الخ) فقد تستجيب الحكومة التركية بصعوبة كبيرة لطلبها”. ثم يذكر الملك البروسي في رسالته أن العدد الضئيل من أتباع هذه الكنائس الإنجيلية قد لا يشجع الباب العالي على الاعتراف بها. ويأتي بعد ذلك على استعراض الوضع السياسي في الدولة العثمانية مبينًا أن الظروف السياسية آنذاك مواتية لمنح الكنيسة الإنجيلية امتيازات مماثلة للكنائس الأخرى في فلسطين.([10])
وبعد إنهاء بونسن المفاوضات الناجحة مع البريطانيين حول تأسيس مطرانية القدس الإنجيلية، كتب بونسن إلى زوجته يقول: “هذه هي إذن… البداية التي تحقّقت من أجل إنشاء إسرائيل”.([11])
وفي عام 1841 أثمرت محاولات الملك فريدريك وليم الرابع للحصول على امتيازات خاصة لبروسيا في الدولة العثمانية، في إقامة مطرانية إنجليزية – بروسية مشتركة في القدس، بحجة حماية المسيحيين البروتستانت في الأراضي المقدسة. وقد أثارت تلك المطرانية شكوكًا لدى الدول الأوروبية الأخرى مثل فرنسا وروسيا، خوفًا من فرار بعض الكاثوليك من الحماية الفرنسية والأرثوذكسيين من الحماية الروسية إلى الكنيسة الإنجيلية. كما لاقت معارضة داخلية في بروسيا. فقد رأى فريق من علماء اللاهوت الألمان في وضع جماعات بروتستانتية ألمانية في فلسطين تحت قيادة مطران أنجليكاني عملًا مسيئًا لهم. ومع هذا استمرت الجهود البريطانية والألمانية وحصلت ألمانيا في عام 1846 على مرسوم لصالح الكنيسة البروتستانتية ساواها بغيرها من الكنائس الأخرى في المشرق العربي. ([12])
هكذا، توافق إنشاء مطرانية القدس البروسية ـ الإنكليزية مع تنصير اليهود وترحيلهم إلى فلسطين ليكونوا في صالح إقامة كيان يهودي في فلسطين. كما التقت أهداف إنشاء القنصلية البريطانية في المدينة نفسها عام 1838.
مستوطنة ألمانية في القدس!
ارتكز الوجود الألماني في القدس بشكل خاص على أفراد الطائفة الألمانية من سياسيّين واقتصاديّين ورجال دين، جاءوا إلى فلسطين بعد ظهور حركة الهيكليّين (Der Deutsche Tempelgesellschaft) في ألمانيا، وبالتحديد من مدينة فورتمبيرغ، مدفوعين بمعتقداتهم الدينية بالتوجه إلى الأرض المقدسة والاستقرار فيها، وكان أتباعها جزءًا من كنيسة البروتستانت الألمانية، ([13]) متسلحين بالوعد والنبوءة القائلة، إنّ “مملكة الله”، حسب اعتقادهم، ستبدأ انتشارها من القدس، وأن عليهم السعي لتحقيقها في الأرض المقدسة، وتشكيل مجتمعات خاصة بهم هناك، وهكذا باع كثير منهم ما لديهم، وهاجروا من مدينة فورتمبيرغ، ومن ساكسونيا في ألمانيا، ومن الولايات المتحدة الأمريكية، ومن القوقاز، وقدموا إلى الأرض المقدسة، رأوا برحيلهم واجبًا دينيًا مقدسًا انطلاقًا من فكرهم الدينيّ بوجوب العودة إلى أرض السيّد المسيح، وانتظاره في بلاده. ([14])
خلال ذلك نشطت المؤسسات التبشيرية البروتستانتية والكاثوليكية الألمانية في تأسيس مستوطنات تبشيرية، ويُعتبر فريدريك شبتلر (Christian Friedrich Spittler)، الذي يوصف عادة بـ”شيخ المبشرين”([15])، من أوائل المبشرين والذي انصب اهتمامه على “إنشاء مستوطنة مسيحية من مستوطنين ألمان في الأراضي المقدسة”، تكون “نواة لاستيطان واسع في المشرق الإسلامي”. في 19 نيسان/ أبريل 1841 أبلغ شبتلر البارون بونسن، المبعوث البروسي لدى البلاط البريطاني، نيته “إنشاء مستوطنة في القدس من مستوطنين ألمان”.([16])
وكانت الخطوة الأولى تتم بإرسال أفراد مهرة، لهم باع في المجالات التجاريّة والصناعيّة والحرفيّة؛ كي يستطيعوا إعالة أنفسهم بأنفسهم، ومن أجل جذب الناس ، ويعدّ بالمر وكنراد شيك أبرز من قدموا إلى فلسطين عام 1846، فالأول عمل في صناعة الصابون والكيمياء، والثاني حدّاد وميكانيكيّ، وتبعهما في عام 1847م الساعاتي صموئيل مولر وهاينريش بالدنشبرغر، وكان خرّاطًا ونسّاجًا، وكان هؤلاء يخطّطون لإنشاء نواة مستوطنة على سفح جبل الكرمل، وتبع ذلك جمعيّات تبشيريّة متعدّدة مثل: جمعية الكيزرفرت مع أربع شمّاسات، والتي تلقت دعمًا من ملك بروسيا، إلا أنّ قدوم المبشّر والراهب يوحنا لودفيك شنللر عام 1854 وزوجته مع ستة رهبان، يعدّ بداية حقبةٍ جديدةٍ من الاستعمار، وازدهار النشاط التبشيريّ في فلسطين، حيث عملوا على تأسيس المحالّ التجاريّة، والمدارس، والمستشفيات، وشراء العقارات والأراضي. ([17])
على أي حال، فشل مشروع شبتلر الاستيطاني في فلسطين، وتحطمت كل الآمال التي عُلقت عليه.
جمعية الهيكل الألمانية
لم يتوقف تشجيع المبشرين الألمان على إقامة مستعمرات ألمانية في فلسطين، وتجسد ذلك بشكل خاص في نشاط “جمعية الهيكل الألمانية” [تعود هذه الحركة في أصولها إلى حركة الأتقياء (Pietismus)، التي ظهرت في ألمانيا في القرن السابع عشر، كحركة دينية إصلاحية في الكنيسة الإنجيلية]، ([18]) على يد كريستوف هوفمان، وبمساعدة صديقه جورج دافيد هاردينغ.
اتخذت هذه الحركة الدينية اتجاهًا جديدًا عام 1853، مع “اندلاع حرب القرم بين الدولة العثمانية وروسيا، إذ سرى اعتقاد لدى الأوروبيين أن الدولة العثمانية على شفا الانهيار، وأن تفككها بات وشيكًا. وجاءت الاضطرابات الدينية التي حدثت في القدس وغيرها من المدن الفلسطينية، لتشد أنظار المتدينين الألمان إلى الأرض المقدسة. وبرز هوفمان يدعو إلى سلخ فلسطين عن الدولة العثمانية وجعلها موطنًا لشعب الله تنفيذًا لوعود الأنبياء الواردة في التوراة. وشعب الله هذا ليس الشعب اليهودي، الذي لم يعد له وجود، وإنما هو الشعب المسيحي الإنجيلي”.([19])
انتهت حرب القرم عام 1856 من دون أن تسفر عن انهيار الدولة العثمانية كما توقع هوفمان وأتباعه، وفي صيف 1858 قررت الجمعية إرسال وفد مؤلف من هوفمان وهارديج والمزارع بوبيك إلى فلسطين، لدراسة إمكانية استعمار فلسطين. والتقى الوفد مطران القدس الإنجليكاني صموئيل غوبات، والمبشر الإنجيلي شنلر، فشرحا للوفد أوضاع فلسطين ولم يشجعاه على تنفيذ مشروعه. ولمّا عاد الوفد إلى ألمانيا نشر هوفمان تقريرًا عن الزيارة في مجلة “Sueddeutsche Warte” بيّن فيها المصاعب التي تعترض الاستيطان في فلسطين، وأوضح أن لا بد من الاستعداد لذلك، ودامت فترة الاستعداد هذه عشر سنوات”.([20])
وبدأت طلائع جماعـة الهيكليين بالقدوم إلى فلسطين بعد عام 1867، حيث نزلت مجموعة من 25 شخصًا في سهل مرج بن عامر، لكن هذه المجموعة لم تكن مدعومةً من الهيكليين ، فمنيت ببعض الأمراض وأهمها: الملاريا، فانتقلوا إلى سمونية، بالقرب من الناصرة، وفي عام 1868، أدركت جمعية الهيكل أنه من المهم مساعدتهم، وفي أكتوبر عام 1868م هاجر هوفمان وهاردج إلى حيفا للتخطيط لإقامة أول مستوطنة، واستغلّت جمعية الهيكليين العلاقة الحسنة بين ألمانيا والدولة العثمانية لتسهيل إقامة المستوطنة، فأرسلت إلـى إستانبول عام 1868 هوفمان يرافقه هاردج، وطلبا من السلطان العثمانيّ عبد العزيز الإذن بإقامة مستعمرة ألمانيّة في الأرض المقدّسة، وعندما حصلوا على ذلك، نزلت أول قافلة من مهاجري فروتمبرغ في حيفا عام 1869 وقاموا فيها مستوطنة على قطعة أرضٍ تمتدّ من شاطئ البحر حتى سفح جبل الكرمل، لما لهذا الموقع مـن أهمية استراتيجية لقربها من الميناء، أولًا، ثمّ لكونها مدخلًا إلى حيفا ثانيًا، مستغلّين العلاقات الدبلوماسية العثمانية – الألمانية الجيدة، وبعد ذلك تسارعت وتيرة شراء الأراضي في حيفا ويافا، بهدف إقامة مزيد من المستعمرات الألمانية، مستفيدين من قانون تملّك الأجانب، ونجحت بذلك الإرساليات البروسية في إقامة المستعمرات، التي كانت وسيلة لخلق وجود لها بالقدس. ([21])
هكذا حتى سبعينيات القرن التاسع عشر اتسم النشاط الألماني في فلسطين بالطابع الديني، الذي تجلى في حماية الحجاج والرعايا الألمان ودعم نشاط الإرساليات التبشيرية، لأن بروسيا لم تكن لها في الفترة أطماع استعمارية في أي من الولايات العربية، بسبب ضعف ألمانيا السياسي والاقتصادي والعسكري الناجم عن انقسامها إلى دويلات.
وفي أثناء الحرب البلقانية 1875، حدث تغير في الموقف الألماني، وكان السبب في ذلك المظاهرات التي قام بها المسلمون في فلسطين. إذ خشي القناصل الأجانب قيام تحرك إسلامي ضد الأجانب في فلسطين، وعلى رأسهم المستعمرون الألمان. وبناء على طلب “جمعية الهيكل”، وافقت الحكومة الألمانية على إرسال بوارجها الحربية إلى الموانئ الفلسطينية في مظاهرة عسكرية القصد منها تطمين المستعمرين الألمان ([22]). فتحت المشاريع الألمانية أعين حركة الاستيطان اليهودية في فلسطين في ما بعد، وعلى أهمية الحصول على دعم أوروبا لمشاريعها الاستيطانية في فلسطين.
باختصار، الموقف الألماني لا يرتبط بالسياسات المناهضة للمسلمين والعرب في ألمانيا فقط، بل هو مدفوع في جانب معتبر منه بالدافع الديني، والمرتبط تاريخيًا بدعم الألمان للاستعمار الاستيطاني.
[1]() شولتس لنتنياهو: ألمانيا تقف بقوة وثبات إلى جانب إسرائيل – DW – 2023/10/8
[2]() ألمانيا تقول إنها ستتدخل في لاهاي نيابة عن إسرائيل وترفض تهمة الإبادة الجماعية – تايمز أوف
إسرائيل (timesofisrael.com)
[3]() د. عبد الرؤوف سنّو، المصالح الألمانية في سوريا وفلسطين (1841- 1901)، ط1، معهد الانماء العربي، بيروت، 1987، ص (20- 21).
[4](*) بروسيا، المملكة الألمانية الكبيرة.
() د. أمين عبد الله محمود، مشاريع الاستيطان اليهودي منذ قيام الثورة الفرنسية حتى نهاية الحرب العالمية الأولى، سلسلة “عالم المعرفة”، الكويت، 1984، ص (33- 34).
[5]() د. سنّو، مرجع سبق ذكره، ص 24.
[6]() د. علي محافظة، العلاقات الألمانية ـ الفلسطينية من إنشاء مطرانية القدس البروتستانية وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية (1841- 1945)، ط1، الموسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1981، ص 38.
[7]() د. سنّو، مرجع سبق ذكره، ص 26.
[8]() د. عبد الرؤوف سنّو، ألمانيا والإسلام في القرنين التاسع عشر والعشرين، ط1، الفرات للنشر والتوزيع، بيروت، 2007، ص 290.
[9]() د. سنّو، ألمانيا والإسلام في القرنين التاسع عشر والعشرين، مرجع سبق ذكره، ص 291.
[10]() د. محافظة، مرجع سبق ذكره، ص 39.
[11]() د. سنّو، ألمانيا والإسلام في القرنين التاسع عشر والعشرين، مرجع سبق ذكره، ص 291.
(*) بروسيا، المملكة الألمانية الكبيرة.
[12]() عبير الشيخ حيدر، السياسة الألمانية تجاه القضية الفلسطينية وتطورها (1949- 2008)، منشورات الهيئة العامة السورية للكتاب، دمشق، 2012، ص (18- 19).
[13]() محمود الشناق، العلاقات بين العرب واليهود في فلسطين (1239- 1333هـ/ 1876- 1914م)، ط1، مطبعة بابل الفنية، فلسطين، 2005، ص 37.
[14]() ابراهيم نعمة االله، الرملة في اواخر العهد العثماني (1281- 1333 هـ/ 1864- 1914م) مـن خلال سجلات المحاكم الشـرعية، (رسالة ماجستير غير منشورة)، الجامعة الأسلامية، فلسطين ـ غـزة، 2004، ص 94.
[15]() د. سنّو، المصالح الألمانية في سوريا وفلسطين (1841- 1901)، مرجع سبق ذكره، ص 51.
[16]() المرجع نفسه، ص 53.
[17]() مجدي واصف محمد قبها، الحياة الاقتصادية والاجتماعية للجالية الألمانية في لواء القدس (1867- 1918م/ 1284- 1336 هـ)، (رسالة ماجستير غير منشورة)، جامعة النجاح الوطنية، فلسطين ـ نابلس، 2020، ص 54.
[18]() د. محافظة، مرجع سبق ذكره، ص 100.
[19]() د. محافظة، مرجع سبق ذكره، ص 102.
[20]() المرجع نفسه، ص 104.
[21]() قبها، مرجع سبق ذكره، ص (78- 79).
[22]() د. محافظة، مرجع سبق ذكره، ص 120.