برز مؤخرًا تصريح لنائب رئيس حركة المقاومة الإسلامية “حماس”، خليل الحية، يعبّر فيه عن استعداد الحركة للقبول بـ”دولة فلسطينية مستقلة على حدود 1967”. وعلى الرغم من أنّ هذا التصريح ليس جديدًا على الأدبيات السياسية للحركة بعد إصدار وثيقتها السياسية عام 2017، فقد أثار التصريح موجة من التحفّظات والاعتراضات، تحديدًا في ظلّ ما يجري من إبادة في غزة وحرب شعواء على الضفة. بعض الاعتراضات خرجت على شكل عتب على السقف السياسي المنخفض الذي يطرحه مثل هذا الخطاب أمام تضحيات الشعب الفلسطيني، وبعضها الآخر ظهر على شكل تخوّف من “انحراف” “حماس” نحو الحلول السياسية على حساب مشروع التحرير. فكيف نفهم هذه التصريحات في ظلّ التغييرات الهائلة الناتجة عن “طوفان الأقصى”؟
جذور الهواجس
قبل البدء، لا بدّ من الإضاءة على جذور جزء كبير من الهواجس المطروحة بوجه هذه التصريحات من قبل أبناء الشعب الفلسطيني داخل الأرض المحتلة وفي الشتات. فنموذج “الدولة” الوحيد الذي يعرفه الفلسطينيون هو نموذج سلطة أوسلو التي بالإمكان تعريفها كأداة عمالة محلّية للعدو. وقد جاء تشكيل هذه السلطة على حساب مصير وتضحيات ملايين الفلسطينيين مقابل فُتات مؤسساتي مؤقت ريثما تستوي طبخة القضاء على ما تبقّى من الشعب الفلسطيني والأرض العربية. يُضاف إلى ذلك أنّ طرح “الدولة على حدود 1967” لطالما ارتبط في الوعي السياسي الفلسطيني بالتنازل عن الثوابت الفلسطينية والخضوع لإرادة العدو. ولعلّ أبرز حدث ساهم في إنتاج هذه الهواجس كانت محنة “النقاط العشر”، وهي برنامج سياسي أقرّته القيادة المتنفذّة في منظمة التحرير عام 1974 والتي أدّت إلى انقسام كبير في صفوف فصائل المنظمة بما فيها التيارات داخل حركة “فتح”. وكانت النقطة الثانية في البرنامج هي موضع الجدل الأكبر، وهي تنصّ على أن “تناضل منظمة التحرير بكافة الوسائل وعلى رأسها الكفاح المسلح لتحرير الأرض الفلسطينية وإقامة سلطة الشعب الوطنية المستقلة المقاتلة على كل جزء من الأرض الفلسطينية التي يتم تحريرها”.
رغم عدم تطرّقه لفكرة الاعتراف بالكيان الصهيوني وتأكيده على التحرير الكامل، نُظِرَ إلى هذا البند كمؤشر على تماهي قيادة المنظمة مع خيارات التسوية الأمريكية، خاصةً وأنّ الثورة الفلسطينية في ذلك الوقت كانت تملك من القوة ما يجعل التنازل عن ثوابتها موضع استغراب. وكان النقاش محتدمًا حول أولوية التحرير على الدولة، فيما راح مناصرو البرنامج المرحلي يطرحون فكرة “التحرير على مراحل” كضرورة براغماتية. بالمقابل، خلص المعترضون (جبهة الرفض) إلى أنّ تقديم فكرة “الدولة” على التحرير هو استسلام على مراحل. فقضية إقامة سلطة على أي أرض محرّرة هي فعلٌ بديهي في معركة التحرير، لكنّ تثبيتها كبند في برنامج سياسي طرح علامات استفهام، مما دفع بعض المعترضين إلى الضغط لإضافة مصطلح “المقاتِلة” الذي يظهر لتعريف سلطة الشعب في البرنامج وذلك للتأكيد على أولوية مسار التحرير.
عمليًا، كان الخلاف الجوهري بين الطرفين يتمحور حول الأولويات؛ فالتيار التنازلي وضع “الدولة” هدفًا بذاته في ظل غياب استراتيجية واضحة للتحرير، وهو ما أثبتته التجربة السياسية ما قبل الاجتياح وصولًا إلى أوسلو. وطرح الدولة الفلسطينية كهدف مستقل عن استراتيجية التحرير ليس مجرّد إيذانٍ بالتنازل عن ثوابت الثورة الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني، بل هي حماقة سياسية تقدّم أوراق مجانية لمشروع إبادي لم ولن يسمح بأي وجود فلسطيني خارج سياق العبودية.
لهذا، فإنّ الهاجس الشعبي الرافض لخطاب “الدولة” قوامه عمودان أساسيان: قصور الفكرة وفشل التجربة – ومن المستحيل تجاهل أحقية هذا الهاجس.
“حماس” وخطاب “الدولة”
كما أسلفنا، ليس خطاب الدولة بجديد على أدبيات الحركة، وإن ظلّ لعقود محصورًا في خانة المناورة السياسية التي تبني من خلالها الحركة شبكة علاقاتها الإقليمية والدولية، خاصةً بعد انتخابات 2006. فمن النادر – مثلًا – أن نسمع مصطلحات “حدود 1967” في خطابات القادة العسكريين والميدانيين، فيما استقرّت أدبيات الحركة على مصطلح “الدولة” دون التطرّق إلى حلّ الدولتين وما يستجلبه من التزام بالاعتراف بالكيان الصهيوني، وهو أمر ما يزال خطًّا أحمر عند جميع قواعد الحركة وقياداتها.
إبّان “طوفان الأقصى”، برز استخدام مصطلح “الدولة المستقلة” كهدف مرافق للتحرير في خطابات القائد محمد الضيف وخطابات أبو عبيدة وإسماعيل هنية. هذا التطوّر الاصطلاحي لم يأخذ الكثير من الاهتمام في ظلّ عظمة الحدث وهول الإبادة التي تلته. لكن وبعد 7 أشهر من “الطوفان”، ومع تصعيد المعركة إلى مرحلة التهديد الوجودي للهيمنة الأمريكية (وقاعدتها الأكبر “إسرائيل”) على المنطقة، يظهر خطاب “الدولة المستقلّة” كتصوّر سياسي فلسطيني ممكن لسؤال “اليوم التالي”. يقابله في الإمكانية احتمال عدم وجود “يوم تالٍ”، أي استمرار وتوسّع الحرب إلى مصيرٍ لن تعلمه أطرافها إلا بخوضها. فهل يمكن اعتبار هذا الخطاب تفريطًا من طرف “حماس”؟
محاكاة الدولة الفلسطينية المقاتلة
يمكن تقسيم طرح “حماس” حول “الدولة الفلسطينية المستقلة” إلى 3 كلمات مفاتيح تساعد على فهم جوهرها:
الكلمة الأولى، هي “الدولة”، وهي الأداة التي تعبّر من خلالها الحركة عن جديّتها كمشروع سياسي على الصعد الوطنية والإقليمية والدولية. فغاية الدولة بوابة للعلاقات الدولية من جهة، من جهة أخرى طمأنة للجبهة الداخلية (التي تتحمّل عبء المعركة الأكبر) أنه ثمة هدف ومشروع لتحقيق الهدف وتحويل التضحيات إلى مكاسب سياسية للشعب.
أما الكلمة الثانية، فهي “المستقلة”، وهي أهم مصطلح يحدّد تعريفه مسار هذا الطرح. إذ تشدّد الحركة على شروط كسر الحصار وضمان “استقلالية” الدولة الفلسطينية لناحية السيادة على المعابر والاقتصاد المنفصل عن كيان العدوّ.
أما الكلمة الثالثة، والمرتبطة بالكلمة الثانية، فهي “الاعتراف” والتي تغيب بوضوح عن وثيقة وتصريحات قادة الحركة بشكل كامل.
تاريخيًا، ارتبطت إمكانية إقامة الدولة الفلسطينية على حدود 1967 بشرط الاعتراف بشرعية الكيان على الأرض الفلسطينية، لا بل والتعاون معه أمنيًا واقتصاديًا. تغييب المصطلح والتركيز على استقلالية الدولة يوحيان بتوجّه الحركة إلى إعادة إنتاج نموذج غزة بصلاحيات أوسع وعلى رقعة جغرافية أكبر. وهذا يعني أن يمتلك الشعب الفلسطيني في الضفة وغزة إدارة سياسية على جزء من أرض فلسطين، لكنها على عكس سلطة أوسلو، تحافظ على ورقة المقاومة وتسعى إلى تعزيزها ضمن عباءة الدولة.
وبعيدًا عن التخيّلات، فإنّ التصوّر العملي الأقرب لهذا الطرح هو نموذج المقاومة في لبنان. حيث تعمل المقاومة بكامل طاقتها وحريّتها وثوريتها ضمن عالم موازٍ لعالم الدولة الرسمية، وإن كان الاحتكاك بين العالمين شرٌّ لا مفرّ منه. بناءً على ذلك، فالمحاكاة النظرية تسعفنا على تصوّر مبدئي قوامه أنّ “الدولة الفلسطينية المستقلة” ستكون عبارة عن سلطة فلسطينية مقاتِلة ومعادية لـ”إسرائيل” بقيادة تحالف فصائل المقاومة الفلسطينية على أراضي الضفة الغربية وغزة المحرّرة من الحصار الصهيوني.
من المحاكاة إلى الواقع
لكن ما طُرح أعلاه يظلّ محاكاة نظريّة لسيناريو متعدّد الفخاخ: أولها وأبرزها، هو الرفض الأمريكي-الصهيوني لأي شكل من أشكال الحكم الفلسطيني المتبنّي للمقاومة.
أما الفخّ الثاني، فهو فخّ الضمانات. إذ حتى لو تمكّنت المقاومة الفلسطينية من انتزاع الدولة الفلسطينية المستقلة والمقاتِلة، فما هي ضمانات عدم انقلاب العدوّ على شرط كسر الحصار؟ فالعدوّ ليس كيانًا جامدًا وأوراق الضغط بين يديه متعدّدة، مما يجعل سيناريوهات الانقلاب على الاتفاقيات أو انزلاق الحركة إلى مستنقع التنازلات مقابل الحفاظ على هيكل الدولة احتمالات واردة.
أما الضمانة الوحيدة لإجبار العدو على كسر الحصار وتحقيق “استقلالية” الدولة المقاتِلة، فهي القوّة، وذلك سباقٌ يستحقّ شرحًا مفصّلًا.
لكنّ الفخّ الأكبر والأخطر الذي قد يواجهه طرح الدولة، هو فخّ التموضع السياسي. إنّ تأمين دولة فلسطينية تشكّل قاعدة على طريق التحرير غير ممكن من غير غطاء إقليمي ضاغط ورادع لاحتمالات الانقلاب والانزلاق. وقد أثبتت معركة “طوفان الأقصى” فعالية هذا الغطاء الإقليمي الذي شكّله أركان محور المقاومة في القدرة على ردع أمريكا ومساندة المقاومة الفلسطينية في مشروعها التحرّري. بالمقابل، فإنّ نظام العمالة العربية قد يسعى جاهدًا لاحتواء المقاومة الفلسطينية ودفعها للانزلاق في فخّ “الدولة لأجل الدولة”، وإن كان هذا السعي قد أثبت فشله على مدار عقدين من الزمن وفي أحلك مراحل حصار المقاومة. بالتالي، فإنّ قيام الدولة الفلسطينية المستقلّة والمقاتِلة قابلٌ للتحقّق مع صمود أركان محور المقاومة واتساع رقعة الأثر الشعبي لـ”طوفان الأقصى” في الساحات العربية المغيّبة، لا سيما في الأردن ومصر.
خاتمة
رغم كلّ ما قيل وسيُقال، وفي ظلّ ضبابية مشهد “اليوم التالي”، فإنّ فكرة “الدولة الفلسطينية المستقلة المقاتِلة” قد تدخل في التاريخ على أنّها الحدث الذي يرى فيه طرفا الحرب “تنازلًا” عن غاياتها الأصيلة. من جهتنا كفلسطينيين، لن تُهضَم فكرة “الدولة الفلسطينية على حدود 1967” بسهولة في الوعي الشعبي، وذلك دليل صحّة، لا بل وضرورة لكي يلعب كلّ منّا دوره في تعبيد الطريق نحو التحرير ومنع الانحراف. وكما نجح المعترضون عام 1974 في إضافة مصطلح “مقاتِلة” في النقاط العشر، فإنّ شعبنا سيكون الرقيب القاسي، وإن كانت مقاومته بجميع فصائلها قد طبّقت، قبل “الطوفان” وبعده، مقولة الشهيد غسان كنفاني:
“لا شكّ في أنّ هذه المقاومة ستكون أيضًا الأقدر على أن تحقّق وجهي اقتراحك المتلازمين: خلق الدولة-الرسالة، وخلق الشعب المقاتل”.