عندما يبدأ شاب في مرحلة الخمسينيات من القرن العشرين حياته في عالم السياسة والفكر ماركسيًا، أو شيوعيًا، لا ينبهر بالديمقراطية الغربية، كما يمكن أن يفعل اليوم شاب يبدأ حياته السياسية والفكرية، وهو لم يتأثر بالماركسية والتجربة السوفياتية، في المنتصف الثاني من الخمسينيات الماضية، ولا سيما بعد انهيار المعسكر الاشتراكي، أوائل تسعينيات القرن الآفل.
فالماركسية اعتبرت، منذ بدايتها، الديمقراطية الغربية دكتاتورية الرأسمالية. ووجهت لها نقداً نظريًا، وسياسيًا، صارماً. ولكن كانت أول معضلة واجهتها في الديمقراطية في الكيان الصهيوني، وذلك عندما كانت السياسة السوفياتية مؤيّدة لقيام دولة الكيان الصهيوني 1948، وبعد أن وافقت على قرار التقسيم رقم 181 لعام 1947.
بلغت تلك المعضلة أوجّها، عندما صدر عن فياتشسلاف مولوتوف، وزير الخارجية السوفياتية، عام 1954، تصريح وصف فيه “إسرائيل” بـ”واحة الديمقراطية في الشرق الأوسط”. وقد أربك الشيوعيين في ذلك الوقت، كيف يدافعون عنه، أو يسكتون عليه. ولكن سرعان ما طويت الصفحة بعد بيان نيكولاي بولغانين، رئيس الاتحاد السوفياتي، الذي هدّد فيه بقصف “تل أبيب”، كما فعل مع لندن وباريس، إن لم يوقفوا العدوان الثلاثي على مصر 1956. وبهذا خرج من قاموس الاتحاد السوفياتي وصف “إسرائيل” بـ”واحة الديمقراطية”.
على أنّ انهيار الاتحاد السوفياتي والمعسكر الاشتراكي في 1991، حوّل، في ما حوّل، الكثيرين من الشيوعيين السابقين والماركسيين، إلى منبهرين بالديمقراطية الغربية. وذهب بعضهم ليصبحوا في مقدمة الليبراليين والديمقراطيين، كموقف سياسي وفلسفي ونظري، من الديمقراطية الغربية، والليبرالية عمومًا.
أصابت هذه الموجة عددًا مقدّرًا من قادة الحركات القومية والإسلامية، والمفكرين الإسلاميين والقوميين، ولا سيما في الإطار العربي الإسلامي، ممن راحوا يعتبرون النظام الديمقراطي الغربي النموذج الأفضل لنظام الحكم، كنظام سياسي في اختيار الحكام والحكومات. طبعًا، شجّعهم على ذلك الاستبداد والفساد في عدد من الأنظمة العربية.
هذه المقالة تصف، ولا تذهب لمناقشة الموضوع في أساسه النظري والسياسي والفكري، عدا بُعد واحد؛ وهو الموقف من الديمقراطية في الكيان الصهيوني، وفي الغرب عمومًا، ولا سيما، من القتل الجماعي الإبادي الذي غطته، وما زالت تغطيه، “الديمقراطية الإسرائيلية” والديمقراطيات الغربية عمومًا، ولم تستطع الديمقراطيات، أو لم ترغب، في وقفه، على مدى استمر أشهرًا، وقد دخل شهره السابع. الأمر الذي يشكّل ضربة قاتلة للحضارة الصهيو-غربية المعاصرة مع العام الممتد من تشرين الأول/أكتوبر 2023 إلى نيسان/إبريل 2024.
استند بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء، إلى أغلبية ضئيلة في الكنيست (أغلبية أربعة أعضاء من أصل 120 عضوًا) ليفرض قيادته لحرب إبادة جماعية، والسير بحرب برّية خاسرة يوميًا على مدى ستة أشهر. وقد تحدّى الرأي العام العالمي، وإدارة بايدن والحكومات الغربية، وتظاهرات ضخمة من أهالي الأسرى ومؤيديهم، لوقف الحرب الخاسرة، وإطلاق من سُمّوا بالمحتجزين خلال عملية “طوفان الأقصى”.
إنّ “الديمقراطية الإسرائيلية” غطّت وقادت حرب إبادة إنسانية، وتدميرًا لمدن ومخيمات زادت على 80% من عمارها، لمدة ستة أشهر كاملة، شكّلت نموذجًا للخروج ضدّ القانون الدولي، والقانون الإنساني الدولي، وكل ما تعارفت عليه الإنسانية من قِيَم وأخلاق وأديان وحقوق إنسان.
وكذلك كان حال الديمقراطيات الغربية التي تواطأت مع هذه الجريمة الفظيعة التي داست على العقلانية، وعلى الضمير العالمي. ولم ترغب، عملياً، في وقفها، حتى وهي تدّعي أنها تأخذ عليها المآخذ.
عندما تسقط الديمقراطية كنظام سياسي، ومرجعية مبدئية، أمام امتحان حرب الإبادة المحرّمة من قِبَل كل المبادئ، في قطاع غزة، يُفترض أن يُعاد النظر فيها، وإنزالها من مكانها العالي، والذي كاد يُقدّسها، لتوضع على مشرحة النقد والتقويم، هي والحضارة الصهيو-غربية الراهنة. وهنا يجب أن يتنبّه المعجبون بحضارة الأنوار والحداثة والعلمانية.
ولكي تبلور هذه النقطة أكثر، وبصورة أعمق، يجب أن تعاد قراءة الإبادة الإنسانية، والدمار المهول في قطاع غزة. وذلك لأنهما تخطّيا، في الإجرام، الخارج عن كل عقل إنساني وقيم، وحرب، وشرّ، ليكرّسا حالة وحشية خرجت على كل ما هو إنساني (وحتى حيواني) من جهة مرتكبها، وضدّ وضع العالم كله أمام مسؤولية، وهو يشاهد تفاصيل المجزرة، وأيامها الـ ٢٠٠، وبالصوت والصورة. مما أدخله في أزمة خانقة مدمّرة إنسانية وعقلية وأخلاقية. فقد تورّط العالم بعدم القدرة، أو بعدم الرغبة، أو بسبب ما ادّعاه من مبادئ وقِيَم، ما دام لم ينزل بنتنياهو ومرتكبي تلك الجريمة، ما يستحقون من عقوبة، بمستوى حجم جريمتهم وإهانتهم، للعالم أجمع.
وبهذا تكون الديمقراطيتان الصهيونية والغربية قد سقطتا في امتحان المجزرة التي تعرّضَّ، وما زال يتعرّض لها، قطاع غزة.
وبالمناسبة، إنّ السقوط بهذا الامتحان ليس جديدًا. فقد حصل السقوط منذ أن خرجت أوروبا من سجنها، بعد اكتشاف الطريق إلى الأمريكيتين، واكتشاف الطريق البحري عبر رأس الرجاء الصالح حيث تصالحت حضارة عصر الأنوار، والعقل والعلمانية وحرية الإنسان، مع ما تمّ من مجازر للهنود الحمر، وسكان الجزر في المحيطين الأطلسي والهادئ، ونقل ملايين العبيد من أفريقيا إلى الولايات المتحدة، ثم التصالح مع النظام الرأسمالي العالمي، والاستعمار والإمبريالية والهيمنة، وصولًا إلى إقامة الكيان الصهيوني، وتكريس نظام القطب الواحد خلال العقود الثلاثة الماضية.
فعندما نشاهد، بدهشة عالية، كيف تتواطؤ علنًا الحضارة الغربية، من خلال دولها في أمريكا وأوروبا، مع استراتيجية الإبادة في قطاع غزة، لا سيما خلال الأشهر الثلاثة الأولى، ثم تزدوج في الأشهر الثلاثة الأخرى، وذلك بالمطالبة بهدنة إنسانية، وتخفيف وطأة الحصار، وفرض حرب الجوع والحرمان من الماء والدواء والغطاء (وتحت، وبين، دمار للعمار شبه شامل في ظل قسوة برد الشتاء، وأمطاره وسيوله) من جهة، واستمرار الدعم العسكري للجيش الذي يرتكب المجزرة، من جهة أخرى.
حقاً، يجب ألّا ندهش. لأن هذا التواطؤ له تاريخ عريق في الحضارة الغربية المعاصرة، بعد أواخر القرن السادس عشر إلى اليوم. علمًا أن ما حملته المجزرة الراهنة في قطاع غزة، له استثناء يتخطى كل ما سبقه من مجازر، ولا سيما وقوع تفاصيل المجزرة المستمرة بلا انقطاع طوال ستة أشهر، وتحت الصورة والصوت، ورؤية الدمار والأشلاء، وتدمير المستشفيات، وارتكاب كل ما يخالف القانون الدولي، والأخلاق والقِيَم الإنسانية، أمام العالم بأسره، وأساسًا، العالم الغربي الذي بإمكانه وقف المجزرة.
على أن نقد الديمقراطية الغربية لا ينحصر بالسقوط في امتحان المجازر، أو مظالم النظام الرأسمالي، وجرائم الاستعمار والإمبريالية، وإنما هناك نقد آخر على مستوى نقد الديمقراطية، كنظام يفتقر للمساواة والعدالة، وتمثيل أغلبية الشعب، كما يسمح للأقلية الأقوى ماليًا والمتنفذة، على الحكم باسم الديمقراطية… ولكن لهذا كله حديث آخر.