“كان أهل القدس يحركون كل فلسطين في السنوات الماضية، كيف تغير ذلك؟”
كان هذا أحد التعليقات التي استوقفتني على إحدى منصات التواصل الاجتماعي، ودفعتني للتفكير مليًا في دور القدس، وكيف كانت تحرك فلسطين كاملة فعلًا قبل “طوفان الأقصى”، وللتفكير في العوامل التي أثّرت على تغيّر المشهد المقدسي.
علينا، أولًا، أن نفهم ذلك التعليق في سياق تعاظم موجة الغضب الممزوجة بشعوري العدمية واليأس اللذين يسيطران على أغلب فئات شعبنا وهم يشاهدون دم أهلهم في غزة يستباح ويسفك، فتحوّل الشعب الفلسطيني إلى حرب تراشق تهم وتحميل بعضهم البعض مسؤولية ترك غزة.
وعلينا، ثانيًا، أن نحلّل كل بقعة جغرافية فلسطينية وعربية لنتجاوز إخفاقاتها ونساهم في زيادة نجاحها في “طوفان الأقصى”، حتى نترجم غضبنا إلى خطوات وأفعال. لأن ذلك الغضب الشعبي حين يتحول إلى عدمية وجلد للذات وللآخر، بدل أن يتحوّل لمخزون ثوري يصب غضبه على الاحتلال، نكون، كشعب، قد وصلنا إلى مرحلة انهزامية مجحفة بحق الشهداء والعابرين في السابع من أكتوبر.
سأحاول في هذا النص التطرّق لكل أدوات الاحتلال وشركائه في نزع ثوريّة القدس، ونزع ثوريّة الصلاة في المسجد الأقصى، كمحاولة لفهم ونقد الواقع المرير في القدس خاصة، في ظل حرب الإبادة على غزة، بغية المساهمة في إيجاد حلول واقعية تساهم في التخفيف عن أهلنا في غزة، ولبناء جبهات شعبية تحول دون تحقيق هزيمة للمقاومة وشعبها في غزة، وتحول دون هزيمتنا داخليًا في الظروف الراهنة.
يمكن فهم الحرب على القدس من خلال فهم أساليب الاحتلال في محاربة ثوريّة المدينة المقدسة، واحتواء كل فعل ثوري يخرج عنها خاصة خلال معركة “طوفان الأقصى”. إن تتبّعنا سياسة الاحتلال في القدس من بدايات مسيرات “توحيد القدس” التهويدية، والاقتحامات للمسجد الأقصى بعد الانتفاضة الثانية، سندرك أن الاحتلال يبدع في خلق طرق تعمل على تحييد المقدسيين، سواء بالقوة الناعمة أو بالقمع المباشر. ولتسهيل فهم العوامل المركبة، يمكن أن نتخيل أن هناك جهازًا صهيونيًا متخصصًا في شؤون القدس، يعمل على التنسيق وتحقيق التكامل في الأدوار السياسية الصهيونية في القدس، بحيث يربط الملاحقات والوعاء السياسي، مع ما يسميه بالتسهيلات التي تستهدف المقدسيين من بلدية القدس. فيعمل بشكل تدريجي على إقصاء كل مقدسي يعمل لهدف سياسي وطني من خلال الإبعاد والنفي والاعتقالات وسحب الإقامات. وهو ما عمل عليه الصهاينة داخل الجهاز الأمني والقضائي، للتعديل على قوانين داخل “الكنيست” تعطي كل أجهزة “الدولة” الضوء الأخضر لإخلاء القدس من كل عامل ثوري، ولترهيب من تبقى من المقدسيين.
أمّا بلدية الاحتلال، وبالشراكة مع عدة جهات من وزارات الكيان، فتعمل على محاولات دمج المقدسيين في “الدولة” من خلال عدة مشاريع اقتصادية، مثلًا، كمشاريع قطاع الهايتك، بهدف وضع المقدسيين في وعاء إسرائيلي يساهم في احتجاز المقدسيين داخل قفص “الدولة” محاولة لتحييدهم عن الصراع.
هذه الأمثلة نموذج فحسب عن أساليب الحرب، لأن ما تتعرض له القدس في هذا الجانب أشرس مما يمكن الكتابة عنه في مقال واحد، ورغم تعدد العوامل والسياسات في محاربة ثوريّة القدس، يجب التركيز هنا على الملاحقة الأمنية، حيث عمد الاحتلال إلى زيادة الملاحقات، وزيادة الإبعادات بحق مقدسيين. هذا أكبر العوامل التي تؤثر على العمل الثوري في القدس، لانعدام وجود مساحات منظّمة للعمل، حيث تعتمد عوامل الانتفاضة في القدس على مبادرات فردية طليعية تتحول لهبة شعبية ينخرط فيها فئة الشباب خاصة.
إن عدنا بالزمن إلى صفقات تبادل الأسرى التي قامت بها المقاومة، وحتى أرقام الهيئات المختصة بشؤون الأسرى، سنجد أن للقدس حصة تفوق المتوقع، من الأسر والاعتقال والإبعاد وحتى الحبس المنزلي، خصوصًا لمن هم دون الـ١٨ من أعمارهم.
سهّل الاستهداف الأمني المباشر على الاحتلال إقصاء غالبية الفئات التي تستطيع محاربة التدجين، ويمكن تتبع ذلك حتى عبر كل أجيال الشباب الفاعلة في القدس. نتحدث اليوم عن جيل ما بعد الانتفاضة الثانية، مثلًا، ولكننا يمكن أن نلاحظ النتائج والأساليب ذاتها إن عدنا بالزمن إلى جيل الانتفاضة الأولى، حيث نلمس كيف أن القدس تتلقى الصفعة ذاتها جيلًا بعد جيل، مع اختلافات بسيطة في نوع السياسات القمعية والأطراف المساهمة فيها. وهو ما يصعّب علينا إعادة استنهاض القدس بين ليلة وضحاها، ويتطلب منّا عملًا جادًا لاستنهاض قوانا وحماية من سبقونا في صد سياسات الاحتلال، كي نستطيع تجاوز محاولة الصهاينة قتل كل جيل ثوري تخرّجه القدس.
ويمكن فهم ذلك، مثلًا، بالعودة إلى اشتعال القدس في أول أسابيع “طوفان الأقصى”، حيث استبسل المقدسيون أول الحرب، حتى سقط من بعض الضواحي والقرى شهداء على إثر المواجهات. وكانت أول عملية فردية تلبي نداء غزة هي عملية الشهيد المقدسي خالد المحتسب، ليعمل الصهاينة بعدها على ترهيب من تحرك من المقدسيين، وتطوير سياستهم الردعية. فلأول مرة، ورغم عدم وقوع قتلى من عملية الشهيد محتسب، أصدر الاحتلال أمرًا بهدم منزله، واحتواء كل من يبدي أي رغبة في أي انتفاضة من خلال حملات الاعتقالات الواسعة في سلوان والعيساوية ومخيم شعفاط وبلدات وقرى أخرى.
على الرغم من ذلك كله، لم تكن تلك الجهود الصهيونية كافية لتحويل القدس إلى مدينة تعيش حالة من المواطنة، وإقصاء كل عامل سياسي للانتفاضة، ما استدعى تدخلات عربية وإقليمية من دول الخليج وتركيا والمغرب، وحتى السلطة الفلسطينية ونواب الكنيست العرب، للمساهمة في كل المشاريع التهويدية بغية إضفاء طابع عربي مهادن وقبول تام. فبعد حملة التطبيع والسقوط العربي الأخيرة بين الكيان الصهيوني والإمارات والمغرب ودول عربية أخرى، يمكن لأي مقدسي أن يرى كيف أن الاستهداف أصبح عربيًا بكل وضوح أيضًا. وهو ما ازداد بعد هبة الشيخ جراح و”سيف القدس”، حيث عمل التحالف الصهيو-عربي على زيادة مشاريع تسعى في استهداف وضرب ثوريّة القدس، لخلق حالة من الرضوخ للأمر الواقع؛ أن لا سيطرة ولا سيادة لنا على القدس، وأننا مواطنون في دولة الاحتلال.
ويمكن أن نرى ذلك بصورة أوضح من خلال تتبّع زيادة الزيارات التطبيعية العربية بصبغات ثقافية ودينية وإعلامية، وانخراط أيدٍ عاملة مغربية في اقتصاد الكيان ومؤسساته، وزيادة الاستثمارات الخليجية داخل فلسطين المحتلة، خاصة في القدس والداخل المحتل.
ولفهم طبيعة ذلك الدور وخبثه في سلخ القدس وأهلها عن الواقع، خاصة في “طوفان الأقصى” ورمضان الأخير، علينا أن نفهم خطورة الزيارات التطبيعية بصبغات دينية أو إعلامية، وآخرها وأهمها زيارة خديجة بن قنة الأخيرة للقدس والأقصى، وتقديم “الجزيرة” لبرنامج حواري في القدس لعدة أهداف: أهمها عكس صورة غير واقعية عن المكان، مفادها أن القدس خارج نطاق الحرب لإقناع المقدسيين والعرب أن الصراع خارج القدس وأنها مدينة آمنة، ولتمرير شهر رمضان في القدس بسلام على الاحتلال. ولهدف آخر أكبر، وهو ترسيخ سيطرة الاحتلال على القدس من خلال تلك الزيارات، كي نستسلم لكون القدس لهم، وأنهم أصحاب القرار على الأرض.
من هنا يأتي الدور الصهيوني في الاستفادة من مشروع “تطبيع التطبيع”؛ يضخ في إعلامه خطاب “حرية العبادة”، ويقول للمقدسيين ها نحن نقدّم “تسهيلات”، وها هي دول الخليج وتركيا تقدّم مساعدات مغمّسة بالدماء الغزية لتكسروا صيامكم داخل ساحات الأقصى، فلا داعي للانتفاضة (يجب التشديد على خطورة تكرار لفظ التسهيلات زورًا في الإعلام، لإقناع المقدسيين بوجود تسهيلات وهمية لتقديم غطاء ناعم لسياسات محاربة ثوريّة الصلاة في الأقصى).
يتكامل الدور العربي في تطبيع التطبيع مع حملات الاعتقال، وكذبة التسهيلات الصهيونية، رغم تحديد الفئات العمرية للمصلين وكل سياسات الاحتلال، مما ساهم في تحويل الأقصى إلى مجرد مكان للصلاة بلا أي معنى سياسي، فاستطاع الاحتلال، بمساهمة المطبعين العرب، تغيير فئات المصلين في الأقصى، بعد أن كانت ساحات الأقصى “أرض رباط” ديني وأرض معركة وطنية تحررية ضد الاحتلال، وهو تحول جذري في الصراع على الأقصى والقدس، لا يجب الاستهانة به. فبعد أن كان أبناء حارة النصارى في القدس، مثلًا، يشاركون في التصدي للاقتحام مع إخوانهم المقدسيين بعد الانتفاضة الثانية، استطاع الاحتلال إقصاء هذا المشهد الوطني، ليتحول الصراع إلى محض صراع ديني، هدفه فقط زيادة أعداد المصلين. فيمكن أن يشارك بهذه المعركة الجديدة أي عربي أو مسلم مطبّع إذ يصلي في الأقصى بموافقة المحتل.
بهذا يتحوّل الأقصى إلى متنزه ديني، يتغنّى به المحتل باحترام حرية العبادة طالما أن الآذان يرفع ضمن شروطه وشروط شركائه من العرب والمسلمين في السلطة والكنيست ودول الخليج والمغرب وتركيا. ويمكن أن تكون محاولة الهتاف لغزة من الشبان المقدسيين الذين انتزعوا حقهم في الوجود داخل الأقصى في آخر أيام رمضان، وحملة الاعتقال المصاحبة لها، خير مثال لنفهم الواقع في الأقصى اليوم. إذ لم ينزعج المحتل من الجنسيات الأجنبية في الأقصى، لكنه استنفر بمجرد سماع هتافات مبايعة المقاومة في غزة، فشنّ حملات اعتقال بعدها بدون إحداث فوضى داخل الساحات، واكتفى بقنابل غاز لتفريق الشبان، من دون تدخّل جيش الاحتلال، حتى يتجنب إشعال الأقصى، ولتبقى الصلاة متاحة للمسلم الخانع الخائف والمسلم المطبّع الأليف.
يبقى سدٌّ مقدسي أخير أمام الحرب الناعمة، هم كبار السن من أهل القدس، الذين، رغم كل القمع، كانوا وحدهم القادرين على الوصول للأقصى، فوصلوا رغم القمع والتنكيل وحتى الضرب المباشر. لنسأل أنفسنا هنا: هل كبارنا الذين زحفوا للأقصى سواسية مع المسلم الخانع القادم بقبول الاحتلال بجنسيته الأجنبية؟
بعد تفكيك مشاريع نزع ثوريّة القدس، والصلاة في الأقصى، علينا أن نحاول طرح حلول لمحاولة تجاوز أسوأ مراحل الصراع على القدس والأقصى. لنعد إلى أهمية محاربة الزيارات التطبيعية العربية: فهي، وإن كانت بظاهرها تهدف للتصدي لتهويد الأقصى، كما يقنعنا بعض علماء الدين من العرب، إلا أنها تخدم غرضًا آخر كليًا يفضي إلى تحويل المسجد إلى متنزه إسلامي يحق لمن يراه الصهاينة مناسبًا الصلاة فيه. هكذا يصبح معنى رباط حاج مقدسي دخل الأقصى بعد الاعتداء عليه، مساوٍ لـ”رباط” المطبّع والمرضي عنه صهيونيًا.
علينا اليوم، أكثر من أي وقت مضى، محاربة ذلك الإسلام الخانع المتعايش مع اليهود الصهاينة، حتى لا نخسر إسلامنا الثوري في القدس. وإنه ليس من المبالغة الخوف من تحوّل المسجد إلى ساحة بعيدة عن الصراع السياسي، وقد يتساوى ذلك حتى مع خطر هدمه، لأن الأقصى يشكل أهم أوجه الصراع بالنسبة للمقدسيين، خاصة لذلك المقدسي الذي يدخله رغم كبر سنه، ويرى فيه دوره السياسي وواجبه الوطني في دحر الاحتلال رغم القمع والتنكيل.
ختامًا، لقد نجحنا، كمقدسيين، منذ بضع أسابيع، في رفض المساهمات العربية والتركية، بسبب دورهم في التحالف مع الاحتلال بشكل مفضوح في الحرب على غزة، لكننا أيضًا رفضناها حتى لا يتحول المسجد الأقصى إلى مساحة يتناول فيها الصائم وجبته ويؤدّي عبادته، من دون أي معنى سياسي وطني لوجوده فيه. علينا، كمقدسيين، إيجاد حلول رافضة للأمر الواقع الذي يعمل الصهاينة لفرضه علينا في عز حرب الإبادة على غزة، وبمساهمة عربية. وحتى لا نصبح منزوعي الإرادة والثورية، علينا، أيضًا، أن نتذكّر تلك الأم في قرية العيساوية، التي قدّمت نجلها الطفل الشهيد لغزة وأهلها في بداية الحرب، وهي تصرخ: “حط السيف قبال السيف إحنا رجال محمد ضيف”. وعلينا اليوم أن نتجاوز كل تلك العقبات ومحاولات التدجين والتخدير، لنكون سندًا حقيقيًا لغزة وأهلها ومقاومتها، كما كانت دومًا سندًا لنا، لنستعيد دورنا الثوري الذي عرفته كل فلسطين.