بنى رئيس حكومة العدو بنيامين نتنياهو، مجده، الشخصي والسياسي، على مواجهة إيران. هو، بالنسبة لكثير من الإسرائيليين، “سيد الأمن”، الذي لم يبادر إلى حرب أبدًا. وهو، بالنسبة لأنصاره، الوحيد الذي يمكنه مواجهة الخطر النووي الإيراني والضغوط الأمريكية. فهو من أقنع الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، بالانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران، وهو من اغتال العلماء النوويين الإيرانيين، وهو من فجّر منشأة التخصيب في نطنز، وهو من تحدى الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما، وتوجه إلى الكونغرس من دون توجيه دعوة رسمية له من البيت الأبيض لإلقاء كلمة هاجم فيها أوباما في عقر داره.
ونتنياهو هو من كبّر الوحش الإيراني ومن غذاه في عقول الإسرائيليين، وكان “سيد الأمن” الإسرائيلي يؤجل كل شيء لمواجهة “الخطر الإيراني”. فإذا قيل لـ”بيبي” إن “حماس” تزيد من قدراتها الصاروخية مما يشكل خطرًا على “إسرائيل”، كان يجيب: سياسة “جز العشب” (توجيه ضربات لإضعاف قدرات المقاومة، أثبتت هذه السياسة فشلها وإلا ما كان ليحصل السابع من أكتوبر المجيد) ستكون كفيلة بإضعافها. وإن قيل له إن “حزب الله” بات يمتلك صواريخ دقيقة، كان يجيب بأن “المعركة بين الحروب” كفيلة بإضعاف قدراته (وهذه السياسة أيضًا أثبتت فشلها في المعركة الدائرة شمال فلسطين المحتلة).
بنى نتنياهو رهاناته على صبر إيران الاستراتيجي، وأنه مهما وجّه إليها من ضربات فإن رد فعلها سيبقى مضبوطًا ومحمولًا وبعيدًا عن “إسرائيل” نفسها. إلا أن ما جرى في الأيام الماضية، أظهر، وبحسب أغلب المحللين العسكريين الإسرائيليين، أن شعبة الاستخبارات العسكرية (أمان) أخطأت هذه المرة في تقدير رد فعل إيران على استهداف قنصليتها في دمشق. إذ تبين أن طهران، التي لطالما أبدت “صبرًا استراتيجيًا” على الهجمات الإسرائيلية وصلت هذه المرة إلى الخط الأحمر الممنوع تجاوزه من قبل أحد وهو استهداف أراضيها.
إعلام العدو الإسرائيلي ومحللوه، جادلوا، في الفترة الماضية، ومن لحظة إعلان إيران نيتها توجيه ضربة إلى “إسرائيل” إلى لحظة تنفيذها، أن طهران مجبرة على الرد لأن الشخص المستهدف، الشهيد حسن زاهدي -قائد “الحرس الثوري” في سورية ولبنان- يوازي ثقله الشهيد اللواء قاسم سليماني، متغاضين أن الرد الإيراني سببه هو استهداف القنصلية التي تعتبر أرض إيرانية. وهذا التغاضي مرده إلى أن العدو الإسرائيلي حاول، بعد توجيه الضربة مباشرة بداية الشهر الجاري، القول ان المبنى المستهدف ليس مبنى ديبلوماسي إنما هو مستأجر لصالح السفارة ويستخدمه الحرس الثوري كمركز له، أي أنه ليس أراضًا إيرانية.
إلا أن تأكيد المرشد الأعلى للثورة علي خامنئي أن المكان المستهدف هو قنصلية وأرض إيرانية وأن “إسرائيل” ستنال عقابها على خطئها، دفع أغلب المحللين العسكريين للتشكيك في صوابية قرار مهاجمة المبنى، واعتبار أن شعبة “أمان” ارتكبت، في نصف سنة، خطأين كارثيين: الأول، عدم معرفة نية “حماس” ليلة السابع من أكتوبر. والثاني، تقديم تقدير موقف خاطئ لرد فعل إيران بما يتعلق بمهاجمة القنصلية.
الآن، وبما أن الواقعة وقعت، وقد ردت إيران على الاعتداء الإسرائيلي مباشرة من أراضيها، فإن أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية تعيد تقييم الموقف الإيراني، وتحاول معرفة طبيعة وحجم الرد الإيراني المتوقع على الرد الإسرائيلي المحتمل. إعادة التعرف على الإيرانيين فرض، حتى على الأمريكيين، بحسب قناة “كان” العبرية، الاعتراف بأنهم لم يتوقعوا أن يكون الرد الإيراني بهذا الحجم والجرأة. إذ نقلت القناة عن مسؤولين أمريكيين قولهم أن “الولايات المتحدة اعتمدت كثيرًا على الاعتقاد الخاطئ بأن المرشد الأعلى الإيراني، خامنئي، سيكون حذرًا ولن يشن أبدًا هجومًا مباشرًا على إسرائيل، وهذا يتطلب إعادة تقييم لموقف إيران”.
إذن، فاجأت طهران الجميع، أولًا لردها على العدو الإسرائيلي من أراضيها مباشرة، ثانيًا لأن الرد إيراني محض ولم يكن لـ”أذرعها” (كما يصفهم العدو) أي دور فيه. كما أظهر ما فعلته طهران فجر 14 نيسان أنه لصد 300 مسيرة وصاروخ من الجيل القديم، تطلب تعاون 7 دول لحماية إسرائيل (أمريكا، بريطانيا، فرنسا، الأردن، إسرائيل، والسعودية والإمارات استخباراتيًا)، وكل واحدة من هذه الدول تمتلك طبقات دفاع جوي متعددة فعّلت كلها للتصدي للهجوم الإيراني. إلا أنه، وبرغم من كل طبقات الدفاع تلك، نجحت بعض الصواريخ من الوصول إلى أهدافها حتى لو حاول العدو (والمتصهينيون العرب) من تقليل شأن الضربة وحجم الأضرار. ولنفترض أنه لم تصل هذه الصواريخ إلا أن مشهدها في سماء فلسطين كان كافيًا لإظهار قدرة إيران على ضرب “إسرائيل”. ويجب التذكير أنه يمكن لإيران إطلاق كميات أكبر ونوعيات صواريخ ومسيرات أحدث، وعلى العدو التفكير مليًا، في حال شاركت “الأذرع” في إغراق “إسرائيل” بالصواريخ لإشغال الدفاعات الجوية، في حجم الدمار الذي يمكن أن يلحق بكيان العدو.
الآن، وأمام ما جرى ليل 14 نيسان، لا يمكن للحكومة الإسرائيلية، وعلى رأسها نتنياهو، إلا الرد على الرد الإيراني لأن:
عدم الرد على الهجوم الإيراني يعني أن سياسة “الجدار الحديدي” (استخدام القوة القصوى لإقناع الدول المحيطة بإسرائيل بقوتها لليأس من محاربتها والتفكير بإزالتها)، التي وضعها زئيف جابوتنسكي وتبنتها “إسرائيل” بعد تأسيس الكيان تجاه الدول المحيطة، سقطت
عدم الرد على الهجوم الإيراني يعني أن ما تصفه “إسرائيل” أذرع إيران في المنطقة سيتجرؤن عليها وسيتوثبون لمهاجمتها.
عدم الرد على الهجوم الإيراني يعني أن “إسرائيل” أضعف من إيران حاليًا، فكيف سيكون حالها في حال امتلكت إيران قنبلة نووية
عدم الرد على الهجوم الإيراني يعني أن الدول العربية التي ارتضت بالتطبيع مع “إسرائيل” خوفًا من إيران، وبسبب الدعاية الإسرائيلية التي قالت إنها الوحيدة التي يمكنها مواجهة إيران، ستعيد التفكير في خيارها مع ظهور الضعف الإسرائيلي
عدم الرد على الهجوم الإيراني سيجعل الفلسطينيين في فلسطين التاريخية يتوثبون لمهاجمة “إسرائيل” بشكل أكبر، وفي حال لم يترجم ذلك بالعمل الميداني فإن الخيارات السياسية الإيرانية (المقاومة) ستصبح متبناة في الداخل الفلسطيني خاصة بعد التأييد الكبير الذي ظهر فجر 14 نيسان والهتافات التي رفعت لإيران ومرشدها.
عدم الرد على الهجوم الإيراني سيجعل من خيار المقاومة أقوى في المنطقة مما يضعف “إسرائيل” وحتى الأنظمة العربية المحيطة بها
عدم الرد على الهجوم الإيراني سينسف كل الرواية التي نسجها نتنياهو على مدى السنوات الماضية أنه الوحيد الذي يمكنه مواجهة إيران
عدم الرد على الهجوم الإيراني سيظهر الجيش الإسرائيلي أنه غير قادر على مواجهة إيران بشكل مباشر وأن أقصى ما يمكن فعله هو العمليات الأمنية داخل إيران.
كيف سيكون شكل هذا الرد؟
-الرد الأمني: تمتلك إسرائيل قدرة أمنية كبيرة داخل إيران، فهي على مدى السنوات الماضية أنشأت إسرائيل شبكات تجسس استهدفت المنشآت النووية والعلماء بالإضافة إلى تنفيذ عمليات اغتيال وتفجير عدة داخل الأراضي الإيرانية. هذا النوع من الرد على الهجوم الإيراني لن يغير من المعادلة الجديدة التي وضعتها طهران بعد 14 نيسان بشيء. فأي رد أمني، حتى لو ظهرت بصمته الإسرائيلية، لا معنى له، وستبقى يد إيران هي العليا، وهذا النوع من الردود يأتي في السياق المعركة القديم.
-الرد في سوريا او لبنان: أي رد إسرائيلي على مواقع إيرانية تابعة للحرس الثوري خارج حدود إيران الجغرافية، مهما كانت كثافته وقوته، فهو أيضًا يعتبر في سياق المعركة بين الحروب ولا يعتبر ردًا على الرد الإيراني، إنما يمكن اعتباره تنفيسًا للغضب الإسرائيلي. فإذا خرجت “إسرائيل” الآن لشن غارات على مواقع الحرس في سورية والعراق ولبنان (هنا يجب على العدو التفكير في المعادلات المرسومة، فإذا كان القصف على لبنان، حتى ولو لاستهداف مراكز “الحرس”، سيدفع حزب الله للرد على “إسرائيل” بشكل أقوى لأنه يعتبر اعتداء على لبنان)، فهذه الموجة من القصف تأتي في سياق “المعركة بين الحروب”، ولا يمكن اعتبارها رداً على الرد الإيراني على “إسرائيل”.
لكن ما هو غير واضح حتى الآن هو هل ستقبل إيران بأي رد على أراضيها أو مصالحها؟ وهل الرد الإيراني محصور على أي اعتداء إسرائيلي على أراض إيرانية فقط، أم أن المعادلة الجديدة التي رسمتها إيران تتضمن استهداف المصالح الإيرانية في الخارج (مراكز الحرس الثوري وأفراده)؟ الأيام ستكشف طبيعة المعادلة التي وضعتها إيران، والعدو الإسرائيلي مجبر على اكتشافها بالنار ليعرف سقف عمله كيف سيكون، وما هي الخطوط الحمر الجديدة التي وضعت أمامه.
في الخلاصة، تحتاج “إسرائيل” لكسر المعادلة التي رسمتها إيران إلى رد واضح صاخب وبيّن مشابه للرد الإيراني، يتلوه بيان صادر عن الجيش الإسرائيلي يحدد فيه ما هاجمه، وما دون ذلك يأتي في السياق الطبيعي وضمن المعركة الدائرة بين كيان العدو والجمهورية الإسلامية. لكن بعد هذه الخطوة على العدو انتظار الرد الإيراني، وربما من حلفاء إيران أيضًا، وعليه أيضًا أن يفكر كيف سيتمكن من التصدي، مثلًا، لألف مقذوف (مسيرة وصاروخ) تطلق دفعة واحدة من إيران، وعلى حلفاء العدو الإسرائيلي تحديد ما إذا كان يمكنه تحمل تكلفة الرد والرد على الرد.