“قدر الهندي الذي يواجه الأنكلوسكسوني مثل قدر الكنعاني الذي يواجه الإسرائيلي: إنه الموت” – جيمس بولدين، نائب في الكونغرس ما بين 1834-1839
لم تكن عنونة الدكتور منير العكش لفصل كامل من كتابه: أمريكا والإبادات الجماعية بـ”المعنى الإسرائيلي لأمريكا” انحيازًا عاطفيًا لعربي، أو لسوري المولد، فلسطيني بالاختيار كما يعرف العكش ذاته، وذلك عبر محاولة ربط المشاريع الاستيطانية الإبادية بـ”إسرائيل” ككيان استعماري معاصر فحسب. بل، كما أثبت العكش، فإن الأصل الأيديولوجي لكل استيطان إحلالي أوروبي، وخصوصًا الإنكليزي لما يسمى اليوم بأمريكا، هو الأدبيات الإسرائيلية. ببساطة، فإن القصة الإسرائيلية أو العبرانية التاريخية، لعملية البحث على أرض، والاصطفاء الإلهي لمجموعة للبشر بشكل يؤدي إلى استحقاق أرض وحياة الآخرين، وعليه تبرير إبادة شعوب واستيطان أرضها ونهب ثرواتها، هي الدليل والـ Manual التاريخي لأي مشروع استيطاني إبادي. حيث أن أي إبادة استيطانية إحلالية في السبعة القرون الماضية ما هي إلا تقمص متكرر لوقائع وأبطال والأبعاد الدينية والاجتماعية لسردية خلاص الشعب العبراني. وعليه، فإن المشروع الصهيوني منذ نهاية القرن التاسع عشر، ما هو سوى تبن متأخر لليهود الأوروبيين البيض للقصة الإسرائيلية والمنهج الإستيطاني الذي كان قد سبقهم إليه المسيحيون الأوروبيون بقرون.
فكما يبيّن لنا العكش، الأمر أشبه بمسرحية تتقمص فيها المجتمعات شخصيات خيالية، ثم تعيشها كواقع. فالأنجلوساكسون في القرن الثامن عشر هم “الإسرائيلي” والهنود هم “الكنعانيون”، ويعطف على ذلك، أن العالم الجديد في القارة الأمريكية هي “أرض كنعان” أو “إسرائيل الجديدة” وهلم جرّا. فعملية الإبادة الجماعية تتم عبر شخصيات الفلم العبراني (الإسرائيليين، الشعب المختار، العرق المتفوق) وضحاياها (الكنعانيين، الملعونين، المتوحشين البرابرة) ومسرحها (أرض إسرائيل الجديدة) ومبررها (الحق السماوي والحضاري) وأهدافها (استيلاء على أرض الغير واقتلاعهم جسديًا وثقافيًا).
ومن هنا تركزت أدبيات المستعمرين الأوائل للقارة الأمريكية على تقمص وإعادة تشكيل هذه السردية، كتبًا وأشعارًا وقصصًا، بل وتكييفها كيفما اقتضت الحاجة عبر استيراد مبرراتها “الأخلاقية”. فعبور البحر الأحمر في الحكاية الإسرائيلية هو المحيط الأطلسي، وفتور النشاط الاستعماري نحو الغرب الأمريكي، سببه فرعون لندن وتكبيل البريطانيين عن الوصول “للأرض الموعودة”. ولذلك، طالما كانت استثنائية الدستور الأمريكي وأنه الوثيقة العليا والسامية فوق كل الشعوب والمواثيق والدساتير، تشبّه بألواح موسى الوثيقة التي يحتذى بها عبر العصور، وذلك عبر المحاكاة الواضحة للأسفار. وهو ما يمتد اليوم لشكل الدين العلماني، هذا نراه لدى كثير من الناشطين والمثقفين العرب، الذين تربطهم علاقة أقرب للارتباط والوله الديني بالدستور الأمريكي، كامتداد لتلك الفوقية والاستثنائية المحبوكة من منطلق السردية الإبادية الإسرائيلية، فالشعب المختار يستقي ذلك لحيازته على وثيقة وأدبيات استثنائية.
من أبرز هذه الشواهد، يوم عيد الإستقلال الأول، في الرابع من تموز من عام 1776، حيث عهد الكونغرس لكل من بنجامين فرنكلين وتوماس جيفرسون تصميم خاتم للولايات المتحدة، فكان اختيار الأول رسمًا لموسى فالقًا البحر الأحمر، وأما الثاني رسمًا لبني إسرائيل في التيه. وأما في بدايات القرن التاسع عشر، فتحول تكييف رواية عبور البحر الأحمر من عبور المحيط الأطلسي إلى عبور ما وراء نهر المسيسبي. وعليه، تم القيام بورشة جديدة للأدب الاستعماري لهذا القرن كي تكون “أرض كنعان” ما وراء النهر، وأن اجتياح غرب المسيسيبي وإبادة من فيه هو دور الإسرائيليين الجديد، إلا أن المشكلة التي واجهت هذا الدور الجديد أن لهذا الغرب في نهاية المطاف حدّ وهو شواطئ المحيط الهادئ.
وعليه، وبعد احتلال الفلبين وهاواي وكوبا، أصبح لمفهوم التوسع غربًا معنى أبعد منه للجغرافي إلى النظري، فمع دخول الأمريكي للحربين العالميتين أضحى للدفاع الأمريكي عن الحضارة ومحاربة الهمجية دور جديد موسّع، ليتطور إلى أيديولوجيا محكمة تكيف لها الآداب والفن والروايات والسينما الهوليوودية، وتدخل صناعة الجريمة والإبادة الإسرائيلية أكبر وأكثف أشكالها تعقيدًا منذ بداية البشرية، متجسدة بالهوية والمفهوم الأمريكي للذات والآخر. الأمة المختارة، والأقوى، بالوثيقة الدستورية الأكثر سموًّا. في مقابلة مع علي الظفيري على قناة “الجزيرة” يلاحظ العلاقة الحرمية لتوماس فريدمان وهو يشير إلى البنية التحتية لمؤسسات الحكم الأمريكية في واشنطن “نحن هنا نقف على أرض مقدسة بين الكابيتول والكونغرس ووزارة الخزانة”، وفريدمان فأر تجارب يمثل شخصًا جمع الوله بالمشروعين الإباديين الإسرائيليين في أمريكا والكيان الصهيوني في فلسطين.
أمريكيًا، تحول ما هو غرب المسيسيبي إلى الغرب اللانهائي، إلى ثقب أسود من الموت والإبادات، عابر لكل مكان على الكرة الأرضية، بل واستولد ويرعى أكثر مشاريع الإبادات الإسرائيلية وصهينتها بإسقاط السردية على أرض فلسطين وتلبّس الأوروبيين اليهود لها، فكما أوصى كولومبوس نفسه بأنه لا بد من استثمار ذهب أمريكا في تحرير أورشليم، وهنا يخبرنا العكش بأن الهنود الحمر كانوا أول من بدأ نيابة عنا في الدفاع عن القدس من الهجمات الاستعمارية الأوروبية.
أنتجت الإبادات الأمريكية على القارة “الجديدة” أكبر الإمبراطوريات في تاريخ البشرية وأكثرها فتكًا، ومثّل توسعها الإمبريالي الحجر الأساس للشكل المعولم من الرأسمالية الذي نعيشه اليوم والتقسيمات الكبرى بين ما يسمى بالعالم الأول والعالم الثالث. بل إن النماذج الابادية الصغرى للقبائل الهندية على بقع جغرافية صغيرة نسبيًا في الداخل الأمريكي تحوّلت إلى هجمات إمبريالية على شعوب ودول بأكملها، فأسلحة الدمار الشامل الجرثومية على قرى الهنود انصبت على هيروشيما والفلوجة، والإفقار والجوع والتهجير للهنود تحول لإزاحات سكانية كبرى في وسط وغرب آسيا وقبلها في جنوب شرقها، وحصار بضعة خيم هندية أمسى حصارًا لدول وشعوب بأكملها، وقتلهم البطيء.
لم يكن هذا المشروع الإبادي ليكون دون بناء لجيش، دونما جنود، ولنقف هنا قليلًا ونفكر، كيف لأكبر الجيوش إبادة وقتلًا، أن ينتج منظومة قيمية للفرد المقاتل فيه، السؤال بشكل آخر هو حول العقيدة القتالية للمنتسبين لهذا الجيش. طالما لعب كل من نشر الحضارة ومحاربة الهمجية، من جهة، والحفاظ على “طريقة الحياة الأمريكية” وكذلك “الحرية”، من جهة أخرى، روافد ضخمة للتصور العام للذات والآخر لهذا الجيش.
يخبرنا إدوارد سعيد عن هذه الفوقية والاستثنائية لجيوش الإمبراطوريات، حيث لاحظ أن جميع الجيوش الإمبراطورية تاريخيًا تنطلق بأنها استثناء عما سبقها، وهو ما قاله باراك أوباما مخاطبٍا جمعًا من الجنود الأمريكيين: “نحن لسنا كغيرنا من الإمبراطوريات نقوم بما نقوم به من أجل مصالحنا بل إننا نقوم بكل شيء لإيماننا بأنه الفعل الصحيح والصائب”. ومن هنا تحديدًا، تنطلق العملية الكبرى للدعاية السياسية الأمريكية بأننا قوة الخير، وحملة القيم الكونية والانسانية، ونحمل على عاتقنا نشرها سلمًا أو حربًا، وقبل أن يستلب لها المثقفون العرب، كانت المجتمعات البيضاء ذاتها تتقمص هذا الدور، ناشطوها وشبابها وشاباتها. ففي الرأسمالية الأمريكية، بإمكانك التربّح عبر قتل الإنسان وأيضًا عبر الترويج لحقوق الإنسان، ولكلا الفرعين مؤسساته ومنظماته وموارده الضخمة. وبالنسبة للمجتمع الأبيض، فأنت تمتلك الخيار بين الموردين، ضمن سراب التمايز الأخلاقي بينهما. ففي الأخير، يكمن القاسم المشترك في المنفعة المادية، إن كنت ذهبت لأفغانستان ضمن الصليب الأحمر أو ضمن الجيش الأمريكي، فمكانتك الطبقية هي ذاتها، وامتيازك الأبيض هو عمليًا ذاته.
في ظل ما نعيشه اليوم، ومعاصرتنا للإبادة الصهيونية للشعب الفلسطيني، نحن في إحدى أفضح علاقاتنا مع امتياز المجتمعات البيضاء، يظن بعض العرب أن المسيرات والمظاهرات في الغرب وأوروبا هي من “أصدقائنا” من الأوروبيين – بل إن الغالبية العظمى العظمى منها هي من المهاجرين، وما كثافة هذه المسيرات سوى انعكاس لحجم الهجرة من العالم الثالث للمركز الرأسمالي. والمفارقة، كانت هذه إحدى آخر ملاحظات أحد أبرز مهندسي الإبادات الأمريكية في القرن الماضي، هنري كيسنجر قبل موته، معلقًا على المظاهرات الداعمة لفلسطين في برلين: “لقد كان من الخطأ الفادح السماح بدخول هذا العدد الكبير من الأشخاص من ثقافات وأديان ومفاهيم مختلفة تمامًا، لأنه يخلق مجموعة ضغط داخل كل دولة تفعل ذلك”.
تقول لي حاجة فلسطينية تعيش في أوروبا منذ عقود أنها بعد الحرب أصبحت تكره الخروج للشارع والأسواق لأنها “تراهم” أي البيض. مجتمع يعيش في عالم موازٍ، وفيما نشعر نحن بهول ما نمر فيه، ونتساءل كيف للعالم أن يستمر، يتمايز كل الكوكب عن المجتمعات البيضاء التي تتواطأ مباشرة في عملية الإبادة دولًا واعلامًا ومؤسسات، وحين ترى الديمقراطيات الغربية تستميت في دعم الإبادة الصهيونية تعلم أن هذه المجتمعات والدول تعي في وعيها الجمعي أن مسألة الحفاظ على الامتياز ورغد العيش، أو ما وصفها مسؤول السياسات الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيف بوريل بالحفاظ على حديقتنا الجميلة المحاطة بالغابة من كل اتجاه، ترتبط تاريخيًا وحاضرًا ومستقبلًا بعمليات الإبادة الجماعية. فالابادية مكوّن رئيس للهويات القومية الاستعمارية الأوروبية، وإن كانت الهوية القومية بالنسبة لعديد من علماء الاجتماع عبارة عن قصة وحكاية كبرى لمجتمع بشري ما، فعملية الإبادة لشعوب آسيا وأفريقيا والسكان الأصليين مكوّن أساس مهما اختلف ظهوره من قصة كل هوية أوروبية، وهذه القصة مستمرة وليست من الماضي. وعمليات القتل الجماعية المقترفة من الغرب عملية مطبّعة اجتماعيًا، الغرب هو المجتمع الوحيد الذي تمثل فيه ممارسة جريمة الحرب والاحتلال والقتل الجماعي لشعوب بأكملها، وسيلة للارتقاء في السّلم الاجتماعي. هل لك أن تتخيل مسؤولًا عربيًا أو أفريقيًا أو صينيًا، يخرج يعترف أنه قتل بيده مباشرة 25 أفغانيًا وتستمر حياته ولا يخسر من رصيده الاجتماعي شيء كما فعل الأمير البريطاني هاري، أو أن نحتفل بعملية إبادة جبانة للهنود ونحولها لعيد وطني كما يسمى بـ”عيد الشكر” الأمريكي، أو أن تعيش في مجتمع رموزه هاري ترومان وكيسنجر وتشرشل وليوباردز الثاني والآباء المؤسسون الأمريكيون وتوني بلير وجورج بوش؟
كلما استغرقنا في مدى انصهار الإبادة كحالة ثقافية وعسكرية وسياسية للمجتمعات الغربية، كلما فهمنا مدى عظمة آرون بوشنيل، لم يقم ما قام به آرون في مجتمع مسألة الإبادة فيه وقعها عظيم، بل مطبعة ويحتفى بها تاريخيًا، مكوّن من مكوّنات الهوية، وعملية تاريخية متكررة، لكن وأنت تشاهد لحظاته الأخيرة وكتابته الأخيرة تلاحظ أن وقع مسألة الإبادة عليه كبير جدًا أكبر من الملايين من العرب وشعوب العالم الثالث.
لم يقف آرون متمردًّا على قرون من تاريخ من الإبادات الجماعية، وحسب، بل إن هذا الشاب الأبيض العشريني المنتمي لعائلة محافظة لم يختر طريقًا توفيقيًا بين الضمير والحفاظ على الذات والمصلحة الشخصية، فلم يكرر حتى تمردات سابقة في الجيش الأمريكي تؤدي للسجن كتشيلسي مانينغ، بل وبكل رباطة جأش وإقدام اختار التضحية بكامل وجوده المادي، رفضًا للتواطؤ والمساهمة في إبادة جماعية دونما أي نوع من المساومة.
لا تزال البشرية في خضم العصر الرأسمالي، الذي قام بالضرورة على أكتاف المشاريع الإبادية الكبرى لأمريكا وكندا وأستراليا ونيوزيلندا، والإبادات الفرنسية والبريطانية في الهند وأفريقيا، ولكن ولأن التاريخ يتحرك، فالتاريخ سيتحرك. وعلى المنظومة الاجتماعية والسياسية والأخلاقية التي أنتجتها الرأسمالية، على هيئة الإمبراطورية الأمريكية، أن تنتهي. لكن، السؤال هو تنتهي لماذا؟ ما هو الشكل الثقافي الذي لربما ينجح في الثورة على الثقافة والمؤسسات والتراث الأمريكي؟ من الصعب التكهّن بذلك، لكنه لا استمرارية لأمريكا ولو طال الزمن دونما عقد اجتماعي تاريخي جديد، يشكل انفصالًا عن ثقافة الإبادة البيضاء.
في وقفته واعتزازه بشرفه العسكري قبل إشعال النار، بدا آرون أنه البداية، الجندي الأول، وكأنه أول البوليفاريين في أمريكا الشمالية، الذين قطعوا أواصرهم مع تاريخ الإستعمار الغربي لأمريكا اللاتينية وانطلقوا نحو بناء جمهوري مختلف، كنقيض تاريخي للإبادات. ففي حين كان المستوطنون الأوائل لأمريكا يقولون بأن “إسرائيل هي المرآة التي نرى وجوهنا فيها” نظر آرون لهذه المرآة وفضّل، حرفيًا، حرق وجهه، ليكسر هذه المرآة لمن بعده.
لتكن من الخالدين يا أخانا!