مجزرة رهيبة طويلة الأمد ارتكبها، ويرتكبها، الكيان الصهيوني ضد المدنيين العزّل من سلاح يواجه الطائرات في قطاع غزة. وحدث ذلك، ويحدث، على مشهد من العالم كله، لا سيما على مرأى من قادة الإدارة الأمريكية والحكومات الغربية، ومن بينهم من شارك وأيّد، ولم يزل. هنا ما كان للمرء، قبلها، أن يتصوّر، أن ثمة وحوشًا بشرية يمكن أن تصل إلى التأييد لها، أو السكوت عنها إلى هذا الحد، فيما بمقدورها أن توقفه في أولى خطواته.
طبعًا يعرف كل من قرأ في السياسة، أو في التاريخ الحديث، بأن قادة الغرب والرأسماليين العالميين الغربيين، في كل عهودهم، منذ بدايات القرن السادس عشر، مارسوا النهب والقتل واستعباد الأفارقة، واستعمار الشعوب، واستغلال العمّال، وأدخلوا العالم في حربين عالميتين، أزهقتا أرواح عشرات الملايين من البشر. على أن ثمة خصوصية لمشهد مجزرة المدنيين، طويلة الأمد، وإلى ما بعد 130 يومًا، وعلى مدار الساعة، وقادة العالم الغربي يشهدون بأم العين، ويرون القتل بدم بارد، لأكثر من مئة ألف من الشهداء والجرحى، وأغلبهم من النساء والشيوخ والأطفال، وقد تناثرت الجثث والأشلاء في الشوارع، وتعالت صرخات الأطفال ألمًا من الجراح النازفة، وهم في أيدي آبائهم أو أمهاتهم. وهنا لم يعد بمقدور المرء إلّا أن يعجب من وجود هذا القدر من الوحوش البشرية، تشترك مع ما يجري، ولا توقف الحرب.
لو عدنا إلى تشكّل الجماعات الإنسانية منذ مطلع التاريخ الحضاري الإنساني، لوجدنا البشر انقسموا إلى خيرين وبسطاء ومستضعفين، وإلى أقوياء أشرار (بالمعنى العسكري والسياسي والاقتصادي والاجتماعي). وتنوعت طبقات وفئات الخيرين، ودعاة العدل، ومقاومي الشر. وتنوعت طبقات وفئات الأشرار على مختلف المستويات والدرجات. فالبشر لا يكونون واحدًا إلّا في لحظة الولادة، من حيث وجود القوى الكامنة في الإنسان، والتي يمكن أن تنقسم إلى غرائز هي منبع أو سند كل سلبية أو شر، وإلى فطرة مقابلة يكمن فيها الميل للتعاون والإخاء والوحدة والخير والإيمان، والضمائر الحيّة. هذا وكل من الغرائز، وكل فطرة، معرّض للكبت أو للاعتدال أو للأقصى. وينمو الطفل الاجتماعي متدرجًا، من صغير يحبو إلى مراهق، ثم إلى شاب أو شابة، أو إلى رجل أو إمرأة. ففي هذه المسيرة يتشكّل التنوّع الفردي، وكل وعائلته ومجتمعه، إلى ما لا يحدّ أو يحصى من تعدّد قوميات وعقائد ومجتمعات ومناخات وقارات وظروف. ومن ثم لا يعود الناس واحدًا، فتتعدّد أشكال الشر وأشكال الخير من أدنى إلى أعلى، وصولًا إلى ما وصلته الحروب العالمية الأولى والثانية في المنتصف الأول من القرن العشرين. ثم كانت المجزرة الرهيبة المتواصلة على مدار الساعة، وطويلة الأمد، في قطاع غزة.
هنا، في الحرب على غزة، شهد العالم وعرف وحوشًا بشرية، لا مثيل لها في القتل الجماعي، والعقوبات الجماعية، قصفًا بالطائرات والذخائر الأمريكية. بل هنا عرف العالم، وشهد نمطًا، من الوحوش البشرية، وهم يرتكبون تلك المجزرة، وآخرين يغضون النظر عن ارتكابها، كأن ما تراه العين، وتسمعه الأذن، مجرد أضغاث أحلام. راح العالم كله يشهد ضحايا من أناس عاديين: بيوتًا مدمّرة فوق رؤوسهم، وأشلاء متناثرة يمنع قصف الطائرات من دفنها. ورأى مساجد وكنائس ومدارس تسوّى مع الأرض، ومستشفيات تقتحم ليقتل جرحاها وينكل بطواقمها الطبية، وتُفرغ من أدوات الجراحة أو العمليات، أو بقايا دواء. إنه نمط من الضحايا البسطاء الطيبين الخيرين في هذا العالم.
هذا المشهد، أيضًا، يؤكد كم في هذا العالم من تعدّد واختلاف حتى الانقسام إلى أعداد متعددة من بشر، بعيدًا عما يقال أن الناس واحد، ولا فرق بين واحد وآخر. هذه المساواة قد تجدها لدى فيلسوف هندي حالم، مثلًا، لا يرى إلّا ما يرى في داخله، ولا علاقة له بالظالمين والمظلومين على حد سواء. وبكلمة، رؤية فلسفية لا علاقة لها بالسنن والعالم الخارجي.
اختلاف الأعمال تُقرأ بوجود حقيقة موضوعية، مستقلة عن كل شخص، وكيف يراها ويؤولها، أمّا إذا رآها كما هي، فيلتقي الذاتي والموضوعي
البشر متعدّد حتى أنك لا تجد بصمة إبهام مثل أخرى، منذ تاريخ الخلق إلى اليوم. وفي العلم الحديث لا تجد بصمة عين، أو بصمة صوت مثل أخرى، في الحالتين.
أمّا في العمل الإنساني، أو الممارسة الفردية، فلا يمكن أن يوجد بينها تساوٍ، فالفارق فالق وحارق. فالخير خير والشر شر، وإذا تداخلا في واحد من البشر، فلا بدّ من رؤية الازدواجية. ولا بدّ من التفريق بينهما، وفرزهما عند التعامل السليم. ومن ثم إعطاء كل جانب حجمه من “خير” ومن “شر”، قد يوجدا في إنسان واحد.
إن الخير والشر هنا لا يقتصران على التعريف الأخلاقي، أو الديني، أو ما اتفق عليه العرف العام، وإنما يمتدان إلى عالم الممارسة العسكرية والسياسية والمالية والاجتماعية والاقتصادية. ولعل عالمنا المعاصر أشدّ حاجة إلى عدم المساواة بين الأعمال، أو اعتبارها مثل بعضها بعضًا. فاختلاف الأعمال تُقرأ بوجود حقيقة موضوعية، مستقلة عن كل شخص، وكيف يراها ويؤولها، أمّا إذا رآها كما هي، فيلتقي الذاتي والموضوعي.
حقاً إن التفريق بين خير وشر، أو التمييز في داخل ما هو خير، وما هو شر، ليس مقتصرًا على البُعد الأخلاقي فحسب، وإنما هو حاجة أشدّ من الناحية السياسية والاجتماعية والممارسة الإنسانية بعامّة.
هذا التفريق، في بعده السياسي والاجتماعي والفلسفي، ليس إقحامًا لبُعد هو من اختصاص عالم الأخلاق والدين، أو تطفلًا عليهما، أو اعتداءً على الأهمية الأخلاقية من حيث أتى أصلًا. على أن أهميته في الأبعاد السياسية والاجتماعية والفلسفية، وحتى العسكرية، لها تأثير، ينبع من أثره السلبي والإيجابي في الشأن العام. وذلك أكان على مستوى الحياة المعيشة، أم على مستوى الخير العام والرفاه العام، أو الخراب العام، كما على مستوى حياة البشر وتدميرها.
إن الذين يساوون بين الأعمال، لا يعود يهمهم، إن اعوَجّ المرء، أو استقام. إن خدم الطغاة أو ظلم. لكن بني البشر يحتاجون لأن يفرقوا بين القاتل والمقتول، والظالم والمظلوم، أو بين عدالة حروب التحرّر الوطني، ولا عدالة حروب الغزو والاستعمار. فشتان بين الحرب العادلة، والحرب غير العادلة. وشتان بين أن تكون مع فلسطين، أو تكون مع الكيان الصهيوني. وشتان بين أن تكون مع غزة ومقاومتها وشعبها، أو تكون مع مرتكبي جريمة إبادة المدنيين، وتدمير العمران. فلا تكون ممن يغطون فعلهم هذا، بأي سبب من الأسباب خارجة عن طبيعة الفعل نفسه.